عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
أبو شادي ماسونيًّا

أبو شادي ماسونيًّا

بقلم : د. عصمت نصار

لقد عرف المثقفون أحمد زكي أبو شادي (1892م – 1955م) الطبيب واللغوي والشاعر، غير أنّ الكثيرين لم يقفوا على كتاباته النثريّة التي تكشف عن الوجه الآخر لهذا الكاتب الذي انتقل به إلى ميدان الفلسفة والنقد وأتون المثاقفة التي ساجل على سفوده الأزهريّين المتعصّبين والعلمانيّين الملحدين، وأعلن انتصاره للعلم والتصوف العملي والماسونيّة، وسوف نحاول خلال مقالات متتابعة الكشف عن آرائه وما خلفته من أثر في حياتنا الثقافيّة والفلسفيّة.



فقد ذهب أبو شادي في كتابه «البناية الحرّة، خطرات عن الماسونيّة» -الذي صدر عام 1926م بمناسبة تدشين المحفل الماسوني «البدر المنير»؛ الذي ترأسه في بورسعيد- إلى أنّ الماسونيّة تقام على أسس من العرفان والعلم والتسامح والإخاء بين البشر، والتعاون بينهم، والاعتراف بوجود الله؛ مهندس الكون وصاحب ميزان العدالة والمساواة بين البشر، وهي تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من السعادة الإنسانيّة على هذه الأرض؛ وذلك تحت مظلة فسيحة من القيم الراقية والمحبة والوفاء والفضيلة في كل ما يكلف به الإنسان أو يختاره بمحض إرادته الحرة من أفعال.

كما نزع إلى أنّ الماسونيّة هي التي تبعث في الأنفس فضيلة القناعة؛ ولا سيما بين الأغنياء وأصحاب الأعمال؛ وعليه نجده يصرّح بأن الأمم الفاضلة والراقية والساعية إلى التقدّم والرخاء هي التي تجزل العطاء لعمالها؛ فتحسن أجورهم ومعاشهم وسكنتهم، الأمر الذي يدفعهم إلى الإخلاص والتفاني فيما يقيمون به من أعمال في شتى المرافق، فعين الرضا هي التي تدفع اليد العاملة إلى الإبداع واللمسة الجمالية، ذلك فضلاً عن التقنية العالية والجودة في الإنتاج؛ فيقول: «ليس من شك في أنّ وطننا العزيز من أحوج المواطن لبث الماسونيّة ونشر روحها والاستنارة بها .... فمن يتحدث بعد ذلك عن أنّ الماسونيّة شيء كمالي في مصر -بل لا موجب لها- إنما يخبط خبط عشواء، ولا يعرف من أحوال أمته شيئًا؛ فإنّ من أسس التعاليم الماسونيّة الحريّة والإخاء والمساواة -بأكمل معانيها، ونحن في حاجة لنشر وتطبيق كل ذلك في مصر، ومن الحريّة أن نحصل على استقلالنا، ويجب أن يبدأ الاستقلال من القرية».

ويحذر أبو شادي من مظاهر الظلم الاجتماعي وتجاهل المهمشين وإهمال أحوال الفقراء؛ ولا سيما الفلاحين، فمن أخطر المشاعر خطرًا على الأمة هو ذلك اليأس إذا ما تملك من أنفس الموعوزين فيدفعهم ذلك إلى الانتحار هربًا من إحساسهم بالاغتراب والغربة في ذلك العالم الذي لا يدفق بهم أو يقودهم إلى ثورة غير مأمونة العواقب؛ وذلك لأنها تحمل بين طياتها كل شرار الغضب والحقد والظلم والثأر من الذين أفسدوا ميزان العدالة وسرقوا مكيال المساوة، ويقول: «أن الاستقلال الثابت المتين هو الذي يبدأ بالقرية وبالفلاح؛ ليجعل منه رجلاً عاملاً نشيطًا قويًّا صحيح الجسم مثقف العقل يعيش في رغد من العيش، لا ترهقه الديون، ولا تستغله المصارف والبنوك لمصلحتها.

لهذا كان واجبًا على رؤساء هذا البلد ومفكريه أن يعنو عناية خاصّة بالفلاح، وأن يبذلوا جهودهم في ترقيته ورفع مستواه من الوجهة الخلقية والعلميّة والماليّة والصحيّة والصناعيّة، فكل خطوة تخطى في هذا السبيل إنما تقرب الأمة يقينًا من مطلبها المقدس وغايتها القصوى».

ويضيف أبو شادي إنّ السلام الاجتماعي الذي نسعى إلى تحقيقه في مصر ينبغي أن يبدأ بإصلاح حال العمال والفلاحين، ليس ذلك لأنهم السواد الأعظم من ثروتنا البشريّة؛ بل لأنهم القوة الحقيقية الكامنة التي بمقدورها إسقاط النظم وحمايتها وتنفيذ المشروعات والمخططات أو إفسادها، وعليه: فالحكومات الواعية هي التي تعمل من أجل ارتقاء هذه الطبقة وإنقاذها من مجاهل التهميش وقسوة الغلاء، وأغلال الفقر والجهل والمرض.

فلنعلم أنّ غاية الماسونيّة هي السلام بأوسع معانيه؛ وذلك للقضاء على الصراع الديني والطائفي والمذهبي، والعزوف عن العراك السياسي والتساجل الحزبي، فإن السلام الذي تنشده الماسونيّة يكمن في ذلك الثالوث الذي لا تختلف حوله الأديان، ولا رجالات الساسّة، ولا المصلحين الاجتماعيّين؛ فالعدالة والحريّة والمساواة وما يتبع هذا الثالوث من فضائل وقيم تتمثل في التسامح والحب والتعاون؛ فكل ذلك من شأنه أن يثبت أركان مظلة السلام العالمي المنشود.

ومن ثم يجب على المحافل الماسونيّة المصرية التنسيق فيما بينها لتحقيق ذلك الهدف –أعني السلام الاجتماعي والسياسي والطائفي.

ولا ينبغي علينا الإصغاء لأبواق المشككين والطاعنين في نوايانا بحجة أن بعض تعاليمنا لا تخلو من الأسرار، فهذا ليس عيبًا ولا يشكل خطرًا ما دامت المقاصد معلنة والغايات معروفة والأهداف تتحقق على أرض الواقع؛ ويقول: «ليس في الماسونيّة كما تعلمون من سرّ سوى المحافظة على رابطة العشيرة ومتانتها وإبعاد الأجانب الأنانيّين الجهلاء الذين حكمت الوراثة السيئة عليهم، وهيهات تصلحهم التعاليم، فالغرض من أسرار الماسونيّة هو إبعاد الطالح عن الصالح، وصيانة العشرة طاهرة نقية قويّة سليمة، ومراقبة الترقية في درجاتها؛ حتى لا يتغذى عضو من أعضائها بأكثر مما يستطيع هضمه من تعاليمها وفلسفتها، وحتى لا يحرم عضوه العامل –بحكم الحسد والتنافس الممقوت المحرم- من الأجر الذي يستحقه؛ فإنما قيم الرجال بالمواهب والأعمال؛ لا بالأعمار والأموال».

وحري بنا أن نشير إلى أنّ ذلك التشابه بين لغة الماسونيّين وما تحمله من نرجسيّة وشيفونيّة وكتابات الإخوان المسلمين المبكرة التي خطها حسن البنا ليس وليد المصادفة؛ بل وحدة المنبت الذي جمع بين المحافل الماسونيّة وجماعة الإخوان السريّة، فكلتاهما –أعني المحافل والجماعة- تخضع لنظام واحد في بنيتها الهرميّة وتشكيلاتها وأفكارها المعلنة وشعاراتها التي تستميل بها طبقة العمال والفلاحين وأواسط المثقفين.

ونعود ثانية لحديث أبي شادي عن فضائل الماسونيّة ورسالتها؛ فنألفه يؤكد على أنّ قداسة العلاقة الحميمة التي تربط بين الماسونيّين لا تقل دفئًا وحرارة عن تلك الرابطة الدينيّة والروحيّة الراقية التي تجمع شتات المتصوّفة والرهبان على حبّ الإله المهندس الأعظم.

ولا تخلو تعاليمها مما ورد من مبادئ شرعيّة على ألسنة الأنبياء وأقوال القدّيسين ونصائح الأبرار ومقاصد المصلحين، الأمر الذي يخرس ألسنة ناقضيها وحسادها، أولئك الذين عابوا عليها انتصارها للعقل والوعي والاستنارة، وغاب عنهم أنه لا سبيل لتحصيل المعارف على اختلافها وتنوعها إلا به، فبالعقل ندرك أنّ للكون منظمًا ومهندسًا ومبدعًا، وبه أيضًا ندرك قيمة العدل والحرية والمساواة وحقوق الإنسان وصالح المجتمع وسبل الارتقاء بالأذواق والأخلاق وتخليص الأنفس الشريرة من جهالات الطمع ووحشية العنف؛ ويقول: «لم تر الماسونيّة بدًا من الاهتمام بشئون الدنيا؛ تاركة للدين الاهتمام بشئون الآخرة؛ فخدمت بذلك نفسها كما خدمت الدّين أيضًا، وكما خدمت الإنسانيّة جمعاء».

ولا غرو في أنّ الماسونيّين بعامة –وأحمد زكي أبو شادي على وجه الخصوص- كانوا يرون أنّ وظيفة الدين وظيفة روحيّة خاصة تختلف وتتلون تبعًا لثقافة الأفراد والجماعات، وأنّ مجالها يجب أن ينحصر في الحديث عن شئون الآخرة، أو خبر النعيم والجحيم الذي ينتظر الأخيار والأشرار، أما شئون الدنيا فهو علمانيّ إنسانيّ لا علاقة له بالصراعات الطائفية العنيفة، ومن ثم: باتت الماسونيّة أولى به؛ وذلك لأنها تحمل بين طياتها أفضل ما في الأديان من خلق، وأقوى ما في العقل من علم ووعي واستنارة؛ ذلك فضلاً عن قدرتها على تحقيق خطابها الخالد؛ ألا وهو العدالة ضد كل أشكال الظلم، والحرية ضد كل سلطات الاستبداد، والمساواة ضدّ كل ضروب العنصريّة والطبقيّة والجنسيّة.

ويخطئ من يعتقد أنّ دعوة الماسونيّة للحرية تنشد الفوضى وسقوط القوانين وهدم الأنظمة، بل على العكس تمامًا؛ فالماسونيّة مع البناء وليس الهدم، وأقرب إلى الثورات الواعية منها إلى حركات التمرّد والعنف؛ وهي الصوت الأمين الذي ينطق بأهداف الشعوب واليد الفاعلة التي تحقق أحلامها ومراميها.

ويكذب من يظنّ أنّ الماسونيّة في دعوتها للمساواة تهمل الفروق بين المبدع والمقلد، والرجعي والمجدد، والجاهل القانع بعيشه والعامل الطموح الراغب في الوصول إلى الكمال، كلاّ، فمساواة الماسونيّين ليست بالبلاهة إلى هذه الدرجة، فليس من العدل أن يكافئ الكسول على جموده، أو يساوى بالعامل والصانع والفلاح الذي يجاهد من أجل تحسين وضعه وصون كرامته، فالعدالة في ذلك التوازن الذي لا يسمح للأغنياء أن يضاعفوا ثرواتهم على حساب المستثمرين الحقيقيّين لهذه الثروات؛ ألا وهي سواعد العمال الذين لا ينبغي على الملاك تركهم فريسة للفقر والعوز والحرمان من طيب العيش.

أما شعار «الإخاء» فهو دستور التعاون البشري الذي لم تفلح العصبيات والأيدلوجيّات والفلسفات في تحقيقه، فما أجمل أن تدعو الماسونيّة لنبذ العنف وشيوع السلام والمحبة بين البشر».

وللحديث بقيّة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز