عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
«خرافة» السعادة و«فرحة» الانجاز

«خرافة» السعادة و«فرحة» الانجاز

بقلم : محمد مصطفي أبوشامة

يحدث أن تلتصق عبارة بشخص ما، وتأثره فيرددها دون أن يقصد في كل مناسبة، والعبارة  «الدنيا ليست محلا للسعادة، بل للإنجاز»، هي في الأصل للفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور، سمعتها للمرة الأولى من الكاتب الراحل علي سالم قبل عشرين عاما في أول لقاء جمعني به عام 1995. وقبل وفاته في سبتمبر 2015 استوقفني تكرارها في مقالاته وحواراته الصحافية والتلفزيونية الأخيرة.



بالطبع هي مفارقة أن تحمل هذه العبارة وجهة نظر علي سالم في الدنيا، والذي كانت رحلته فيها من أجل نشر السعادة والبهجة والفرحة، فقد كان أسمى ما يحلم به أشهر كُتاب الكوميديا العرب في كل مسرحياته التي كتبها تحت ستار «الضحك»، هو إسعاد الجمهور بهذه النصوص المتنوعة والغزيرة - 27 نصًا مسرحيا - والتي ظلمها النجاح الفذ لأشهرها «مدرسة المشاغبين»، التي كانت علامة فارقة في تاريخ المسرح المصري والعربي.

فكيف لكاتب يحرض على السعادة في كتاباته، أن يكون شعاره الدائم في الحياة وعن الحياة، هي أنها ليست «محل سعادة»، بل «معركة إنجاز»؟

في لقائي مع الراحل الكبير الذي جاء بعد شهور من معركته القاسية والمصيرية التي سببتها رحلته الشهيرة إلى إسرائيل عام 1994. حاولت أن أستوضح منه المعنى عندما استشهد بها في كلامه، فضحك بعد أن سحب أنفاسا من سيجارته وانطلق في حديث فلسفي لا يصل بك إلى إجابة وإنما يبحر بك في دوامات المعاني، فتغرق في عشرات الأسئلة.

وكنت وقتها - قبل عشرين عاما - أصغر فكريا من أن أباريه وأطرح عليه ما أشقاني من هذه الأسئلة، ولم يطل حوارنا الفلسفي، فقد جنحنا لما هو أكثر سخونة، وتفاصيل الرحلة إلى تل أبيب، والتي كانت سبب اللقاء، فقد جئته لأدعوه ليكون ضيفا على شباب الجامعات المصرية في ملتقاهم الفكري الأول الذي كان تحت عنوان «الصراع العربي الإسرائيلي.. سلام أم مواجهة!».

التقيت الراحل علي سالم مرات قليلة بعدها وعلى فترات متباعدة، وكان بيننا أحاديث تليفونية في الكثير من المناسبات، خاصة بعد أن جمعتنا صحيفة «الشرق الأوسط» في فضائها المتسع، كان الراحل فيها دائما بشوشا مقبلا على الحياة رغم ما يتسلل إليك من صوته، الذي تشعر أنه قادم من «أعماق اليأس»، وهو ما منعني في كل مرة أن أعود لعبارة شوبنهاور، وأسئلة ربما تأخذنا إلى إجابات مؤلمة لي وله.

لقد عرفت علي سالم الكاتب المسرحي وقرأت الكثير من أعماله المسرحية، وتابعت بدأب معظم ما نشره من مقالات، وخلصت إلى نتيجة تفسر التصاقه اللافت بعبارة شوبنهاور، وهي أنه عاش حياته على النقيض من هذه العبارة، لقد أفنى عمره يبحث عن «خرافة السعادة»، - كما وصفها في مقالاته - واجتهد في نشرها بين البشر، وأهمل الكثير مما كان يحلم بأن ينجزه، فأصبحت العبارة بمثابة خلاصة لتجربة حياته.

إن موهبة علي سالم كانت أكبر من كل ما كتبه، في رأيي أن الراحل كان مشروع «أديب عظيم» سرقته الحياة بمعاركها الزائفة وغررت به بعيدا عن طريقه الرئيسي إلى شوارع جانبية، أضاعت منه فرصة الإنجاز الذي تمناه وحلم به، الإنجاز الذي يساوي موهبته، وهي أزمة تواجه كثيرا من المبدعين، فيصلون إلى نهاية العمر، ويقفون أمام منصة التقييم غير راضين.. ومحبطين.

ليست مصادفة أن ينشر علي سالم قبل وفاته بأسابيع قليلة مقالين في «الشرق الأوسط» و«المصري اليوم»، مفتتحا كلا منهما بنفس العبارة، فالراحل يقدم العبارة في المقالين كما لو كان يتمنى أن يكون هو كاتبها، فتشعر أنها نابعة من أعماق وجدانه.

والفقرة الأولى من المقال الثاني، تختصر فلسفة صانع السعادة علي سالم في الدنيا وتمثل خلاصة تجربته ويقول فيها: «(الدنيا ليست محلا للسعادة، بل للإنجاز) الكلمات ليست لي بل لشوبنهاور. هكذا تكون عملية البحث عن السعادة بتصور أنها موجودة هناك في مكان ما علينا أن نصل إليه، خرافة من أكبر خرافات الإنسان. لا يوجد على الأرض ما يسمى السعادة وإن كان نقيضها موجودا بوفرة وهو الشعور بالتعاسة. وطلبنا للسعادة راجع لما نعرفه عنها من أنها أعظم ينابيع الفرحة. غير أن الواقع المعاش يثبت لنا أن الإحساس بالفرحة ليس ممتد المفعول كبعض الأدوية. الفرحة مجرد لحظات تعقب الإنجاز».

*من كتابي القادم «حكايات زوربا.. من شبرا»

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز