عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تأملات في مشهد الحجيج

تأملات في مشهد الحجيج

بقلم : د. أحمد الديب

"لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك" . هكذا يصدح أكبر تجمع بشري متنوع موسمي علي وجه الأرض . هو جمع غفير عظيم ، خليط بالغ التنوع ، مصدره أكثر من مائة وخمسين دولة ما بين الشرق والغرب والشمال والجنوب . تتعدد الألسنة ويختلف لون الجلد وتتنوع الثقافات ، لكنهم يتوحدون نحو قبلة واحدة ، يرجون رحمة رب واحد . يطوون الاسفار ويقطعون المسافات ، يُخَلفون في ما ورائهم ما اكتسبوا من متاع الدنيا ويستودعون الأهل والمال والولد لدي من لا تضيع عنده الودائع وينطلقون إلي ما هو أسمي و أبقي .



وفي كل عام يُلبي الجمعُ داعيَ الحج فيَقضون عن أنفسهم أو عن ذويهم فريضة الحج المشروطة بالاستطاعة . يجتمعون علي صعيد واحد كتفاً بكتف وقلباً بقلب . فلا تستطيع أن تميز الفقير من الغني أو الرئيس من المرؤوس وقد تجردوا من لباس الزينة المتعدد بتعدد الثقافات والمختلف بأختلاف المكانة الدنيوية ، ليتشاركوا جميعا في لباس موحد يواري سَوْآتهم ويرمز فيما يرمز إلي التجرد من كل متاع إلي ما هو خير ، لباس التقوي !.

في صورة مصغرة عاجلة لما آمنوا به من تجمع أكبر آجل ، حين يقف الجميع أمام خالقهم فرادي ، ليس بينهم وبينه سوي العدل الإلهي فَتُوَفي كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون . في صورة رائعة من صور ضبط النفس ، يمنع الحاج نفسه عن ما حرم من شدوا الرحال إليه ،  من الرفث والفسوق والجدال كشرط أساسي من شروط صحة حجه في أيام معدودات ، فما هي إلا رياضة نفسية روحية لما ينبغي أن يكون عليه المسلم في سائر أوقاته . فلا تكاد تجد ديناً علي وجه الأرض يدرب معتنقيه علي حسن الخلق وعلي ضبط النفس كما يفعل الإسلام . وهو ما يثير دهشتك المؤدية حتماً إلي سؤال ذي شجون ..." لماذا لا يُبقي الحجيج علي ما تدربوا عليه في حياتهم اليومية بعد انقضاء الحج ؟ " .

إن الذي يستطيع أن يمسك نفسه عما حرم الله في أيام الحج المعدودات ، يستطيع في كل لحظة استحضار ذات المشهد فيخلع علي نفسه حلل التواضع والإيثار والنفقة والعطاء وحسن المعاملة والتجرد من هوي النفس وحظوظها فتعاد صياغة المجتمع المسلم في صيانة مستمرة لجسده وقلبه وروحه . وعلي الرغم أنه لا تزال أمة منهم قائمة علي العدل والإستقامة فلا يجتمعون علي ضلال ، إلا أن المشهد المعاش يؤكد أن السواد الأعظم من المسلمين لا يفعلون ، لينعكس ذلك وللأسف في شكل تأخر مزري في شتي مجالات الحياه وفي شكل تدني ملحوظ في الآداب العامة ومكارم الاخلاق وصنوف السلوك القويم السوي وفي تلال القمامة المتعفنة في الطرقات .

في حالة البهجة التي تستولي عليك في ذات الوقت من كل عام وأنت تشاهد الملايين الذين يلبون دعوة الله ، البهجة التي تعكر صفوها ، أخبار المسلمين الذين تُسفك دمائهم علي أيدي مسلمين أمثالهم ، وعن الحقوق التي تُنتهك في كل مكان و آن ، وعن الظلم والحقد والبغض والكراهية التي تنبذها الفطرة السليم ناهيك عن قواعد دين قويم جاء ليحرم الدمَ بغير حق ويَحُض علي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ويُعلي قيم المساواة والإخاء والتعايش والسلم والنبل ، ويوطد أواصر التعاون والعمل المشترك . المسلمون الذين يقفون أمام الله كالبنيان المرصوص في خمس صلوات في اليوم والليلة ، هم المسلمون الذين إذا ما قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ، يفقدون روح الصلاة فيَنقُضون بنيانهم المرصوص نقضاً ، وكأنهم لم يكونوا كتفاً بكتف منذ لحظات قليلة . هم المسلمون الذين يتجمعون بالملايين في كل عام لا فرق فيهم بين عربي ولا أعجمي في مشهد مهيب فإذا انفضوا وارتدي كل منهم لباسه الأنيق ، يَسُب هذا ، ويأكل مال هذا ، ويخدع هذا ، ويخوض في أعراض هذا ، إلا من رحم ربي وهو رحيم.

في مشهد الحجيج المهيب ينتابك ما ينتابك من الصداع الفكري ، ما بين فرحة بالطقوس الموسمية المفروضة ، وحيرة من واقع الحال المعاش . إن الحقائق المرة خير ألف مرة من الأوهام المعسولة ، وإن أول مراحل العلاج لهي التشخيص السليم . وإنها لآفات لا يُستثني أحد من شَرك الوقوع فيها وأولهم كاتب هذه السطور! . الحقيقة المرة الأولي والتي ليس للجدل فيها مكان ، هي أن المسلمين أساءوا للإسلام أكثرَ مما أساء أعدائه إليه . أما الحقيقة المرة الثانية والتي هي محل جدل، هي أن المسؤولية مشتركة بين محكوم تخلي عن دوره تجاه دوائر تأثيره وهي نفسه وأسرته ومجتمعه الصغير وبين حُكام لا يدركون الأولويات ، ولو أدركوها ما استطاعوا مُضياً في التخطيط السليم لها ، ولو استطاعوا التخطيط السليم لم يستعينوا بأهل الدراية في التنفيذ فتَعود الأولويات إلي مربعات الضياع مرة أخري علي يد غير الأكفاء من ذوي الحُظوة.

إنه لَعَمري مؤتمر عظيم ، تتخطي مقاصده التلبية والإحرام والتهليل والتكبير ، وتتجاوز أجندته العبادات والتي هي بين العباد وربهم ، إلي ما بين العباد والعباد ، حكاماً كانوا أم محكومين . وهو فرصة سانحة في أجواء روحانية سامية استثنائية ، وفي توافق وتناغم قَل ما يتوافر في الظروف العادية ، مؤتمر الحج ، هكذا أُسَميه بلغة عصري ، فرصة سانحة لفعاليات اجتماعية وثقافية ودينية وسياسية علي الهامش ، أن يُطرح علي الموائد المستديرة الكثير الأساسي الذي نتفق فيه وعليه ، وأن نغض الطرف عن القليل الفرعي الذي نختلف فيه وعليه .

ثَمةَ فرصة سانحة لنتأمل أحوالنا وما آل إليه واقع خير أمة أُخرجت للناس ، فيجتمع الخبراء في كل مجال ، والباحثون عن الحقيقة في شتي ضروب المعرفة من أجل النهوض بهذه الأمة التي تستحق النهوض . فإذا صدقت النوايا وصَفت السرائر وأُعملت العقول وشُحذت العزائم والهمم ، لا شك أن تلك الفعاليات ستكون لبنات إيجابية في بناء شاهق متين ، تأسس علي دين قويم واسع واقعي ، كان معتنقوه وللأسف ، هم السبب الرئيسي وراء الترويج السلبي له ، و الفَهم المغلوط لمنهجه القويم وتوجهه الإيجابي المنفتح.

هي دعوة للمسلمين ، الذين إستطاعوا إليه سبيلاً هذا العام والذين يستطيعون إليه سبيلاً في كل عام ممن مَن الله عليهم بيسر الحال وسَعة الرزق ،  ها أنتم وقد من الله عليكم بقضاء الفريضة ، وها أنتم تَرجعون من حجكم المبرور، مغفور ذنبكم كيوم ولدتكم أمهاتكم  . اقترح عليكم إن عزمتم الحج مرة أخري في أعوام مقبلة أخري ، أن تنظروا بعين الأولوية والاعتبار لذويكم وجيرانكم ومن تعرفون ممن أقعدهم الفقر عن تلبية حاجيات أبنائهم المدرسية ، أو علاج ذوي المرض منهم ، أو تكاليف زواج أبنائهم وبناتهم . فإن آثرتم أن تنفقوا هذه المبالغ التي تبدو زهيدة عندكم وذات قيمة عندهم ، علي ذوي الحاجات ، وهم كُثر فقد فَرجتم عنهم كربة ، وتركتم مكانكم علي صعيد الحج لحاج جديد ، فلا تتزاحمون ولا تُصابون لا قدر الله بمكروه . وإنكم إن فعلتم ، فقد جمعتم بين الحسنيين ، درأ المفسدة ، وجلب المنفعة في آن .

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز