عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
المؤسسات الدينية.. الواقع والمأمول «3»

المؤسسات الدينية.. الواقع والمأمول «3»

بقلم : د. أسامه الأزهري

المهمة الأولى للمؤسسة الدينية هى صناعة العقول، وفق خريطة معرفية خضعت للانتقاء والإنضاج والبلورة والتجريب على مدى عقود وقرون، حتى أثبتت جدواها وفاعليتها ونجاحها، وتم تطبيقها على عقول وطبائع متعددة، وأمزجة مختلفة، وخلفيات معرفية متباينة، من الملايو، إلى الهند، إلى العراق والشام، إلى المغرب والعمق الإفريقي، فما زالت تلك الخريطة المعرفية تثبت أنها قادرة على صناعة عقول تقوم بمهمة ثلاثية جليلة، وهي:
 
أولا: فهم الشرع الشريف فهما دقيقا مطابقا لتضاريسه ومقاصده وغاياته ومبادئه، وامتلاك أدوات فهمه وتحليله بما يطابق ذلك، بحيث تعصم تلك الخريطة المعرفية العقول من الانحراف فى فهم الشرع، فظلت طوال مدة سريانها على مدى قرون لا تنتج أبدا عقلا إخوانيا ولا داعشيا ولا تكفيريا، بل صنعت شخصيات كبيرة، وعقولا منيرة، رجعت إلى دولها وشعوبها فتولت الوزارة أو الإفتاء أو القضاء فما وجد الناس منها إلا الأثر الحميد، وأمان المجتمعات، وفهم الشرع هذا كان يتم من خلال أربع دوائر معرفية: وهى دائرة الفهم والإفهام وتحتها عدة علوم كالنحو والبلاغة، ودائرة التوثيق والتثبت: وتحتها عدة علوم كمصطلح الحديث والسيرة والتاريخ، ودائرة الحجية والتحليل: وتحتها عدة علوم كأصول الفقه وعلم الكلام وعلم المنطق، ودائرة بناء الإنسان: وتحتها عدة علوم كالفقه وعلوم الأخلاق والتزكية.
 
ثانيا: فهم الواقع بعمق، بحيث تقتدر العقول المتخرجة وفق تلك الخريطة المعرفية من معرفة مكونات الواقع، بعوالمه الأربعة: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأحداث، وشبكة العلاقات البينية التى تربط تلك العوالم، وما يتولد عن تشابكها عن منظومة العلوم الإنسانية والاجتماعية، وعلوم الإدارة والاقتصاد والعلاقات الدولية، إلى غير ذلك من دوائر علوم الواقع، فصارت العقول التى صنعتها تلك الخريطة تعرف أوزان الأفكار وأحجامها، فتعرف قيمة الوطن وتدافع عنه وتقود لأجله الثورات ضد الحملة الفرنسية، وتشعل ثورة 1919 وتجعلها تنطلق من الأزهر، وتعرف قيمة الإنسان ولا ترضى بظلمه مسلما كان أو مسيحيا أو غير ذلك، مع احترام خصوصيات العقائد وجدية مناهج الاستدلال وعمق الجدل العلمى الرصين بينها، وصارت تلك العقول تعرف نفسية الإنسان وتضيء له الطريق، ولا تتسلط عليه، أو تتحايل عليه، بل تبذل له النصح، وتنور له الطريق.
 
ثالثا: الفهم العميق لكيفية الربط بين فهم الشرع بكل جلاله وتجريده وسموه، وبين إدراك الواقع بكل تعقيده وتغيره وتطوره، حتى يتأتى من خلال هذا الربط إلحاق متغيرات الواقع بذلك الشرع الشريف، وتوصيل المطلق بالنسبي، والثابت بالمتغير، والقطعى بالظني، وذلك من خلال مهارات التحليل والاستنتاج والاستنباط التى يتم تدريب الطالب عليها، فضلا عن أن ذلك الثابت لو لم يكن مهيأ للالتحام بالمتغير لما كان لتنزيله ووجوده فائدة، بل هو قد جاء أصلا لهذا الغرض.
 
هذا هو الأزهر الشريف فى حقيقته وجوهره، إنه خريطة معرفية مدروسة ومصقولة، يتم تدريسها من خلال كتب ومناهج دراسية ومقررات، بحيث تصنع عقولا كبيرة تنور الدنيا، وقد ظل الأزهر قائما بذلك بالفعل على مدى قرون، بحيث ترك لنا هذا الأثر التاريخى الجليل الذى اكتسبت مصر من خلاله ريادتها فى العالم الإسلامى كله، حتى قال بيارد دودج فى كتاب: (الأزهر فى ألف عام): (ومما يثير الفخر والإعجاب أن نرى خريجى الأزهر قد حملوا مشاعل الثقافة الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف، وأنَّ الأزهرَ نفسه كان المنارة التى تشع النور فى العالم، من سيبريا إلى نيجيريا، ومن مراكش إلى الصين، قبل أن يسمع الناس بأمريكا، أو الكشف عنها بعد، كما كانت البقاع الشمالية من أوروبا تعيش فى تيه الضلالة والجهل).
 
وقد وقع على مدى المائة عام الماضية تشوش واضطراب فى تدريس هذه الخريطة المعرفية، وأول علم قد اختل فى هذه المنظومة هو علم أصول الفقه، منذ سنة 1912م وما بعدها، وهو الدرع التى تمنع وجود الدواعش والإخوان، وهو الذى يقدر على بيان وجوه أخطائهم فى فهم النص القرآنى والحديث النبوي، وإذا كان الخريج الأزهرى ضعيفا فى ذلك العلم فلن يتمكن من مواجهة التيارات المتطرفة وتفنيدها وتفكيكها مهما فعل.
 
ولا يمكن بحال أن تنهض المؤسسة الأزهرية بدورها المجتمعى والفكرى والمعرفى والدينى إلا بثورة معرفية حقيقية تعيد ضبط الكتب والمقررات والمناهج الدراسية على تلك الخريطة المعرفية الدقيقة التى صقلتها التجربة الأزهرية على مدى قرون، والتى صنعت لنا ذلك الدور الجليل الذى يمكن تلخيصه فى كلمات معدودة وهي: حفظ الأوطان، واحترام الأكوان، وتنمية العمران، وإكرام الإنسان، وزيادة الإيمان، وصناعة الحضارة، وللحديث بقية.
 



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز