عاجل
الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
من صفحات الذاكرة ..... الشيخ هريدي

من صفحات الذاكرة ..... الشيخ هريدي

بقلم : د. أحمد الديب

عندما أتأمل سيرة أجيال قد خلت ، يتسرب إلي نفسي بعض التعجب وإن شئت قل بعض الحيرة من ثراء سيرتهم وبالغ تأثيرهم . وحين تسعفني الذاكرة وأتمكن من اجترار بعض الصور القديمة التي إنطبعت في العقل بلونيها الأبيض والأسود ، أجدني مندهشاً معجباً بسير رجال لم يسعفهم الحظ ليتلقوا تعليماً نظامياً ، تجدهم أكثر حكمة وثقافة وخبرة وتأثيراً من أجيال تالية أسعفها الحظ لتدخل التعليم النظامي من أوسع أبوابه. وهكذا كان عملاق الأدب العربي عباس العقاد الذي لم يكمل تعليمة النظامي،  ذاتي الموهبة ، فطري الذكاء واسع الثقافة، عمبق التأثير.




كان حظ جدي ،الشيخ هريدي أبو زكوية رحمه الله من التعليم النظامي يسيراً، فعوضه الله بفطرة سليمة ، وذكاء طبيعي ، وموهبة فذة في الحكم علي الأمور وإتخاذ القرار شهد بها من عاصروه بالتواتر. له من مهارات التواصل الإجتماعي ما تعجز الدورات الحديثة أن تعلمه لجيلنا . ومن اللباقة ما يدهش الخطباء الأفذاذ قبل العامة . ومن حسن استخدام لغة الجسد ما لا نستطيع اكتسابه بالتديب المكثف . ومن سرعة البديهة ما يجعلة يخرج من أحرج المواقف كالشعرة من العجين . ومن الفطنة ما يكشف له بواطن الأمور. ومن الحضور وحسن المظهر ما يجعله جليس النخب . ومن البساطة والتواضع ما يجعله جليس الفقراء .
 
حبي الله هذا الجيل بمزيجً من سرعة البديهة وخفة الظل ، يستخدمونه فيما بينهم في تعاملاتهم اليومية . أتذكر قصة طريفه ، فقد كان رحمه الله مريضاً فغاب عن مجلس أصدقائه ثلاثة أيام ، وقد كان له طقوسه في مرضه كما كان له طقوسه في أحواله الأخري . كان لا يبرح فراشة متزملاً بكل ما يجده من أغطية دون أن يكشف وجهه وكان  لا يحب الزيارات وهو في هذا الحال ، فلما علم اصدقاءه بمرضه (وكانوا يضاهونه في ذكاءه وسرعة بديهته وخفة ظله ) قرروا أن يبعثوا بأحدهم لينغص عليه الحال ويمازحه.فلما دخل عليه قال له:-


-إيه الي جايبك؟
- جاي ازورك ليك تلت أيام غايب وعرفنا إنك عيان
-وهو أنا طلبت حد يجيلي؟
-يا اخي الدين أمرنا بعيادة المريض
- أيوة صح الكلام ده وأمرنا برضة ألا نطيل الزيارة ...قوم روح.
 
 من خارج مدارس اللغة العربية، كانت اللغة العربية تمر علي لسانه مرور الماء الجاري ، لم يتعلم قواعد النحو في المدارس النظامية، ولا قواعد البلاغة ، ولم يتدرب علي فنون وأصول الخطابة قط. تراه مستنداً علي عصاه المعوجة يصدح بصوت جهوري خطيباً مفوهاً. يتقن مخارج الحروف ، واستخدام الأساليب ،إنشاءها وخبرها ، يضرب الأمثلة ويستعين بالأستعارات والمجاز. فإذا رحب كان الترحيب ، وإذا إمتعض كان الإمتعاض . كان صوته يملأ السرادقات مهللا للضيوف او محثاً علي صلح بين طائفتين . ثقته بنفسه مفرطه يقف أمام الجمهور مجلجلاً وربما لا يكون في حوزته جنيه واحدً.


من خارج كليات العلوم السياسية ، كان الشيخ هريدي رحمه الله وفدياً إلي أبعد الحدود واستمرت وفديته حتي ما بعد الثورة . كان فاعلاً في المطبخ السياسي  إلي حد كبير، ولكن من وراء ستار . قرر أن يكون من أهل الحل والربط دون ان يتصدر المشهد  .هدي بحنكته أن صدارة المشهد لا تناسبه بينما كان يدلو بدلوه في الأمر دون أن يبني عداوات لا طاقة له بها فحافظ بسياسته علي علاقات خاصة طيبة مع الجميع .كان مبدأه العام في حياته "من الحماقة أن تخسر أحداً إكتسبته ".


كان إيمان هذا الجيل في قلبه ، تراه في معاملاتهم قبل عباداتهم . كانت الحياة بسيطة والأعباء قليلة والطموح عقلاني  .متحابين إلي أبعد الحدود ، يحترمون بعضهم البعض أشد الإحترام أمام الأغراب ، أما في مجالسهم الخاصة ، فقد كانوا يطلقون العنان للإفيهات اللاذعة وتبادل النكات والتندر بالحكايات التي يرسولون بها رسائل خاصة غير مباشرة إلي أحد الحاضرين فيدخل الجميع في نوبة ضحك هستيرية.
  
وفي مجلسه الصغير المتاخم لبيته ، وحول موقد صغير ينبعث منه الدفء والنور ، رأيت زواره من كل صوب وحدب ، أعضاء مجلس أمة ، مثقفين ، وكلاء وزارة ، عمد ومشايخ . كانت الفاضلة الأستاذة فتحية سرور  وكيل وزارة التربية والتعليم بسوهاج في حقبة الثمانينيات لا تخاطبه إلا ب.... "يا أبانا الشيخ هريدي" .  كنت أسترق السمع والبصر وأنا صغير. كان الجمع رائعاً حقاً ، يتبادلون الرأي حول كل شيء في خفة ظل منقطعة النظير .ورغم أني لم أستوعب جل ما كانو يقولونه أو يفعلونه حينها إلا أني كنت علي يقين أن هذه الأحاديث كلها  ذات شأن كبير.


أما عن مواقفي الشخصية معه رحمه الله ،فالحقيقة أنني لا اذكر منها الكثير . كانت أمي تمنعني من شرب الشاي فيقول لها " شربيه شاي تقيل علشان الشاي يروح مخه " ثم يلتفت إلي ويسألني "الشاي بيروح فين" فأشير إلي راسي واقول "في المخ" فيصدع بالضحك. في موقف طريف آخر، بعد أن فرغ من سماع خطبة للرئيس السادات رحمه الله سألني "قال إيه السادات ؟" فكنت لا افهم ما كان يقول السادات إلا لزمته الشهيرة بعد كل جملة إستعداداً للجملة التالية فأجيب "كان بيقول أأأأأأأأأأ". الحقيقة أنه كان اول أسباب عشقي للسادات ليس لأنه كان يحبه بل لانه كان يصفه بالذكي الذي لا يضاهيه احد.


ومن صفحات الذاكرة ، بعض صفحات قديمة أبلي الزمن مادتها ، لكن قيمتها لم ولن تبلي ،كتبها رحمه الله بقلم كوبيا أزرق فكتب فيما كتب.... " أعظم نعمة يمنها الله علي عبده هي نعمة الستر، والستر مرتبط بالرضا ، والرضا بالكف عن حسد الناس اعلي ما آتاهم الله من فضله . فأطلبوا الستر في السراء والضراء ، والستر في النعمة والنقمة . الستر في النعمة شكرها ، وفي النقمة الصبر عليها وأن يخفيها عن عيون خلقه ". وكان رحمه الله كلما أهمه أمر من الامور ، فزع إلي الله بصوت جهور قائلاً "أستر".
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز