عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
حكمة النعمة بين الضعف والاحتياج

حكمة النعمة بين الضعف والاحتياج

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

قبل الاسترسال في الحديث عن مشاعر ومحركات ابن آدم لابد وأن نتذاكر سويا أن الله كما علمنا تفصيلا في كتابه الكريم أنه سبحانه قد خلق الإنسان بداية من نفس واحدة كاملة وقسم هذه النفس قسمين ، قسم هو الأصل والآخر هو ما يكملها فهو (زوجها) ، ومنح كل (جزء نفس) جسدا مختلفا عن الآخر ولكنهما جسدين حيين متكاملين ، فأصل الجسدين من مادة الأرض التي قدر لهم أن يعيشوا عليها ، ولأجل أن يكون الجسد حيا نفخ الله في كل جسد سره للإحياء (لكل جماد) وهو الروح ، ليكون الجسد حيا ومستعدا لاحتلال النفس له واستخدامها له ، وتترك النفس هذا الجسد يوميا للنوم وقد تعود إليه يوما فتجده قد فسد بغادرة سر الإحياء (الروح) ، فتكون النفس بذلك قد فقدت مركبتها على الأرض (الجسد) ووسيلة تعاملها مع الأحياء وغادرت الدنيا ولا تملك وسيلة للتعامل والتواجد على الأرض ، ولو حضرت النفس لحظة خروج الروح من الجسد فتكون النفس قد ذاقت الموت ، ولكن النفس لا تموت ، ولكنها يتوفاها خالقها لينشئها في نشأة أخرى ، فالحياة رحلة زمنية محددة نقطعها باستخدام جسد حي لوجود الروح فيه ، وتنتهي الرحلة بفقدان النفس لهذا الجسد سواء لموت الجسد بمغادرة الروح أو لعدم قدرتها على استخدام هذا الجسد لأي سبب آخر .



وأبسط ما نلاحظه على خلق ابن آدم أن الله سبحانه وتعالى قد خلقه من (نقص)  وتحكمه (حكمة النقص) فهو مخلوق من جزء من نفس كاملة وبالتالي يقضي عمره كاملا وفي داخله نهم وشغف خفي لاستكمال النقص الفطري وهو ما يشعر كل مخلوق من ذكر وأنثى بوجود دافع ذاتي جارف ومسيطر على حركة حياته للبحث عمن يكمل هذا النقص دون حتى أن يدري أو يعي ذلك ، ولكن (نفسه) تظل حتى مغادرتها للدنيا باحثة دون ملل أو كلل عمن يكمله أو بديل يرأب نقصه ويسد احتياجه الفطري للاكتمال ، فالنقص يولد في النفوس ذلك الشعور الفطري بالضعف المزمن والذي يفجر في النفوس رغبة الاحتياج ، فحركة حياة البشر دوما هي سباقا محموما بين شعورين متتابعين ومتراتبين هما ضعف النقص ورغبة الاحتياج والتي تتفجر مترتبة على الشعور بضعف النقص الذي لا يكتمل أبدا إلا لحظيا ثم يعود الشعور بالنقص وضعفه ليتصاعد من جديد ليفجر رغبات متجددة ومتلاحقة من الاحتياج ، ويحترف الإنسان منذ ولادته الانتقال التلقائي ما بين الشعورين دون إحساس بالفارق الزمني والنفسي بينهما إلا في المواقف الحرجة والخطيرة ، رغم أن علماء النفس المتخصصين في فروع السيطرة والعبث بالنفوس خاصة في أجهزة المخابرات يلعبون بل ويعبثون كثيرا في هذه المنطقة الخطيرة من فعاليات حركة النفس البشرية ، فالتدخل في هذه المنطقة يغير تماما من مسارات النفوس في التعامل مع احتياجاتها وأساليب السعي لتلبيتها وبالتالي في معالم الشخصية الإنسانية وملامحها والقدرات الخاصة التي يمكن الحصول عليها بتوجيه وتركيز طاقات البشر من أجلها.

وترى المسافات واضحة تماما ما بين الشعور بالنقص ورغبة الاحتياج في سلوكيات الأطفال البريئة تماما من أية أغراض جانبية أو رتوش وتلوين صور التعاملات ، ورغم أن الاختلافات بين البشر تراها واضحة بلا رتوش في سلوكيات الأطفال ولكن بعض الأطفال تبهرك بثقته اللا محدودة في نفسه وحقوقه الفطرية في امتلاك كل ما يرى من حوله وتساعده ذاكرته السمكية في الانتقال من رغبة لأخرى تبعا لما يصادفه في حركة حياته ، وهو ما يساعد الأم ومن يربي أن يتحكم ويسيطر على الطفل بالسباحة معه في بحور رغباته ونزواته وهي ميزة أنثوية فطرية وهي أحد أهم مواصفات وملامح الأمومة وهو ما لا يتوافر في رجل ، ولكن الطفل أبدا لا ينسى ولا يتغافل عن قيم البشر الفطرية التي ولد بها في ذاكرة نفسه الإنسانية ، وربما أبسطها وأعجبها للبعض ذلك الانجذاب الفطري للجنس الآخر ، فترى طفلا لا يتجاوز عامه الثاني وهو دائم الإعجاب والتقرب والتودد لكل أنثى خاصة لو كانت ناضجة وجميلة حتى تشك أن هذا الطفل قد ولد مرة ومرات من قبل ، ورحم الله أمهاتنا وجداتنا في وصاياهن المستديمة للبنات (ما تأمنيش للدكير ولو كان صغير) ، وكذلك الحال مع أي طفلة أنثى في انجذابها الفطري لكل طفل أو شاب أو رجل ، فحدود السن وقوانين العرف والحدود عندهم مبهمة ومجهولة .

ولا شك أن حكمة ضعف التكوين الأزلي بقسمة النفس لجزأين متكاملين ذكرا و أنثى قد ولد لدي كل جزء منهما رغبة الاحتياج للطرف الآخر ، وبالتالي يفجر عنده رغبة الاحتياج وآماله في الازدياد المتواصل من متعة التواصل والقرب من هذا المخالف له في الجنس ليكمل به نفسه ووجوده ، وسبحان الله الذي جعل من نتاج هذا المسلسل الفطري وسيلة الاستخلاف بل واستمرار حركة الحياة المتجددة بكل ما فيها من أوهام وأحلام وآمال وأهداف وخطوات وبدايات ونهايات هي في الحقيقة بدايات جديدة لتكرار حلقة جديدة في سلسلة الحياة المغلقة للحياة واستخلاف البشر على الأرض ، والتي بدأت بنقص فأثارت ضعفا ، فولد الضعف رغبة الاحتياج التي يشبعها التواصل في ظلال متعة متجددة ، وتلك هي الحكمة المجردة لناموس الخالق في خلقه على الأرض بكل قوانينها المختلفة والمتوافقة والمتناسقة لاستمرار الحياة عبر محاور الزمان والمكان ، وهو ما يعلن ببساطة عن أروع مقتطفات حكمة لله في خلقه والتي من أبسطها أن قمة الغنى في الاستغناء ، فالله هو الغني الأوحد ، لأنه غني عن العاملين ، وهو ما لا يصح ولا يصلح ولا ينطبق على البشر ، لأنهم خلق الضعف وأروع نتاجه.

ولا يتوقف نتاج حكمة ضعف النقص الفطري عند حدود الذكر والأنثى بل تتوالى النتائج والأسباب والمسببات في حركة حياة البشر على الأرض ، فهذا المخلوق الناقص محدودا أيضا في قدراته ، فهو لا يستطيع أن يتعلم كل شيء أو يعمل كل شيء ، وبالتالي فلابد أن يقسم العلم والعمل بينه وبين غيره من البشر ، فيكون كل منهم محتاجا للآخر ، ولا تكتمل الحياة ولا تنمو وتتقدم إلا بالتعاون بين البشر ، وهو ما ينفي ويهدم فكرة الرهبنة والتصوف والزهد في الدنيا ، فما خلقنا الله لنمارس الاستغناء ونحيا حياة يسودها حرمان النفس وتعذيبها حتى ولو من أجل التقرب من الله ، وإلا لخلقنا الله ملائكة بلا حاجة وبلا رغبات وبلا شهوات منقطعين لممارسة طقوس ومراسم ومناسك الخضوع والسجود تقربا له سبحانه ، ولكن ابن آدم عاشق الضلال والابتداع فرض على نفسه الرهبنة والتصوف والزهد وما فرضها الله عليه وما خلقه لذلك مطلقا ، ولذلك دوما يسقط المدعين للرهبنة والتصوف والزهد فيما حرموه على أنفسهم كثيرا ليثبتوا ببشريتهم خطأ فكرهم ومعتقداتهم التي ابتدعوها وأجبروا نفوسهم على ما لم يخلقوا له منذ الأزل .

وعلى الطرف الآخر فإن متع مداوة ضعف النقص تكمن في ممارسة التواصل سعيا لبلوغ الكمال في أي مجال من مجالات شهوات ابن آدم من نساء أو بنين أو مال أو سلطة ، والتي لابد وأن تكون في إطار نفسي وجسدي متزن ، فالنفوس أبدا لن تكتمل مركزيا إلا في يوم القيامة .. {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }التكوير7 ، وابن آدم لا يقنع من شهوات النساء أو المال أو البنين أو السلطة لو أطلق العنان لأطماعه ، وما التواصل وممارسة الاستزادة في الدنيا إلا محاولة استكمال لحظي بجرعة تكامل مؤقتة تعين ابن آدم على استكمال سعيه في الدنيا وتكمل حلقة الاستخلاف والإعمار للأرض ،كما أن الجسد أيضا لا يتحمل تنفيذ كل رغبات وشهوات النفس للاستكمال وذلك لمحدودية قدراته وطاقاته ، ولذلك فرض الله على ابن آدم الحدود والقيود التي تحد من نهمه وشغفه في ممارسة التواصل والتكامل ابتغاء الإشباع الجسدي والنفسي والذي لا يقنع ابن آدم ببلوغه أبدا ، وذلك حتى لا تفسد حياة البشر على الأرض ، ولابد لابن آدم الذي ارتضى من خالقه التمتع في ربوع هذه الحكمة أن لا يتغافل أن خالقه وواهبه هذه النعمة قد وضع له حدودا وقيودا لاستخدامها وممارستها ، ولا ينسى أنه كبشر ينصاع لبشر مثله طائعا ومجبرا وينفذ تعليماته لاستخدام جهاز أو مكان بحجة أنه صانعه أو يملكه ، فما بالنا بمن هو خالقنا وصانعنا وصانع ومبدع كل شيء في الكون حولنا ، بل ويحب الخير لكل خلقه ويعلم مستقره ومستودعه ، بل .. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }الأنعام18.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز