عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
السباحة على الشاطىء!

السباحة على الشاطىء!

بقلم : د. عزة بدر

كنت والبحر عاشقين .. أكتفى منه فى ليالى الصيف بالنظر , وأتأمله فى ليالى الشتاء على مهل ! .
كنت والبحر عاشقين .. ما ألقيت نفسى بين ذراعيه  إلا فى سنىّ الطفولة , كنت أقبِّله فى فمه فيقبلنى على جبينى ! , أناديه : ياحبيبى فيجاوبنى : ياطفلتى ! .
أنزل حمالة المايوه , وأتخطر على شاطئيه فيفاجئنى بكيس من غزل البنات , وحفنة من قواقع , أوشوشه
وأُسر له بخافية قلبى فينأى بموجه بعيدا عنى , يعانق الحسناوات على مرأى من قلبى , اللابسات ثياب البحر,
الناهدات الممتلئات لكنهن لايحملن مثل شوقى , عريانات من الشغف الذى يملأ جنبات حسى , كنت أقف ببدن عصفورة أمام أمواجه العوالى أتصدر مشهد الغضب , وأتصدى لما بقى على يدىَّ من الزَبَد , وأعود منهكة خاوية الوفاض إلى الشاطىء , مضروبة بسيل من زخاته , مسوطة بقبضات من الرمل لكنى كنت أبنى منه بيوتا وقصورا سرعان ما يأتى البحر ليهدمها بقدميه  يقول : سيرى يا طفلتى بجوار الشاطىء حتى تصلى إلى طفولتك .. سيرى ولا تتعجلى سنوات عمرك فأقول : لا بل أسير إلى جوار العواصف , وأنازل الموج بكتفى عصفورتين  , وألقط السماوات بمنقار حمامة  ! فيدفعنى أمامه مبللة الوجنات بالملح , باكية العينين , فأختفى عن ناظريه فإن جُن الليل وجُننت أخرج إلى  شاطئيه لا أبارح حتى يخرج لى فيعيدنى ثانية إلى مرابع طفولتى وأمنى , ويربط على قلبى ! .
أعوام عديدة مرت , أضفت  فيها إلى المايوه كمين وبنطلونا وقيدت شعرى وذهبت إليه .. تأملنى فما عرفنى .. كان كعادته مع الحسناوات اللواتى اكتفين بغلالات رقيقة , ونزلن من فوق أشجارهن ثمارا شهية بين يديه فأطعمهن شهد الأمواج , و أمدهن بأحقاق كريم الحماية من الشمس , وناولهن أطواق النجاة , وتركنى وحدى على الشاطىء بمايوه أسود بكمين وبنطلون يمتد من صدرى  إلى اخمص قدمىّ .



من بعيد , ويردنى إلى قمائن أنوثتى , يشير إلى
قماقم تلف أعناقها شرائط النحاس , يسألنى : سيدتى .. من أين جئت ؟ , وإلى أين تنوين الذهاب ؟ ! .
فأغنى بعينين باكيتين : "  اشتقت إليك فعلمنى ألا أشتاق / علمنى كيف تموت الدمعة فى الأحداق  ؟ " فيضحك باسما ! , يلم أمواجه , ويشمر عن ساعديه , ويشير إلى البعيد وبين يديه نجمة بحر بأصابع خمس تشهر فى وجهى أظافرها , تأمرنى بأن أعود إلى الشاطىء  فأعود إلى قمائن أنوثتى , وقماقم من نحاس لم أردها
 لكنها مكتوبة علىّ , مرسومة على جبينى كوشم بماء النار , أخضر لكنه أسود من سواد الليل كأجنحة طير مقصوصة , كأوكار طيور لكنها مسقوفة بالمسامير المحماة بالويل , يردنى فأعود ثانية فى الليل فيرق لى .. يتردد صوته كأنه قادم من أعماق بئر , وليس من أعماق البحر : " جاءت معذبتى فى غيهب الغسق / كأنها الكوكب الدرى فى الأفق / فقلت لها : نورتنى ياخير زائرة / أما خشيت من الحراس فى الطرق ؟ "

فقلت وقد عرفت مقصده  : " من يركب البحر لا يخشى من الغرق ! " .
فيبتسم ساعة , وساعة يُجن فيلطمنى بالموج , ويجرى خلفى بزجاجة مما يتركه الغرقى , ويتلو على ّ رسائلهم  فأضع أصابعى فى أذنى فيكسر الزجاجة على شاطئيه , ويعدو خلفى برقبة الزجاجة , بشفرة حمراء من شفتيه , وأخرى زرقاء من عينيه فأثبت له ولا أجرى بل أهمس : " إن كنت أعز عليك فخذ بيدىّ / فأنا مأخوذة من رأسى حتى قدمىّ " ! .
فيلقى بعيدا برقبة الزجاجة , ويرمى شفرتيه .. شفرة عينيه وشفتيه . , وللمرة الألف يعيدنى إلى الشاطىء كامرأة من ألف ليلة وليلة , لم يبق لها سوى قمقم مزنر بشريط من نحاس , ومايوه بكمين , وبنطلون يمتد من الصدر حتى اخمص القدمين  .

امرأة نصفها من لحم ودم , ونصفها الآخر من مرمر

أقول له : رشنى بماء سحرك , اغمرنى بمحبتك فيرد أمواجه عنى , ويخبئها لغيرى من عرائس البحر اللواتى ليس لهن أى نصيب من شوقى , و شغفى .
..... ردنى فى الليل فعدت فى الصباح , وقد عرفت من أمره وأمرى سرا أخفيته فى قلب قلبى .

ألقيت نفسى بعيدا عنه , على مرأى من عينيه , كنت أقرب إلى نعمة الشاطىء , وأبعد من لجة مائه , بين العمق الدافىء والقرب الرملىّ .
أريته رقصة نفسى , ألعاب الماء التى اختزنتها فى قلبى كالنوافير بأقواسها الساحرة الملونة , اتكأت على جذور الرمل , ورفعت ساقى ّ , ومشيت على رأسى  لايمسنى صدف , ولاتخزنى قواقع , داعبت سطح الماء وركبت دراجة الهواء فحركت ساقىَََّ كأقواس الماء الملونة , حولت نصف مائه بفنجانى إلى مسابح العشاق , فى دوامة الفراغ صنعت من جسدى مروحة كبيرة تدور على محورها , وتنفش ريشها مكهربة  كديك البحر , أرفس الأمواج بقدمى كما لوكنت حصانا تائها فى البحر يود لو يعود إلى الشاطىء .

أقبض من إثر الأمواج فأتحول إلى موجة , تارة أحوِّم على وجه الماء كعصفور نزق , وتارة أفتح فمى عن آخره , وأدمع كتمساح فيصدقنى طائر زقزاق , ويرقص على شفتى , يلقط ما أُسر به من الخبز والكلمات .
مرة أتكهرب فأرقص , وأهز ربلة ساقى , وأرعش رمانة ذراعى , وأرسم دوائر من فراغ , ومرة ألتقط  الزَبَد بشفتى فأحيله إلى شراب معسول من توت فأسقى البحر فى فمه , وأهمس : أنا التى حولت لك الدنيا بفنجان فأعطنى شربة منك لا أظمأ من بعدها أبدا  .

ينأى بجانبه بعد أن شرب وثمل , لم تأسره من قبل أغنيات الطفولة , وحجبتنى عنه ملابس بحر بكمين , وبنطلون يمتد من صدرى إلى اخمص قدمى ّ ! .
ومع ذلك أريته ما استطعت من ألعاب الماء , ومن رقصات سحرى , أريته فنون السباحة على الشاطىء , أسمعه لحنى الخاص , موسيقاى الخافتة العميقة , الموسيقى التى لا تعرفها عرائسه اللواتى لايعرفن طعم شغفى فانساب صوتى دُلا خالصا , يملأ صدر البحر بأنات ناى , برنات معازف , ودقات طبول , وبازات .
شددت أوتارا , وأرخيت أوتارا , غنيت من سكون الوصل أغنية لا يعرفها  البحر ولم أغنها على شاطئه
من قبل " يا بدر يا للى السحاب / حجب بهاك عن عيونى / هدانى نورك وطاب /  ليلى  ونامت شجونى /
رجعت بعد الغياب / يافرحتى بالتدانى / كل المحاسن كتاب / وانت اللى فيه من معانى " .

وكأننى عرفت السر , ألفيته يلقى بنفسه  بين ذراعىّ على الشاطىء فأغمضت عينى , سرت إلى جوار عاصفة فصار لى .

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز