عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية

الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية

بقلم : د. أحمد الديب

لست أحب المقالات ذات اللون الأسود ، وما كان هذا العنوان إلا عنوان كتاب في غاية الأهمية للطبيب الإنجليزي الدكتور " أرثر سيسيل ألبورت " ...عنوانه :" ساعة عدل واحدة: الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية 1937 ـ 1943". في عام 1937 وصل "ألبورت" إلي القاهرة ليعمل أستاذًا للطب الإكلينيكي بمدرسة طب قصر العيني وقد صُدم ألبورت مما رآه من صنوف الاحتيال وعدم الأمانة والفساد التي رآها في المستشفيات المصرية آنذاك، كما روعه ما رآه من إهمال يتعرض له الفقراء من المرضى، وحاول جاهدًا إصلاح هذه المنظومة . في عام 2009 ، تُرجم كتابه إلى العربية ونشرته دار الهلال بترجمة سمير محفوظ بشير.



يقول الدكتور "ألبورت" في مقدمة كتابه :
 " هذا الكتاب يكشف عن الظروف المخيفة التى يحيا فى ظلها فقراء مصر, والحالة المزرية التى آلت إليها مستشفيات القطر المصرى كله. مادة هذا الكتاب استقيتها من خلاصة تسع مذكرات كتبتها حين تواجدى بمصر, بالإضافة إلى استعانتى بالعديد من الأوراق الخاصة بالمستشفى التى عملت بها فى مصر. أما عنوان هذا الكتاب فقد أوحى به إلىً سكرتير الأمير محمد على ولى عهد مصر والتى استقاها من قول نبى الإسلام ..."ساعة عدل واحدة تعدل سبعين عاما من الصلاة المقبولة".

 

تكمن أهمية الكتاب من وجهة نظري في كونه يحمل بين طياته رؤية الأجنبي والذي يستميت في الدفاع عن الفقراء من المرضي موجهاً أصابع الاتهام إلي ضمير العالم والذي يدعي العدل والتحضر في هذه الآونة ، إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية . كان الدكتور "ألبورت" من المؤمنين بما يسمى "رسالة الرجل الأبيض فى العالم".. فيسرد في الفصل الأول من الكتاب كيف حكمت إنجلترا مصر ستون عاما ثم سلمت الحكم لطبقة عليا من الباشوات والذين استغلوا المصريين إلي أبعد الحدود.

ينظر "ألبورت" إلي نظام الرعاية الصحية المصري آنذاك نظرة شاملة ، والتي لم تخلو من تقييمه لطالب الطب المصري والذي وصفه بأنه يمتاز عن الطالب الأوروبي بقدرته العجيبة علي الحفظ واستدعاء الذاكرة ، ثم يستدرك بأن قدرة طالب الطب المصري علي الحفظ قد نمت علي حساب تحكيم المنطق وكيفية الاستخدام العلمي للمعلومة مما أفضي إلي فقدان خاصية الإبداع والطموح والقدرة علي وزن الأمور بالمنطق والذي يتميز به طالب الطب في اوروبا  .

يندهش "ألبورت" من مناهج التعليم الطبي في مصر والتي يصفها بأنها متأخرة أربعين عاماً علي الاقل عن المناهج النظيرة في الغرب . ثم يروي كيف قاوم "علي إبراهيم باشا" الطبيب الشهير وعميد كلية الطب في هذه الآونة أي محاولات جادة لتحسين المناهج وطرق التدريس والذي كان يؤمن بأن أي تغيير لا بد أن يأتي من مؤسس الكلية وعميدها لا من أحد المدرسين يقيناً منه بكمال ما أبدعه وأسسة .

يصف "ألبورت" البنية الأساسية للمستشفيات في هذه الحقبة بأنها في حالة مزرية وسيئة ، وكيف كان ذوي المريض يشاركونه في سريره لعدم وجود ما يكفي من أسرة ، مما يؤدي إلي انتشار حمي التيفوس والتي تنشط في الشتاء. أما في أيام الصيف فقد كانت تنتشر الدوسينتاريا بشكل بشع بين المرضي في المستشفيات بسبب غزو جحافل الذباب والتي تهجم بشكل متواصل علي المرضي ، وكان يتعجب من حال مستشفي القصر العيني ومستشفي فؤاد الأول وهما أكبر المستشفيات وأكثرها تكلفة في بناء الأبنية الخرسانية الضخمة واللتان تأسستا دون وجود مصدات للذباب الرهيب رغم أن تكلفة إنشائهما يمكن أن تبني العديد من المستشفيات.

يقول "البورت"..... " لعل أكثر الأمور ملامة ويُعتبر مظهراً مقززاً في مستشفيات القاهرة والإسكندرية وباقي المديريات ، هو الابتزاز الذي يتعرض له المرضي الفقراء علي يد التمورجية ،  معظم هؤلاء الناس ليسوا  إلا رجال عصابات من أسوا الانواع ، يجب أن يستبعدوا من هذه الوظيفة المهمة إذا أراد المسؤولون أن تصبح المستشفيات مكاناً لائقا يطلق عليها هذا الاسم بالمفهوم الحضاري " . يبدو أن الدكتور "البورت" لم يكن يعلم أن هذه العصابات ستبقي موجودة حتي الآن بعد مضي ما يقارب ثمانية عقود ، تجثم علي أنفاس المستشفيات بأدوات أكثر احترافاً وبممارسات أقرب ما تكون إلي ممارسات التنظيمات المؤسسية المرخصة.

يحكي الدكتور "ألبورت" عن الأطباء الذين  يمتنعون عن تحويل المريض إلي المستشفي دون أن يتقاضوا خمسين قرشاً ، وعن الجراحين الذين يطالبون كل مريض يحتاج إلي عملية جراحية بجنيهين أو ثلاثة جنيهات مقابل تحويله إلي المستشفي لإجراء الجراحة . بالطبع يذكر الدكتور البورت الاستثناء من الأطباء  الذين لا يتقاضون مبالغ مالية من الفقراء نظير تحويلهم إلي المستشفي .

يسخر "ألبورت" مما يحدث كل صباح في العيادات الخارجية لمستشفي فؤاد الأول ، أكبر المستشفيات المصرية ويصفه بأنه مسرحية هزلية علي حد قوله ، حيث يجلس الطبيب الشاب علي مائدة وأمامه طابور طويل من المرضي فيسأل الطبيب المريض سؤالاً واحدا ثم يقوم بكتابة الروشتة . ثم يتعجب ألبورت من أن معظم من وقف في الطابور من المرضي الافتراضيون ما هم إلا متمارضون يحصلون علي الدواء ليبيعونه في الأسواق .   

 

بذل الدكتور " ألبورت" جهداً مضنياً ليقنع المسؤولين بأن ثمة جرائم ترتكب في المستشفيات وأن الخدمة الصحية المقدمة لا تليق ببني البشر .بالطبع لم يلتفت إليه أحد ، ووضع المسؤولون أصابعهم في آذانهم حتي لا يصلهم صوته ، فقرر أن يُصدر نشرة بمثابة البيان يصف فيه ما آلت إليه أحوال المستشفيات في مصر أرسل عدداً من النسخ إلي الصحف وعدداً آخر إلي المسؤولين وأرباب العمل العام عبر البريد .  يصف "ألبورت" في نشرته الطعام المقدم للمرضي بأنه ليس أحسن حالاً من طعام المساجين ، وأن الممرضين يقومون بسرقة حقن البنسلين ويحقنون المرضي بالماء بدلاً منها ! . ويُحمل ألبورت المسؤولية في الحالة المزرية التي وصلت إليها المستشفيات في مصر إبان هذه الحقبة للجميع دون استثناء ولم يستثني في ذلك الإحتلال الإنجليزي ، فما كان من المسؤولين إلا أن اتهموه بالمرض النفسي وعدائه الواضح للإسلام والمسلمين وتعمده النيل من سمعة مصر بين الأمم !.

"إن الفساد والاختلال والفوضي والتضحية بمصالح المرضي الفقراء لمصلحة طبقة صغيرة من الأغنياء يعتبر فضيحة بكل المقاييس .لو كنت أعلم أن مجهوداتي ستؤتي ثمارها لبقيت في منصبي ، فالحال في المستشفيات أصبح مشيناً وعاراً علي كل أمة أو دولة ، فبدلاً من حفظ وصيانة الأرواح ، يتم فقدها وتبديدها بمنتهي السهولة والاستهتار. يجب أن يعاد تنظيم العمل بهذه المستشفيات بدون أدني تأخير" ...لم يكن النص السابق إلا مقتطفاً من نص استقالة الدكتور "سيسيل ألبورت" والذي أيقن أنه أضعف من أن يقاوم الفساد وحيداً.

وبعدُ ، يحمل الكتاب بين طياته  توثيقاً لحقبة لم نعشها في مجال الرعاية الصحية .أراه رداً شديد الوضوح علي المزاعم التي تدعي أن حقبة ما قبل ثورة يوليو 1952 ، هي الحقبة الذهبية في تاريخ مصر وأن المصريين في هذا الحقبة كانوا أسعد حالاً وأكثر كرامة وأوفر صحة . الحقيقة أن لكل حقبة ما لها وما عليها وأن المدن الفاضلة ليس لها مكان إلا في مخيلات الفلاسفة . بمقارنة الأرقام وباستخدام المعايير الحديثة في تقييم مدخلات ومخرجات الرعاية الصحية ، لا أحد يستطيع أن ينكر أن ثمة تطور قد حدث .  كل ما هو عليك في هذا السياق ، وبدون أن تستخدم أرقام الخبراء والمختصين ، أن تنظر إلي حال المستشفيات اليوم لتجيب بنفسك علي هذا السؤال الجدلي "هل نحن أحسن حالاً وأوفر صحة؟! " . وحتي تهتدي للإجابة الصحيحة ، لا تزال الأمهات الفقيرات يجبن المستشفيات والعيادات يحملن أطفالهن بعد أن دفعهن المرض وضيق ذات اليد لبيع البقرة الحلوب الوحيدة أو القرط الذهبي الوحيد و  الذي هو آخر ما تبقي من حُلي الدنيا !.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز