عاجل
الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
أمي.. الكبيرة التي يحبها الجميع

أمي.. الكبيرة التي يحبها الجميع

بقلم : عبدالجواد أبوكب

رغم أن مسقط رأسى فى سوهاج -قرية العوامر قبلى- التابعة لمركز جرجا، كانت تسمى بلد العلماء ومُيزت عن غيرها فى أوائل القرن الماضى بأن أنشئت فيها مدرسة فى زمن الكتاتيب بالنسبة لقرى مصر كلها، وكان ذلك عام 1910، ومع ذلك كانت التقاليد والعادات سبباً فى إخراج أمى من المدرسة بعد أسابيع من التحاقها بالصف الأول الابتدائى.
 
لكن تلك السيدة التى لم تكمل تعليمها أشرفت على تعليم جيل بأكمله بلغ عدد من إستطعت حصرهم فيه نحو 54 من أبناء العمومة والأقارب والبلدة، وكانت جلستها أمامنا بكل ثقة ونحن نذاكر كافية تماماً لتشعرنا بأنها تتفوق على علم أحمد زويل ومجدى يعقوب معاً، وخوفاً من العواقب كنت وأبناء عمومتى وزملاؤنا من أطفال القرية نكاد نأكل الكتب حتى ترضى، ولم تكن حجة قطع النور تصلح معها، فاللمبة الجاز التى يعرف دخانها طريقه جيداً للأنف والعيون كافية تماماً للإضاءة اللازمة للمذاكرة من وجهة نظرها، وإن لم تكن فعمود النور فى الشارع، وعلمتنا ألا نسمح لأحد بأن ينتزع منا أوكسجين الموهبة وحصاد الاجتهاد.
 
لم أشعر يوماً أنها أمى وحدى، لأنها كانت أماً للجميع، فقذ تكفلت بتربية إخوتها رغم وجود والدتها، لكنها عشقت أداء هذا الدور تاركة لوالدتها مهام «شيخة العرب» حيث كانت «الحاجة إنصاف» جدتى لأمى عمدة حقيقية وصاحبة واجب، معروفة بالاسم بين غالبية عائلات الجنوب فى سوهاج وقنا وحتى دراو فى أسوان.
 
وفى هذا الزخم الكبير من احتواء الجميع نشأت، كانت أحاديث الخال عبدالرحمن الأبنودى عن والدته تشبه حواديت المساء التى كان لها فعل السحر، وبدأت معها أتابع أمى بمنظور مختلف كما فعل الخال، ومع مرور الوقت وأنا أتابع أمى اكتشفت أنها ليست مجرد سيدة من الصعيد لكنها مثقفة من طراز رفيع، تحفظ غالبية أمثال الصعيد وتراثاً كبيراً من العدودات وأشعار المناسبات الشعبية، وكانت تدندن بها أثناء خبز العيش الشمسى، وتحولت مع الوقت إلى مركز خدمات طبية بعدما علمها والدى الإسعافات الأولية، وكانت مقصداً للجميع.
 
وعندما سافر والدى إلى بعثته فى الخارج بدأت تلعب دور الأب والأم معاً، وكانت جبلاً راسياً يحاول صنع جيل صالح من الشباب، وحرصت دائماً على أن تنادى كلا منا أنا وأقرانى بأسمائنا مسبوقة بلقب «أستاذ» بمجرد دخولنا الثانوية العامة، وحرصت أن تعلمنا أداء الواجب فى الفرح والحزن، فصرنا رجالاً وتغربنا فى داخل مصر وخارجها لكنها تظل صاحبة لمتنا فى المناسبات.
 
وهى الطيبة التى تحب عمر طاهر وسامى عبدالراضى وعلى خضير، لكونهم أصدقائى فقط، وتسأل عنهم دون أن تقابلهم، وتشاهد جابر القرموطى لأنه يحمل بعض ملامحى، وتحرص فى كل مكالمة أن تسمى من تعرف من أصدقائى لأبلغهم سلامها، وإذا حضرت هى فمعنى ذلك أن خير الصعيد كله قد حضر، ولا أذكر مرة جاءت فيها وانقطعت فيها زيارات الزملاء والأحبة لينالهم من رضاها وولائمها العامرة أيضاً.
 
وأذكر أنى أخبرتها ذات يوم فى إحدى زياراتى أننى أشعر بأننى سأموت وصليت ودخلت للنوم، واستيقظت فى اليوم التالى لأجدها تبكى منذ الأمس، وبعدها بسنوات شعرت أنها ستموت فحضرت للقاهرة وهى فى أشد حالات المرض، وعندما عاتبتها فى غرفة العناية المركزة بمستشفى عين شمس قالت لى «أنا جيت أسبق الموت علشان أشوف ولادك عمر وملك وبعدها مفيش مشكلة احنا الموت ميخوفناش».
 
ولأنها التى تقهر المرض وتتحدى الموت وتحب الجميع، كنت وما زلت وسأظل طوال عمرى أخجل من أمى «كبيرة الصعيد» لأنها ترانى دائماً أكبر مما أستحق، وأخجل كل لحظة من الله لأنه يعطينى أكثر مما أستحق بدعائها الذى أرانى عارياً بدونه، وببركتها التى لو خلت من حياتى لانهارت كل أركانها، منحها الله الصحة وطول العمر، وهى الطيبة المثقفة رغم أنف التفاصيل.
 



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز