عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الدعاء المستجاب .. بين الشرعية و الانقلاب !

الدعاء المستجاب .. بين الشرعية و الانقلاب !

بقلم : إيهاب الشيمي

أوراق النتيجة تشير إلى أحد أيام الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر .. الجو قارس البرودة حتى تكاد تفقد تماماً الإحساس بأناملك، فتسارع في ذعر بإخراج يداك من جيبك  لكي تستطيع عيناك التأكد من أنهما مازالتا هناك !



 

عقارب الساعة تصارع البرد الذي يغلفها لكي تقترب في إنهاك واضح من الخامسة مساءاً، بينما قرص الشمس لا هم له سوى أن تنقضي تلك الدقائق الأخيرة التي تفصل بينه و بين المغرب حتى يمكنه المغيب، و التوجه لمكان آخر قد يجد فيه الدفء الذي امتصته كل تلك السحب القطنية الناصعة البياض التي زاحمته و احتلت فضاء السماء الرحب بالكامل، لتحرم الحرارة من كل أمل لها في الهروب و التسلل لأجساد أولئك الذين يتطلعون للشمس في لهفة بينما تحولت هي إلى مجرد دائرة برتقالية اللون تحافظ على القدر اليسير من هيبتها المتبقية في الأذهان.

 

ها هما قدماك تسرعان الخطى و كأنهما تحاولان الهروب بك من ذلك الشئ الذي يتتبعك، و الذي تكتشف بعد بضع خطوات أنه ليس سوى ذرات الهواء التي تحملها الرياح الباردة لتخترق في سهولة صادمة كل تلك الطبقات التي التحفتها فوق جسدك، ها أنت ذا تسابقها لكي تستطيع دفع ذلك الباب الحديدي الضخم الذي يتوسط مدخل تلك البناية الضخمة التي احتلت ناصية ذلك الشارع الهادئ في أحد احياء القاهرة القديمة .. ها أنت ذا تقاوم ذلك التيار الهوائي القوي محاولاً غلق الباب خلفك بينما أغلقت عينيك مخافة أن تتجمد مقلتيهما .. ليدوي فجأة صوت اصطدام معدني معلناً نجاحك في إغلاق الباب ليسود الصمت كل شئ من حولك. ليس أمامك الآن سوى صعود تلك الدرجات الرخامية اللامعة لتصل إلى وجهتك.

 

ها هو الهدوء يتبدد شيئاً فشيئاً كلما ارتقيت أنت درجة من درجات السلم الخمس متجهاً إلى ذلك الباب الخشبي الذي يتوسط ردهة مدخل البناية، العديد من الأصوات يتهادى إلى مسامعك مختلطة بضحكات ترسم لك مشهداً مليئاً بالبهجة تستطيع أن تراه حتى قبل أن تقرع جرس ذلك البيت الذي يفوح منه عبق الأصالة و الكرم و المودة ليغمر الدفء جسدك مع أول خطوة تخطوها داخله.

 

يمكنك على الفور من بين كل من ازدحمت بهم غرفة الاستقبال تمييز تلك الابتسامة الصافية التي علت ذلك الوجه الملائكي الجميل لصاحبة المكان التي دخلت لتوها العقد السادس من العمر بينما أخذت عيناها تجولان في أنحاء المكان لتحتفيا بسعادة لا يمكن إغفالها بكل من جاءوا من أجلها. 

أخيرا يمكنها أن تستمتع باستعادة طعم السعادة الذي افتقدته منذ وقت ليس بالقصير، فلقد كانت الفترة الماضية عصيبة بكل ما تخللها من اضطراب سياسي و عنف أهلي امتد ليؤثر على عائلتها بالضرورة، فهي مازالت تشعر بوخز قلقها على بناتها و أحفادها الذين كانوا يمرون يوميا على مناطق التوتر، و مازالت أذناها تسترجع بسهولة اصوات طلقات الرصاص التي كانت تخترق سكون الليل أثناء ساعات حظر التجول لتقتلها مخاوفها من احتمال وجود أحد أحبائها في الشارع، و ما زالت عيناها تتذكران كل تلك الدماء و كل ذلك العنف الذي ملأ شاشات الفضائيات التي نقلت عدساتها إضطراب الشارع المصري إلى داخل بيتها الهادئ.

 

و لم تكد هي ترى ذلك الخيط الموصول من الهدوء و السعادة و الطمانينة و البهجة من حولها حتى سارعت في لهفة واضحة لالتقاطه لينقذها من تلك الهوة المظلمة من الكآبة التي قبعت فيها طوال الفترة الماضية.

 

ها هي تستقبل جميع من جاءوا ليهنئونها بسفرها لأداء فريضة عمرة المولد النبوي و لقاء الحبيب المصطفى لتبوح له بمخاوفها و آلامها و آمالها، و تطلب منه الشفاعة و من ربه المغفرة و الرحمة و حماية الوطن و كل من تحب.

و لم تستطع كعادتها أن تحصر تلك المشاعر التي تنتابها في شخصها فقط، فبدأت في سؤال الجميع عما يريدونها أن تدعو لهم به في "الروضة الشريفة"، فتحقيق آمالهم هو منتهى أمانيها، و سعادتهم هي كل ما أفنت عمرها من أجله.

 

ها أنت ترى كل من له حاجة و قد اقترب منها ليهمس لها بما يريد فتجدها و قد امتلأت عيناها بالدهشة تارة، أو انفجرت في الضحك تارة أخرى، بينما اشتركت جميع المشاهد في نهايتها حيث تتغلب الدموع و الأحضان الحانية الرقيقة على كل ما سواها من ردود الأفعال تجاه طلبات الدعاء المختلفة.

 

و في غمرة استمتاعك بالمشهد،  يفسح الجميع المكان لتتقدم نحو مضيفتك سيدة أخرى من العائلة تصغرها في العمر بعدة سنوات و قد علت وجهها ما قد تصنفه أنت على أنه .. "ابتسامة على استحياء" !

 فجاة يتداعى إلى ذهنك كل ذلك الاختلاف بين السيدتين في وجهات النظر حول ما حدث و ما يحدث في مصر، و ما تراه كل منهما حول مسئولية طرف دون آخر عن كل تلك الدماء التي سالت، و كل ذلك الانتهاك للسيادة الوطنية الذي شهدته مصر منذ تولي تيار الإسلام السياسي للسلطة و حتى سقوطه، و لكن بالرغم من كل شئ فلم تستطع صاحبة المكان إلا أن يتههل وجهها فرحاً لتستمع إلى ما تريدها هذه السيدة أن تدعو لها به في بيت الله الحرام، فهي من طالما أحبتها، و من طالما اعتبرتها بمثابة الأخت الصغرى منذ تزوجت أخاها الأصغر.

 

في صمت بدأت الصغرى الحديث بتحفظ شديد لا يعكس عمق العلاقة بينهما، قائلة: "أنا عايزة أأمنك أمانة يا حبيبتي و توعديني تنفذيها و إن ماعملتيهاش يبقى انتي مابتحبنيش" ..

و هنا ردت بتلقائية شديدة : "من عينيا يا حبيبة قلبي .. اطلبي اللي انتي عايزاه" ..

 فاعتدلت الصغرى في جلستها و قد زادت ثقتها في تنفيذ طلبها و أكملت حديثها قائلة: "أنا عايزاكي و انتي في الحرم ترفعي إيدك للسما و تدعي من ربنا من قلبك ينتقم من السيسي و كل اللي أيدوا الانقلاب على الرئيس مرسي ربنا يفك اسره"  !!

 

لم تستطع الأولى أن تكتم هول صدمتها فجحظت عيناها في ذهول من ذلك الطلب الغريب ..

كيف امكن لتلك السيدة اختزال كل امانيها من الله في الرغبة في الانتقام أياً كانت الأسباب ؟! ..

كيف امكن لتلك السيدة اختزال عظمة المشهد و روحانية اللحظة و جلال الموقف و عبقرية المكان ليصبح مجرد مكان آخر يمكنها من خلاله الاستمرار في تأييد طرف دون آخر في العملية السياسية، بل و ما قد يتجاوز ذلك في ذهنها المشوش ليشمل رفع شعارهم الأصفر الأحمق في المشاعر المقدسة ؟! ..

و يبقى التساؤل الأهم،  و هو كيف امكن لتلك السيدة اختزال علاقتهما التي استمرت لكل تلك السنوات في تنفيذ ذلك الطلب أو قطع كل صلة بها ؟! ..

 

استعادت صاحبة الوجه الملائكي رباطة جأشها في سرعة ثم ردت عليها في صوت هادئ قائلة: " أنا مش رايحة لربنا عشان أدعي على حد، دة مكان ندعي فيه للكل بالهداية و الصلاح و لمصر بالأمن و التقدم .. مش مكان لزيادة الكراهية و الحقد .. أنا آسفة مش هقدر اعمل اللي انتي عايزاه"

و هنا تحولت ملامح الصغرى إلى التجهم الشديد و ردت في حدة واضحة: " و انتي مالك؟! هو دعايا انتي و الا دعاكي انتي؟!!  انتي تدعي اللي أنا عايزاه مش اللي انتي عايزاه و لازم تكوني عارفة إن ربنا مش هيقبل العمرة من ناس ضد الشرعية و مع الانقلاب"

 

لا أجدني عزيزي القارئ في حاجة لإكمال القصة، فما أريده منها قد وصل بالتأكيد إليك، فلقد وصلت هذه السيدة و كل من هم على شاكلتها لمرحلة من الإقصاء و انعدام القدرة على رؤية الآخر إلى الحد الذي اقتنعوا معه بحقهم في فرض ما يريدون على الآخرين حتى في الدعاء، بل و الحق في استخدام أعظم موقف يجمع العباد بربهم لكي يروجوا لمطامعهم السياسية و نفي تقبل الله للعبادة من خصومهم السياسيين، ناهيك عما يتخلل ذلك من إرهاب عاطفي يستغلون من خلاله مشاعر حب الاخرين لهم لفرض ما يريدون عليهم.

 

ما أطلبه منك هنا فقط عزيزي القارئ، هو ألا تترك الكراهية لتتملك منك لتصل بك إلى ما وصل إليه هؤلاء لتتحول في النهاية إلى مسخ لا يرى من الكون إلا نفسه و من هم على شاكلتها، فحب الوطن لا يستقيم معه كراهية الآخرين، بقدر ما يتطلب البحث عن وسائل تردهم إلى الصواب، و تبصرهم بحقيقة الأمور، و تمنح الجميع الفرصة من جديد ليدركوا الفارق بين من يسعى لمصلحة مصر و وحدتها و استقلالها، و بين من يريدون لها الانقسام و التشرذم و التبعية.

 

حفظ الله مصر و أهلها و هدى الجميع إلى سواء السبيل.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز