عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مدارس المتطرفين وجامعات الإرهاب

مدارس المتطرفين وجامعات الإرهاب

بقلم : محمد عبد السلام

أههههههههه".. صرخة دائما ما تدوي داخل المعتقلات، قد يكون صاحبها متشدد أو متطرف أو حتي في سنة أولي إرهاب، كورباج ورا كورباج، شحنة كهرباء أو نار السيجار علي الجسد تنطفي، ومع كل نقطة دم تسيل علي أرض الزنازين، يكبر الإرهابي النونو ويصبح خليفة جماعة من المعذبين، ليخرجوا من السجون وينتقموا من المجتمع، بل من الإنسانية التي فقدوها، أو أُجبروا علي فقدها داخل السجون.



المشهد الأول

إنطلقت صرخة مدوية داخل المنزل الطيني لتخترق جدار الصمت الذي ساد القرية العراقية الفقيرة التابعة لمحافظة "ديالي" المتأخمة للحدود الإيرانية، صرخة أم تدفع ألما وليدها ليخرج الي الهواء الطلق، إلتفت حولها نساء قريتها يشمرن عن سواعدهن لمساعدتها في دفع وليدها للحياة، يصل الي مسامعهن زفرات زوج يقطع الغرفة اياباً وذهاباً، لا يعلمن هل قلقاً علي زوجتة أم شوقاً للقاء طفلة.

تهللت آسارير الزوج فرحاً عندما سمع بأذنية صراخ طفل، دمعت عينية، وراح يقفز مهللا "لقد أصبح عواد أبا.. لقد أصبح عواد أبا".. لم يشعر الرجل بأصدقائة وبأهل قريتة وهم يهنئونة، كانت كل حواسة هناك، داخل الغرفة مع وليدة وزوجتة، هامسا: "لقد جاء يا حبيبتي.. إبننا جاء.. سيكون خليلي في هذه الدنيا.. نعم سأسمية أبراهيم.. إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي.

"إنه أبو بكر البغدادي".. ولد عام 1971 في مدينة سامراء بالعراق، لعائلة متدينة تنتمي إلى عشيرة البدري وهي فرع من عشيرة البوعباس، تدعي صلة نسب بالإمام الحسن بن علي، ما يعني أن أبو بكر ينتسب إلي قريش وهذا إحدى شروط الإمامة العامة لدي الجهاديين، وإن كانت جمعية تنزيه النسب العلوي والتحقيق في الأنساب الهاشمية أصدرت بياناً عام 2009 يؤكد أن بوبدري لا ينتسبون لمحمد الجواد ولا للقاسم بن إدريس من الحسنيين كما يزعمون.

المشهد الثاني

"داخل إحدي الغرف السكنية النائية بمحافظة الأنبار وتحديدا في مدينة الفلوجة، جلس البغدادي يطالع كتاباً دينياً لأحد فقهاء الإسلام السياسي، لقد اصبح شابا لم يتجاوز الثانية والثلاثون بعد، قمحي البشرة ذو عيون ثاقبة سوداء وجبهة عريضة، يرتدي جلباب ابيض قصير وسروال من نفس اللون، كان يقرأ صفحات كتابة بتركيز عجيب، غير عابئ بالإضاءة الخافتة والنوافذ المغلقة، بين الفينة والأخري يرفع يدية ليعدل من نظارته الطبية، أو لميسح علي لحيتة السوداء التي اطلقها منذ سنين عددا.

وبينما هو منهمكاً في القراءة إنتفض فزعاً عقب سماع جلبة خارج غرفتة، فقد علم المارينز أخيراً مخبئة، وتحاصرة شرذمة منهم للقبض عليه، نظر البغدادي إلي سلاحة، حاول أن يقاوم إلا أن ضربة قويه أفقدتة الوعي ليسقط بين العشرات كجلمود صخر.

"أنت.. قم.. إصحي".. كلمات عربية  بلكنة ركيكة يبدوا أن صاحبها لا يتحدث لغتها، خُيل لـ"البغدادي" أنها مجرد كلمات يسمع صداها في أحد كوابيسة التي لم تفارقة منذ أن إنشق عن تنظيم القاعدة وقرر أن يحمل السلاح لمقاومة الأمريكان، عنف ما تلقاه جسده من ضربات جعلته يدرك أن ما يسمعه ويشعر به ليس حُلماً، بل واقع أشد قسوة من كل كوابس الأرض، حاول أن يفتح عينية، لم يطاوعة جفنية، حاول أن يقف، ولكنه فشل، فقد كبلوا يديه وعصبوا عينيه، فتمتم بصوت واهن، كيف أنهض؟.

شعر البغدادي بيد أحد الجنود تفك وثاق قدميه، وبيد أخر تزيح عصابة عينية، ثم إمتدت اليد الأولي لتساعده علي النهوض، للوهلة الأولي أدرك اين هو، إنه داخل إحدي مدرعات الجيش الأمريكي تقف أمام واحده من أسوأ السجون الأمريكية سمعة في بلدة الكرمة، إنه سجن "بوكا" الممتد الأطراف على امتداد الحدود الكويتية، والذي يضم بعضاً من أكثر متطرفي العراق، بل والإقليم كله.

"هيا إنزل من السيارة".. نفس الصوت الركيك عاد ليدفعة بهراوة غليظة من جديد، إضطر البغدادي تحت تاثيرها للنزول من السيارة العسكرية، وأخذ يسير ببطئ في طريقه إلى السجن، فقد فكوا وثاقة ولكنهم تركوه مكبلا بالسلاسل الحديدية والأغلال، يقودة ثلاثة من المارينز الي ساحة واسعة تطل عليها ثلاثة مباني ذات إضاءة ساطعة، ثم إلى متاهة من الأروقة تنفتح على باحة بها رجال وقفوا يحملقون فيه بحذر، يلتحفون زياً ذا لون أصفر زاهي.

دخل أبو بكر البغدادي معسكر بوكا شابا يبلغ من العمر 32 عاما، وأصبح اليوم الزعيم والخليفة لتنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق، بعد أن قضي ما يقرب من ثلاثة سنوات داخل إحدي زنازين سجن بوكا، ذلك السجن الذي وجد فيه ضالتة، من معتقل يرغب في الإنتقام، إلي متطرف يسعي للتدريب الفكري والأيديولوجي، لإرهابي نونو يريد أن يتوحش، ومع الوقت سيتحول إلي زعيم من المتوحشين.

المشهد الثالث

"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. السلام عليكم ورحمة الله".. أنهي الشيخ جابر صلاة العصر فردد خلفة المُصلين ما قال، لم يكن بالمسجد سوي بضع لا يزيد عن تسعة من الرجال، لم يكن مسجداً بل زاوية صغيرة من الطين اللبن، كتلك التي تنتشر في قري مدينة بلطيم في منتصف ستينيات القرن الماضي، يتسلل من نافذتها الوحيدة هواء بحيرة البرلس الصيفي، ما خلق سكينة رواحانية بين المُصلين.

في أحد أركان المسجد إنزوي أحدهم بجلبابة الأبيض ولحيتة السوداء يردد بعض الأدعية، من فرط خشوعة لم يشعر بمن يقترب منه، رجل عظيم الجثة، قمحي البشرة، حليق الرأس، كث اللحية، وضع كفة الغليظ علي كتفيه قائلاً: أراك لا تترك صلاة معنا، وكأنك منذ اليوم واحداً منا، كرجل عسكري إرتابه، لم يدرك في بادئ الأمر مقصدة، لكنه فطن إلي مأربة حينما ردد بإبتسامة صفراء، كُن معنا، وقبل أن ينسلخ النهار من الليل، هرع الرجل إلي القاهرة، وهناك إلتقي قائدة ليبلغة سراً بأمر ذاك الذي يريد تجنيده، ففُتحت أبواب جهنهم.

لم يكن هذا مشهداً سينمائياً من روائع السينما السياسية التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي، بل واقع عايشته مصر في صيف 1965، حينما حاول أحد أعضاء جماعة الإخوان تجنيد أحد الضباط، فتم اعتقال الآلاف تحت زعم الإنتماء لها، ونتيجة للصراع المرير بين شعراوي جمعة وعبد الحكيم عامر، وبعد ان كان عدد الجماعة، وفقا لما أكده لي الواء أحمد عبد الرحمن مدير مباحث امن المصري الدولة الاسبق في إحدي حواراتي معه لا يزيد عن 495 شخص، خرجت السجون أكثر من 30 ألف إنجذبوا إليها بوجوب القتال من أجل تطبيق "حاكمية الإسلام"، كما أن كثيرا من تلك الأفكار تجذرت في كتب لمفكرين إسلاميين، استطاعوا معها إعادة إنتاج الفكر الحركي الإسلامي.

الخلاصة

"الظلم يصنع الكراهية.. والكراهية تصنع التطرف.. وقبل التطرف يغسلون الأدمغة".. هذا ما يراة أغلب محللون ومختصوا شئون الجماعات الارهابية المسلحة، فعملية "غسيل الدماغ" عادة ما تكون الباب الرسمي لزرع التطرف في العقول التي تشعر بالظلم، فمن خلال الجلسات اليومية وحلقات الدعوة الذي يلتقي فيها السجناء يوميا، ينتقل الفكر المتطرف بين الجميع، وعندما يخرجون يبدأون في الانتقام من الجميع.

"لقد تحولت السجون إلي مدارس لتخريج المتطرفون".. هكذا أجمع خبراء مكافحة الإرهاب في أوروبا، فجميع المتطرفين الذين إلتحقون بتنظيمات متطرفة، تعلموا فنون الإرهاب والتفجير والتفخيخ داخل جدرانها، ويكمن أحد أهدافهم الرئيسة في اقتحام السجون والإفراج عن الجماعات التي تنتظر الخروج وهي معبأة بالكامل لتنفيذ كل المهمات التي توكل لها.

يقف تنظيم داعش بقياداتة كنموذج واقعي لما يمكن أن تقدمة السجون العربية لعالم الإرهاب والتطرف، فهذا التنظيم ولد وترعرع ونشأ داخل سجن "بوكا" العراقي، ويكفي أن تسعة من كبار قياداته حصلوا علي شهادة التخرج بعد أن قضوا داخلة فترة الدراسة، فطقبا لمؤسسة "مجموعة صوفان" المعنية بتحليل قضايا الإرهاب، قضي أبو بكر البغدادي خمسة سنوات بسجن "بوكا"، وفي نفس الفترة كان بالسجن بعض القيادات الأخري أمثال "أبو مسلم التركماني الرجل الثاني في التنظيم، و"حاجي بكر" القيادي الذي توفي عام، و"أبو قاسم" قائد المقاتلين الأجانب.

"السجون العربية تحولت إلى جامعات إرهابية فعلية".. هذا كان رأي "أندرو طومبسون" أحد العسكريين الأمريكيين في مقال له بصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أكد من خلالة علي انه قبل احتجاز أبو بكر البغدادي والكثير من الراديكاليين كانوا يميلون الي العنف وعازمين على مهاجمة أمريكا، ولكن جاءت فترة احتجازهم في السجن لتعمق تطرفهم ولتمنحهم فرصة توسيع دائرة أتباعهم، ومن ثم تحولت السجون إلى جامعة إرهابية، لعب فيها الراديكاليون المخضرمون دور الأساتذة، بينما كان باقي السجناء الطلاب، أما سلطات السجن فلعبت دور الحارس عليهم.

تلك الفكرة أبرزتها صحيفة "واشنطن بوست" فيما بعد في أحد تحقيقاتها عن انتشار ظاهرة الإرهاب في الشرق الأوسط، إذ لاحظ بعض مديري السجون العربية ظاهرة تنامي التطرف في السجون قائلا: "كان هناك ضغط جماعي هائل يمارس على السجناء كي يتحولوا نحو مزيد من الراديكالية في أفكارهم، لقد لجأ السجناء بعضهم لبعض طلبا للدعم، وحال وجود راديكاليين في الدائرة الداعمة لهم، تظهر حينئذ دوما احتمالية اعتناقهم مزيدا من الراديكالية".

"درس خصوصي للسجناء.. والمدرس خبير تنظيم قاعدة سابق.. هكذا ولدت داعش في بوكا".. في الحقيقة لم يكن ابو بكر البغدادي زعيم أكثر الجماعات الإرهابية تطرفا ظهرت في القرن الواحد والعشرين ممثلة في تنظيم "داعش" في سوريا والعراق معروفا، وعقب سقوط بغداد في التاسع من ابريل من عام 2003، سارع الجيش الأمريكي بالقبض علي عشرات ومئات بل والآلاف من الشباب، وتم إدخالهم عدد كبير من السجون العراقية، وكان البغدادي أحد السجناء في بوكا، وكانت الفترة التي أمضاها هناك كفيلة بإعادة صياغته ليخرج منها قائدا متطرفا بصورة أشد من تنظيم القاعدة، فداخل "بوكا" تعلم كيف يصبح أشرس إرهابي علي سطح الكرة الأرضية.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز