عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
اعيدوا صوت الرباب الي السميعة

اعيدوا صوت الرباب الي السميعة

بقلم : د. عصمت نصار

اجمع اللغويون والحكماء من البلغاء والفلاسفة علي ان الاديب المتمكن والخطيب المفوه والعالم الرصين ، هو القادر دون غيره علي تصنيف اقواله علي نحو يتوائم مع طبائع مستمعيه وثقافتهم ومقدار درايتهم، لذا نجد اهل الدربة والدراية من اولئك وهؤلاء قد برعوا في تقسيم ابحاثهم واحاديثهم وكتبهم مكتوبة  كانت او شفهية الي ثلاثة اقسام ( برهاني – جدلي – وعظي ) فاذا كان الخطاب موجه الي الصفوة من المتخصصين، جاء اسلوبهم مفعم بالمصطلحات الدقيقة التي يتميز بها الاسلوب العلمي والفلسفي البرهاني ، واذا كان الحديث موجه للمثقفين من غير المتخصصين، كان الحديث اقرب الي الجدل والمناقشة والتحاور والتساجل ، اما اذا كان الخطاب موجه الي الجمهور فنالف العبارات سهلة ميسورة والافكار واضحة ومباشرة ، لا رمزولا غموض فيها  ، والامثلة عديدة في تراثنا العربي ، وكذا في كتاباتنا الحديثة ( دون المعاصرة ) ، فهاهو الجاحظ يكتب ( الحيوان) ويسرد حكايات ( البخلاء) ويحاور في المجالس ويحادث الناس في الطرقات . ويكتب الغزالي عن ( تهافت الفلاسفة)و( الجام العوام عن علم الكلام ) ثم يخاطب البسطاء في ( احياء علوم الدين) . ويسكب  ابن طفيل افكاره في قالب قصصي شائق ، ويصنف احمد فارس الشدياق كتابا مطلسما ( الساق علي الساق) ويضمنه اربع مقامات تجمع بين الفكاهة والمسامرة والنقد اللاذع  في سياق واحد   ، ويحرر ادب الرحلات في ( كشف المخبي ) ويدبج المقالات في صحيفة ( الجوائب ) . ويكتب الشيخ محمد عبده ( رسالة التوحيد) ويعقد الجلسات في بيته لمناقشة تلاميذه، وحلقات في المساجد والمقاهي ( البوسطة – متاتيا ) لمخاطبة العوام .



 وعليه يمكننا تقسيم الموهوبين في مخاطبة الراي  العام الي ثلاثة ضروب او مراتب :- اولها يمثلها المبدعون او اصحاب المشروعات النهضوية   ، وهم الذين يهدفون الي التواصل مع المتلقين علي نحو يمكنهم من نشر افكارهم وتحقيقها علي ارض الواقع ( التجديد – التحديث- الثورة ) ، ولا سيما اذا كانوا من المهمومين بقضايا مجتمعهم ومشكلات امتهم . ويمثل الطبقة الثانية : الموهوبين من الاتباع والتلاميذ المخلصين في تطبيق خطط اساتذتهم وتحقيق غايات قادتهم بعد توحدهم معها من فرط قناعتهم بها ،ومن امثلة اولئك يعقوب صنوع( ابو نظارة) وعبد الله النديم ، وكلاهما قام  بالترويج لافكار جمال الدين الافغاني وتهيئة الجمهور للقيام بثورة مؤيدة لاحمد عرابي ضد الملك والانجليز معا، ثم ياتي بيرم التونسي ليصلح من شان المجتمع وعوائده ويعمل في الوقت نفسه علي نزع الياس من صدور المصريين وبعث الامل فيهم من جديد  ،ويمضى العقاد وطه حسين فى مناقشة قضايا الادب والفلسفة ويكتب الاول مئات مقالات التنوير ويؤلف الثانى عشرات القصص لتقويم عوائد المجتمع، ويهب سيد درويش ليوقظ العوام باغانيه الحماسية ويحرض كل الطوائف علي مناصرة سعد زغلول ، ثم نري صلاح جاهين وكوكبة من الشعراء والفنانين يؤيدون ثورة 23يوليو ويعملون ايضا علي تحقيق اهدافها، وانقاذ الجمهور من السقوط في اوحال الياس بعد نكسة 67 ، حتي جاء النصر في 73 فاحتفوا به واشعلوا حمية الشعب للبناء.

ويلاحظ علي هذين الضربين العديد من الامور التي مكنت روادهما من التلاحم و التواصل مع الجمهور ، نذكر منها الاخلاص والعمل المستمر من اجل تحقيق الفكرة اعتمادا علي قانون( التحدي والاستجابة)، تفهمهم ووعيهم بطبيعة المتلقي ( التنكيت والتبكيت – النزعة الساخرة والتهكم علي الذات وفلسفة التحايل)، سهولة لغة الخطاب( خاطبوا الناس علي قدر عقولهم) ، تحاشي الصدام مع الدين والراسخ من العادات والتقاليد، وذلك كله مانفتقر اليه في جل خطاباتنا الثقافية والاعلامية والفنية المعاصرة  ، الامر الذي كان وراء انقطاع الاتصال وتشتت العقل الجمعي .

اما ثالث هذه الضروب فيمثله ارباب الايدلوجيات والافكار الوافدة وتجار الكلمة ومحترفي تزييف الوعي والمتملقين للسلطة وخدام من يدفع الثمن، وكان ظهور هؤلاء مواكبا للسقوط وضعف المنابر وغيبة القادة، وقد كشفت الاحداث الاخيرة عن معظمهم، وقد فجع الجمهور من رؤية وجوههم بعد ان سقطت عنها الاقنعة ، واضحت لغة الكذب والتضليل والتهوين والتهويل هي ديدنهم، فمعظم شيوخ الازهر لم يصبح له نفس الاثر الذي كان يقنع الجمهور بصلاح الراعي، ولم يفلح كذلك في اصلاح مافسد من اخلاقيات وعوائد وسلوك المجتمع، ذلك فضلا عن تخليه عن الوعظ والدعوة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الامر الذي دفع العديد من العصابات( الاخوان- السلفيين- الجماعات الجهادية) الي الاستيلاء علي منبره والقيام بدوره، وقد مكنهم من ذلك سوء الاوضاع الاجتماعية  والسياسية والاقتصادية وفساد النخبة وتعالي المثقفين وذيوع التطرف وظهور الجماعات الجامحة المناهضة للاديان، وتفشي الجهل بين الطبقات الكادحة، ولا غرو في ان ارتدائهم عباءة رجالات الدين وسلاسة اساليبهم في - الوعظ وادعائهم بان الاسلام هو الحل ، وان خلاصهم في اعادة الخلافة التي سوف تمكنهم من القضاء علي كل اعدائهم وذلك عن طريق الجهاد الاكبر ومناهضة المجتمعات الكافرة العلمانية والصليبية- هو الذي اطاح ببقايا المنابر المعتدلة في البيئة الثقافية المصرية واقام عوضا عنها الكثير من المحافل الموالية للغرب، وعلي الرغم من قلتها الا ان اصوات اصحابها العالية ساعدت في تشويش الجمهور وخداعه.

اما صوت الرباب الذي نحذر من غيابه فيتمثل في خطاب بعض الاعلاميين والدعاة الشرفاء والمستنيرين من فلول الطبقة الوسطي- علي حد تعبير الاخوان- اولئك الذين نجحوا في مخاطبة الراي العام واعادة الثقة في القيادات الجديدة التي انقذت مصر من النيران التي شبت من حولها و لم تنطفئ بعد، والدماء التي مازالت تسفك علي يد تلك العصابات الارهابية. ويميز هذه الصفوة علي قلتها هو  حرصها علي مخاطبة العوام او الجمهور بلغة تستوعبها اذهانهم التي ارهقها الزيف والخداع واضلها تجار الكلمة.الامر الذى يبرر صيخات الجمهور ( حزب الكنبة والجالسي على المصاطب) .

اعيدوا توفيق عكاشة لمقامه فوق منبر الفراعين ، ليمسك ثانية بربابته التي زلزلت مخادع وقلاع من نطلق عليهم ( عصابات الاسلام السياسي )، وكيف لا وقد احي باحاديثه- وان اختلفنا معه حول بعض مضامينها وماتحويه من بذاءات احيانا – سنة حكائي المقاهي ورواة الملاحم الذين ايقظوا العقل الجمعي من ثباته ، واستنفروا عزائم الشباب بعد قعودهم.

والسؤال المطروح: ألا تستحى نخبنا من لجاجتهم وصلفهم وتعاليهم الذى حال بينهم وبين الشارع أقول لهم تعلموا العزف على الرباب وكفوا عن تكالبكم على اعتلاء المنابر والاستيلاء على الكراسى بغير استحقاق ، غنوا للشعب لتثقفوه بترانيم الحب والعمل وساعتها نصفق لكم ونرفعكم على الاعناق.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز