عاجل
الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الذئب البريء!
بقلم
محمد نجم

الذئب البريء!

بقلم : محمد نجم

منذ صغرى وأنا لا أستطيع مقاومة سماع المرحوم عبدالباسط عبد الصمد بجماليات صوته الممتع، وخاصة فى سورة يوسف.. تلك التى وصفها القرآن الكريم بأحسن القصص التى أوحى بها الله على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.



فقد كان يوسف وأخوته.. آيات للسائلين، حيث نجا الغريق، وبُرئ المظلوم، وخرج السجين، وشُفى المريض، وعاد الغائب، وتحققت الرؤيا..

لقد عانا يوسف كثيرًا فى طفولته وفى شبابه.. من كره أخوته، ومن ظلام البئــر، ووحدة السجن، وكيد النساء، ثم كانت الجائزة الكبرى.. بعد الصبر الجميل.

هكذا يجتبى الله أنبياءه.. ويعدهم للرسالة.. حيث يعلمهم تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليهم.. فسبحانه هو الغالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

لقد تآمر إخوة يوسف عليه.. حيث اعتقدوا أن أباهم يفضله وأخاه الأصغر عليهم.. مع أنهم الأكثر عددًا والأكبر سنًا.. فأبوهم بذلك غير عادل بل فى ضلال مبين.. أفلم يعلموا أن قلب الوالدين يهفو مع المريض حتى يشفى والصغير حتى يكبر والغائب حتى يعود.. وقد كان يوسف صغيرًا ويتيمًا فقد توفيت أمه مبكرًا، ولكن النفس أمّارة بالسوء..

وقد تداولوا فيما بينهم كيف يتخلصون من يوسف حتى يخلو لهم وجه أبيهم، أى لا ينافسهم أحد فى محبته لهم، ومنهم من اقترح قتل يوسف أو إلقاءه فى مكان بعيد.. حيث يأكله حيوان مفترس، أو صحراء يتوه فيها ويموت وتغطى الرمال جسده.

ولكن أكبرهم وكان أكثر حكمة.. نهاهم عن ذلك وأمرهم أن يلقوه فى قاع البئر وقد تلقتطه إحدى القوافل المارة على المكان فتأخذه وتذهب به بعيدًا.. ويتحقق بذلك ما يريدون.

المهم أنهم اتفقوا على فعلتهم وخططوا لتنفيذها مع الوعد - لأنفسهم - أنهم يصبحون بعد ذلك قوما صالحين!

ثم نبدأ قصة الذئب البرىء.. والتى اتخذت «مثلا» بعد ذلك عندما لا تكون الواقعة صحيحة والكذبة غير مساوية!

فقد ذهبوا إلى أبيهم يلحون عليه بأن يسمح ليوسف فى الخروج معهم وهم يرعون فى البرية.. حيث يمكنه أن يأكل ما يريد ويجرى ويلعب كما شاء.. وتأمل معى الصيغة القرآنية الجميلة لهذا الإلحاح: « قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».

ولكن الأب الحذر الذى سبق ونصح ابنه الصغير بعدم إخبار أخوته برؤياه «أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر له ساجدين».. حتى لا يكيدوا له.. فالشيطان لا يترك الإنسان ضعيف الإيمان فى حاله.. بل هو عدو واضح له.

وقد كشف الأب عن تخوفاته.. ففضلا عن حزنه على مفارقة يوسف لصغر سنه ويتمه.. فقد حذّرهم أن «يأكله» الذئب وهم مشغولون عنه بلعبهم أو رعيهم لأغنامهم.. «قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ».

ولكنهم تبجحوا فى ردهم.. كيف يحدث ذلك ونحن كُثُرْ وأقوياء.. أى «عُصبة»، وإن حدث ذلك فنحن لا نستحق أن نعيش.

هنا تقول بعض التفاسير أن نبى الله يعقوب يعلم أن الذئب كائن ليلى ينام بالنهار ويصطاد فرائسه فى الليل، كما أنه نادرًا ما يأكل اللحم الآدمى.. ولماذا يهاجم يوسف ويفترسه وأمامه كل هذا «القطيع» من الغنم والإبل والدواب؟! ومن ثم كان ذلك بمثابة «إيحاء» لهم لما سوف يدّعون.. لأنه يعلم أن كل شىء مكتوب ومقدر وأن ولده سوف يكون له شأن كبير.. كما أوحت بذلك رؤياه التى رآها فى منامه والتى نهاه يعقوب نفسه عن إخبار أخوته بها.

وسبحان الله.. هذا ما حدث فعلا.. وما سوف تفسره الآيات القادمة.. فبعد أن أجمعوا رأيهم على أن يلقوه فى قاع البئر.. أوحى الله إليه ألا يخف وأنه ناج من تلك الكبوة.. وسوف يخبرهم عن ذلك فيما بعد.

أما إخوته فقد عادوا إلى أبيهم فى المساء يبكون وهم يخبروه.. كذبا» بأنهم ذهبوا ليتسابقوا مع بعضهم فى الجرى والرمى بالنبال، وتركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب!

وانظر هنا إلى الكذاب عندما يغالط.. حيث يبدأ بالهجوم بدلا من الدفاع.. فقد قالوا لأبيهم «وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ».. بمعنى أننا نروى لك ما حدث ونعلم أنك لن تصدقنا فى كل الأحوال!!.

ألا تعلموا أنكم جئتم بدليل كذبكم معكم.. «وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ» وهو كذب من عدة وجوه.. فالدم الملطخ به القميص ليس دم يوسف وإنما دم شاه ذبحتوها لهذا الغرض، ثم إذا كان الذئب قد أكل يوسف.. أفلم يترك منه شيئا؟!، وهل يمكن أن يهاجم الذئب يوسف ويترك قميصه سليما غير ممزق؟!

هنا تأتى الإجابات الحاسمة على لسان أبيهم بعد أن تأكد من كذبهم.. وأنهم لم يقتلوا يوسف وإنما غيّبوه.. وليس أمامه غير الصبر والاستعانة بالله على ما يدعوه.. حيث تقول الآيات: «قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ».

***

المهم أنهم بعد أن ألقوه فى البئر العميقة المملوءة بالماء تمكن يوسف - بفضل الله - من البقاء على قيد الحياة لمدة ثلاثة أيام كما يقول المفسرون.. إلى أن جاءت قافلة من الشام متجهة إلى مصر.. واستراحوا فى المكان ليتزودوا بالماء وأرسلوا أحدهم، فأسقط دلوه «الجردل» فتعلق يوسف بالحبل.. فاستبشر الرجل بما رآه حيث عثر على غلام اعتبره بضاعة.. وعند وصولهم إلى مصر باعوه فى سوق الرقيق بأبخس الأثمان.. فقد كانوا حريصين على التخلص منه بسرعة قبل أن يظهر أهله ويأخذوه منهم.

وقد وصفت الآيات ما حدث فى جملة بديعة: «وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ».

مع ملاحظة أن كل ذلك معلوم ومعروف مسبقا، فالله محيط بكل شىء.. وهكذا تؤكد الآية «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ».

***

وبقية القصة معروفة حيث اشتراه عزيز مصر «وزير الفرعون» وأوصى زوجته به لعلهم يتخذوه ولدًا.. فقد كانت زوجته عاقرًا لا تلد، وينتهى هذا الجزء من القصة بقوله الله تعالى: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ».

وأيضا.. عندما بلغ مرحلة الشباب أعطيناه العلم والحكمة.. لأن هذا جزاء المحسنين الذين اختارهم الله كأنبياء ورسل.

ونختم بالآية الجامعة المفسرة لكل ما حدث.. «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ». صدق الله العظيم

نعم لقد كان فى القصص القرآنى عبرة لأولى الألباب وتصديق لنبينا محمد، وتفصيل لكل شىء وهدى ورحمة لعلكم تعقلون.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز