عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
اضبط «نجيب محفوظ» رقيبا!

اضبط «نجيب محفوظ» رقيبا!

بقلم : رشاد كامل

كان آخر ما يخطر على بال أستاذنا الأديب الكبير نجيب محفوظ، أن يشغل منصب «مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية» فى أواخر عام 1959، فى زمن وزير الثقافة اللامع والمحترم  د. ثروت عكاشة.



كان أول ما فعله نجيب محفوظ أنه اعتزل كتابة السيناريو حتى لا يتعارض ذلك مع طبيعة منصبه، مضحيا فى ذلك بدخل مالى كبير كان يحصل عليه من كتابة سيناريوهات الأفلام، وكان قد حصل على مبلغ مائة جنيه نظير كتابة سيناريو فيلم «عنتر وعبلة» إخراج الأستاذ «صلاح أبوسيف»!


فى ذلك الوقت كان «نجيب محفوظ» قد قام بتوقيع عدد من العقود لكتابة سيناريوهات مع بعض المنتجين، فاتفق مع د. عكاشة حتى يتخلص من الحرج أن تتم إحالة هذه السيناريوهات إلى الأديب الأستاذ عبدالمنعم الصاوى وكيل وزارة الثقافة! ولم يكتف بذلك بل قرر قطع صلته بالمنتجين ولم يعد يبيع لهم قصصه إغلاقا لباب المجاملات!.. كان قبول «نجيب محفوظ» لهذا المنصب علامة استفهام كبيرة لأصدقائه وقرائه، فكيف يكون رجلا يدعو للحرية وينادى بها ويتخذ من الديمقراطية شعارا ثابتا له، ثم يرضى أن يكون رقيبا على الفن ويحد من حرية الفنانين!


يقول «نجيب محفوظ»: ولكى أزيل علامة الاستفهام الكبيرة أقول: إن الرقابة كما فهمتها ليست فنية ولا تتعرض للفن أو قيمته ووظيفتها ببساطة هى أن تحمى سياسة الدولة العليا وتمنع الدخول فى مشاكل دينية قد تؤدى إلى الفتنة الطائفية، ثم المحافظة على الآداب العامة وقيم المجتمع وتقاليده فى حدود المعقول، وفيما عدا ذلك يحق للفنان أن يقول ما يشاء ويعبر عن نفسه بالأسلوب الذى يراه مناسبا.


 • عجائب وطرائف
استمر «نجيب محفوظ» حوالى عاما ونصف العام فى منصبه، شاهد ولمس عن قرب عجائب وغرائب وطرائف ومهازل أيضا رواها فى مذكراته التى رواها للكاتب الكبير الأستاذ «رجاء النقاش» وصدرت فى كتاب «نجيب محفوظ» صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته. (صدر عام 1٩٩8)..


يقول نجيب محفوظ: أثناء عملى حاول البعض أن تمتد الرقابة إلى الفن وتتدخل فى مضمونه، ولكنى قاومت هذه المحاولات وطوال الفترة التى أمضيتها فى الرقابة كنت منحازا للفن، وفى أول اجتماع لى مع الرقباء أوضحت لهم الأسلوب الجديد الذى سأتبعه وأن الرقابة ليست قيدا على الفنان والرقيب ينبغى أن يكون صديقا للفن لا عدوا له، وإن دورنا كرقابة هو فى مساعدة شركات الإنتاج حتى لا تتعرض لخسارة مادية لا داعى لها، وبالتالى فإن أى ملاحظات فى السيناريوهات المقدمة لنا يمكن حلها بالمناقشة والحوار، مع الأخذ فى الاعتبار أن الأصل فى الفن هو «الإباحة» أما «المنع» فهو مثل الطلاق أى أبغض الحلال.


ويعترف «نجيب محفوظ» قائلا: إننى أديت من خلال عملى فى الرقابة خدمة للفن ما كان يمكن أن أؤديها فى موقع آخر!! ولم أشعر فى لحظة من اللحظات أننى أخون نفسى كأديب وفنان، بل كانت أسعد أيام حياتى الوظيفية هى تلك التى أمضيتها فى الرقابة! رغم المضايقات الكثيرة التى تعرضت لها من هؤلاء الذين لا يؤمنون بأن الرقابة يمكن أن تكون نصيرا للفن.


لقد اختلفت مع أصحاب هذه العقليات، وكثيرا ما ذهبوا - خاصة أولئك الذين تربطهم صلات مع القيادة السياسية للشكوى منى عند وزير الثقافة - د. ثروت عكاشة - وفى كل مرة يأمر الوزير بتشكيل لجنة لبحث الشكوى وفى كل مرة تنحاز اللجنة لموقفى وتؤيد وجهة نظرى، ولم تخذلنى اللجنة مرة واحدة والأمثلة كثيرة!


فعندما ظهرت الأغنية التى تقول كلماتها: «يا مصطفى يا مصطفى أنا بحبك يا مصطفى، سبع سنين فى العطارين» إلخ فوجئت بمراقب الأغانى يصدر قرارا بمنعها وكانت الأغنية تذاع فى الراديو ويغنيها الناس فى الشوارع، ولما سألته عن سبب قراره، أعطانى أغرب إجابة يمكن أن أسمعها فى حياتى إذ قال لى: إن مؤلف الأغنية يقصد «مصطفى النحاس» زعيم الوفد التاريخى، وإن سبع سنين تشير إلى مرور سبع سنوات على قيام ثورة يوليو 1952(!!) إلى هذا الحد من ضيق الأفق كانت العقليات التى تعمل معى فى جهاز الرقابة!


وفى أحد أفلام المخرج الراحل «عز الدين ذو الفقار»، رأيت حذف بعض الأغانى لأن المطربة «صباح» تؤديها بطريقة مثيرة، وألحان عبدالوهاب لهذه الأغانى كان فيها إثارة جنسية فاضحة، ولأن «عز الدين ذو الفقار» استصدر قراراً بتشكيل لجنة للفصل فى أمر تلك الأغانى، وأيدتنى اللجنة فى موقفى بإجماع الآراء، وأقرت ضرورة حذف هذه الأغانى!


 • ذكرياته رقابية
أزمة أخرى يحكيها الأستاذ نجيب محفوظ فيقول: اختلفت ذات مرة مع مدير الرقابة على الأفلام «محمد على ناصف» لأنه سمح بعرض فيلم سينمائى أجنبى يسىء إلى اليابان، وكنت أرى ضرورة منعه من العرض، فاليابان فى ذلك الوقت كانت قد وقفت إلى جانب مصر والرئيس «عبدالناصر» وساندتنا ضد الولايات المتحدة، مما وضع اليابان فى موقع الرضا والصداقة من النظام والشعب فى مصر!


واستند «محمد على ناصف» فى موقفه على العلاقة القوية التى تربطه بالمشير «عبدالحكيم عامر» وسمح بعرض الفيلم!! وفى اليوم الأول للعرض - بعد حفلة العاشرة صباحا فى دور السينما، كان السفير اليابانى فى مكتب «عبدالناصر» لتقديم احتجاج على عرض الفيلم!!


وأمر عبدالناصر برفع الفيلم فورا من دور العرض، وبالفعل لم يعرض فى حفلة الثالثة من بعض الظهر فى نفس اليوم، وحدث ارتباك لدى هذه الدور، خاصة أن الجماهير حصلت على تذاكر مما اضطرها إلى رد ثمن التذاكر وإلغاء العرض.


ويمضى الأستاذ «نجيب محفوظ» فى ذكرياته الرقابية فيقول: ظللت فى موقعى كرقيب لمدة عام ونصف العام تقريبا، وجاء خروجى منه كنتيجة من نتائج أزمة رواية «أولاد حارتنا» التى نشرتها «الأهرام» مسلسلة فى تلك الفترة! ففى مجلس الوزراء شن الدكتور «حسن عباس زكى» وزير الاقتصاد حملة على «ثروت عكاشة»، وكانت وجهة نظر «حسن عباس زكى» هى أن الدكتور «ثروت عكاشة» أسند مهمة الرقابة لرجل «متهم فى عقيدته الدينية»!.. وفى تلك الأثناء تعرضت لمواقف كان بعضها أشبه بمسرحية هزلية، ففى أحد الأيام اتصل بى مدير مكتب «كمال الدين حسين» - وزير التربية والتعليم - وفوجئت به يبلغنى لوم الوزير لأننى سمحت بعرض «أولاد حارتنا» على المسرح القومى، ولم تكن الرواية قد تحولت إلى مسرحية، واكتشفت أن كمال الدين حسين خلط بينها وبين بداية ونهاية التى كانت تعرض آنذاك بالفعل على خشبة المسرح القومى!


ويختتم الأستاذ نجيب محفوظ ذكرياته بالقول: ولوضع حد للمشاكل طلب منى الدكتور ثروت عكاشة ترك الرقابة والانتقال إلى رئاسة مؤسسة دعم السينما التى كانت تحت الإنشاء، وكانت مهمتها تنحصر فى إعادة نقابة السينمائيين ودعم جوائز السينما والاشتراك فى المهرجانات وإنتاج أفلام قصيرة ولم يكن لها علاقة مباشرة مع المنتجين السينمائيين!
وتلك حكاية أخرى!! •

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز