عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
بنها ـ الكونكورد
بقلم
رشا بكر

بنها ـ الكونكورد

بقلم : رشا بكر

الحروب تشعلها شيطانة غانية تطفئها أم حانية، لكنني لم أعد أراها أمًّا حانية، ما فتئت أن أصبحت غولة حمقاء، تأكل أطفالها الحلوين.



ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.. نعم.. ولكن ما دمت أملك خيالا قادرا على إفراز الأحلام.. فلم لا أحلم.. لكن أشد الآلام وأقساها فتكا.. عندما يتقلب الإنسان من فرط خياله.. وفجأة يسقط من سرير أحلامه الدافئ.. مرتطمًا بأرض واقعه المدببة.

توقظني الولية كل صباح فأتجاهلها كالعادة.. صوتها لزج، "قم"، مزعج.. وتهزني بعنف.. كانت أصابعها قبل الزواج رفيعة بضة كورق الخس.. قبل أن يتحول كل إصبع من يدها لكائن قائم بذاته.

لم تكن توقظني إلا لأمرين.. لتخبرني بأنها "رايحة عند أمها".. والأمر الثاني الذي توقظني من أجله.. "قوم أمي جت".. عندما تأتي أمها لإدارة شجار مشترك على أي "تلكيكة".. والولد يصرخ.

الآلام تحاوطني.. أنا حبة رمل في صحراء مترامية أطرافها.. خلية من جسد به مليارات الخلايا.. ترس يدور على الفارغ وعلى المليان.. تماما كعداد الكهرباء يلف ويدور لحساب غيره، وليس من أجل نفسه.

الآمال تهشمت.. العيشة عسيرة.. والقلب يجفل من مجرد فتح سيرة المصاريف للطفل والسكن والأكل والشرب والعيشة.. والغلب والأخبار اللي تغم النفس كل صباح.

نطرت الأغطية وقمت خلفها.. ولما خرجَت هبدتُ الباب وراءها حتى كاد حلق الباب ينخلع.. "أخيرا انكشحت"!

استدرتُ ناظرا لعداد الكهرباء وهو يلف ويدور.. برمت الشقة وتأكدت من أن كل الأجهزة والمصابيح غير موصلة بالكهرباء.. وعاودت النظر للعداد ووجدته ما زال يلف ويدور بنفس السرعة السابقة.. فركت ذقني شبه النابتة متحيرًا.. عاودت توصيل الأجهزة بالأكباس مرة أخرى.. لا شيء يتغير.. ما زال يلف ويدور.. عداد الكهرباء يتآمر عليَّ لصالح من؟ ماذا يستفيد من ذلك؟ هل ستقوم الشركة بصرف علاوة له على ذلك مثلا؟ هل أصابه الجنون؟

ومحصل الكهرباء يتلذذ بإذلالي، فهو دائما غير مكترث، لا يرحم، يترك الإيصال ويرحل ليعود وينزع الفيوز، ويهددني في كل مرة "يا تدفع يا هانشيل العداد".

نظفت المطبخ.. غسلت الحوض "المسلس" بالأواني المتَّسخة.. أعددت شايا ثقيلا وأشعلت سيجارة.. وفتحت النافذة.. كانت أمامي خرابة عليها تلال من أكياس القمامة.. أبراج حمام.. وكراكيب.. ومخلفات تكوَّمت فوق أسطح البيوت، سماء مغبرَّة، في الأسفل بائع الكشري يهبد بكبشته الطست كلما ملأ طبقا.. يمر بائع الليمون.. وبائع المحلب.. وشاري الخبز المكسر.. ثم بائع الملوحة.. ويزف بائع البيكيا على عربته التي يعلوها مكبر صوت.. ويتغنى بصوته المائع "بيكا.. بيكا"..

طهقت.. قررت النزول..

بعد دراستي للإلياذا والأوديسا وهوميروس في كلية الآداب، عينت بإحدى المؤسسات الحكومية، مدفونًا وسط الأوراق والأتربة، وأجهزة الحواسيب التي تهالكت، وبليت برئيسي في العمل.. لا يرتاح لي كما يرتاح للآخرين، ويطرب لكلماتهم، يمضي عائما وسط بحر من النفاق الخالص، وكانوا هم يدورون حول مكتبه المقدس بآلاتهم النحاسية يدقون تحت آذانه وينشدون "إيه النور ده يا ريس".. "إيه الحلاوة دي يا ريس".. تنتفخ عروقي غيظا كلما فتحت أشداقهم.. ضحكاتهم تصك رأسي، أنزوي في الركن القصي وأتداخل في نفسي.

رئيسي نظر لي في ذلك اليوم من تحت نظارته، وهز رأسه مصمص شفتيه.. هز رأسه هامسا "سيصدر قرار بنقلك" أمسكت صوته بعيني.. قال لي زميل ذات يوم "يا أخي اتلحلح خلي المركب تمشي.. افتح درجك.. غير من نفسك، أضعت عمرك فيما لا طائل منه.. العمر يجري.. والآن سيتخلصون منك بكل سهولة".

وسلمت قرار استقالتي مستسلما، كلامهم رصاص بارد يخترق مسامعي ويصيب رأسي بسخونته المفاجئة.. "موكوس.. ولا في منك فايدة ولا عايدة.. أنت جسمك نحَّس خلاص.. عواطلي .. كل ده وعامل من بنها". 

الكل هنا يتجاهلني.. من أجل هذا اعتزلت العالم وهمومه وانعزلت، سافر شقيقي محمود  للسعودية منذ ستة أعوام واشترى نصيبي في بيت أبي، وأرسل لي هاتفا نقالا حديثا وجدت من خلاله ضالتي.. هربت من خلاله إلى أرض أحلامي.. فوجدت مجالا فسيحا سوَّقت عبره لنفسي وحظيت باهتمام لا بأس به.

يعيبني الآن أنني أصبحت أفكر في نفسي ولا شيء غير نفسي، روحي تواقة لبلوغ الصفاء.. الاستماع لموسيقى النجوم.. أحلم بحياة على أرض النور والنار باريس، أريد هجرة لأتذوق روعة المغامرة وشجونها وحلاوة الفوز بها.. ضجرت من البؤس والفاقة.

عبر الهاتف أتجول افتراضيَّا في ميدان الكونكورد، وأسير على  الجسر.. أنا فقط أبحث عن الحب.. عن العطف الذي افتقدته.. لم أجد من يحنو علي فوقعت فريسة لاستغلال الجميع.. ترس يدور بلا فائدة تعود إليه.

 لقد سرت مئات المرات على كوبري بنها.. وكلما سرت شعرت بالرغبة الملحة في التبول.. فألبي تلك الرغبة وأتبول في مياه النهر المقدس فأشعر بالارتياح.

أفكر بالهجرة.. أفكر بها حقيقة.. فلا غيرها سينتشلني من شلال البؤس الهادر، أشعر بأنني أسير على غراء.. كلما حاولت رفع قدم التصقت الأخرى.. حتى خارت قواي.. خواء يملأ روحي.. أصرخ ولكن صراخي مكتوم.. هزيمة مطلقة تطاردني.. أتفحص وجوها بائسة تحيط بي.. تستطيع أن تتنبأ فيها بمستقبل مجهول غامض مرعب آسٍ ينهش الأرواح.

أتابع أخبارا صحفا وكتابا تتحدث أقلامهم عن النصر والتفاؤل، عن التقدم والخير الآتي، ووعود لا تتحقق، ثم أغرق في بحور من الكآبة، أنظر إلى صور لجسر الكونكورد.. أجد العاشقين وجوههم مشرقة بالفرح، يعلقون على سوره الشبكي أقفالا تشهد على قصص حبهم، يرمون بمفاتيحها في نهر السين لتظل قصص عشقهم خالدة، وأنا أبحث عن الحب والحرية ورغيف الخبز والأمان، لكنني أفكر أني إذا هاجرت فسأترك روحي هنا حبيسة تلك الأرض القاسية التي أرتطم بها كل صباح!

أعود إلى الحي القديم.. سرت في شارع مؤدٍّ إلى بيت العائلة، كان صراخ بائع البيكيا بمكبر الصوت الذي يعلو عربته يطاردني - ينزلق كبقعة زيت تكبر تنشع وتتسرب -فيصل إلي مخترقا أذني "بيكيا.. حاجات قديمة.. بيكيا".

واجهته بكل برود وكأنني صرت من فولاذ مصفَّح، يعلو صوته وأنا أتداخل في ذاتي مجددا.. "عامل من بنها".. لم يعد ذلك الصوت يستفزني أو يثير أعصابي.. حاولت مرارا أن أتغلب عليه وأصبر نفسي بالهرب إلى الهجرة، إن ما يزعجني ما هو إلا وضع مؤقت.. لكني لا أدري.. أنا في الحقيقة متحير...
ما زلت حبيسا داخل قبو معتم أرضيته.. تساؤلاتي وجدرانه.. احتمالاتي.. هل سأظل طوال الوقت أصبر نفسي؟ هل في الإمكان أن .. ؟ وهل إذا أمكن سأفعلها؟ وإذا فعلتها وهجرتها هل سأتجرأ على تركها في اللحظة الأخيرة؟

 فتحت فمي وارتعشت شفتي السفلى.. تلعثمت عيني عندما أجابتني نفسي بأنني ما زالت أهفو إلى هذا الوطن رغم قسوته.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز