عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الدنيا ريشة في هوا...

الدنيا ريشة في هوا...

بقلم : أمل حجازي
    كانت دائما تستوقفني كلمات هذه الأغنية الجميلة:" الدنيا ريشة في هوا...طايرة بغير جناحين...احنا النهاردة سوا...وبكرة حنكون فين...في الدنيا ...في الدنيا". وكنت أتأمل في معناها رغم صغر سني آنذاك. وفى مرة سألت أبي: "يعني إيه الدنيا ريشة يا بابا؟" فقال لي جملة لم ولن أنساها ما حييت: " الدنيا جميلة وخفيفة مثل الريشة ستطيرين معها عاليا عندما تحملك هي وتحلقين بعيدا، فأتركي لها نفسك وتحركي معها بخفة ورشاقة ولا تقاومي كثيرا فهي تعرف جيدا ماذا تريدين" كان هذا تحليل أبي البسيط لطفلة صغيرة يكفيها أن تعرف هذا الجزء الجميل عن الحياة. وعندما كبرت وتمعنت في باقي كلمات الأغنية فوجدتها تقول: " يا لي بتسأل عن الحياة خدها كده زي ما هي فيها ابتسامة وفيها آه فيها آسية وحنية"...فعرفت أن الحياة أبدا لا تسيرعلي وتيرة واحدة.
 واليوم، أسمحوا لي أن أخذكم معي في رحلة على بساط الريح لنحلق بعيدا عن الأرض، ونجرب كيف تكون الدنيا بالفعل " ريشة في هوا". سنحلق معا على أنغام الموسيقي؛ الموسيقى التي تأخذك من مكانك وتذهب بك إلى مكان آخر، تنسيك الهم والغم، فتحملك الألحان والنغمات عاليا وترقص كالعصفور بخفة ونعومة على درجات السلم الموسيقي.
الموسيقى هي لغة العالم الوحيدة التي يستوي الناس جميعا في إدراكها مهما اختلفت أجناسهم ومبادئهم وأفكارهم. وتشبه الموسيقى كثيرا الكتابة؛ فللكلمات نبض لا يتكرر، والكتابة ما هي إلا عزف على أوتار الحياة. وكما ترتقي الموسيقى بالنفوس، ترتقي الحروف والكلمات الراقية بالعقول. هل انتبهتم إلى موسيقي الطبيعة؟ هل أطربك ذات مرة صوت الكروان في صباح مبكر؟ هل اهتزت أوتار قلبك مع صوت حفيف أغصان الأشجار؟ هل سألت مرة لمن تزقزق العصافير في الصباح؟ هل يا ترى تناجي زهور الحقل أم تحاكي أغصان الأشجار، وهل يرد عليها خرير المياه؟ وهل رق لها قلب عاشق ولهان أستيقظ لتوه على كل تلك الأصوات الخلابة؟ هل حركت مفاتيح الإلهام لكاتب ألتقط لتوه فكرة جديدة من موسيقى الطبيعة؟ موسيقى الطبيعة هي تلك الألحان العذبة التي تعزفها آلات ذات طابع فريد؛ تجمعها الألفة ويغلفها الجمال، تستمد طاقتها من الحياة، إنها الطاقة الكونية الرائعة.
  ولأن الدنيا كما قلنا في البداية " ريشة في هوا " فقد طرت معها وطار عقلي عندما قررت أن أذهب لحضور حفلة موسيقية لموسيقار عالمي، فذهبت وراءه حيث سيقيم حفلته الجديدة. ولأنني لست من النوع المتهور، فقد بدا الأمر لمن هم حولي بأنني قد فقدت عقلي تماما!! لكن قليل من الجنون لا يضر أبدا!! أليس كذلك؟
  ألهمني حضوري بين الجماهير الغفيرة التي أتت من جميع انحاء العالم فقط ل "تسمع"، فقط لتمتع حاسة " السمع" التي من خلالها يسرى شعور من البهجة ويصل تأثيره إلى المخ الذي يفرز مادة " السير وتونين" المسئولة عن " السعادة والنشوة ". طمأنني وجودهم كثيرا بأن العالم مازال بخير، وليس كما كان يبدو لي بكل حماقات الضوضاء والتلوث السمعي التي تحيط بنا في كل مكان. كان الحضور أنيقا، منمقا، منظما؛ يليق بالموسيقار اليوناني الكبير/ ياني. نظرت حولي في دهشة يملأها الفخر إعجابا بكل هذا العدد من الناس الذي ما يزال يحمل آذانا موسيقية، سافروا مثلي وقطعوا آلاف الأميال للاستماع والاستمتاع.
  وبدأ العرض؛ وتسربت الموسيقى لتملأ الأجواء. انسابت الألحان بعذوبة وقوة. تسللت النغمات والإيقاعات وعبرت إلى القلب الذي كان يقفز فرحا ويدق بلهفة الفرحة والحماس محدثا هو الأخر أوركسترا خاصة به هو وحده. بدأت الآلات تتحدث وتحكي لنا قصة ساحرة لا تملك إلا وأن تذهب بكل حواسك معها. نعم يختلف الأمر تماما عن الأسطوانة التي تسمعها في المنزل وأنت تجلس وحيدا. ففي المسرح وبين الحضور تشعر بنبضات القلوب مع دقات الطبول، تسمع تهليل الأصوات مع انتهاء عازف الكمان من جملته الموسيقية الخرافية. يخفت صوت " البيانو" بحنية وسلاسة ليعلو صوت " التشيلو" برشاقة وإثارة، ثم يستقبلهما صوت " الترومبيت" الرخيم تداعبهما ذبذبات ناعمة من صوت " الكمان " الحزين التي تقلب عليك الشجن والبهجة في آن واحد. لم أكن أريد ان استيقظ من هذا الحلم الأسطوري الجميل، ولكن تصفيق الجمهور كان حادا وقويا معلنا نهاية الحفل الساحر. والآن قولوا لي: ألم يستحق هذا الجمال كل الجنون؟ يكفي أن أقول لكم أن جرعة السعادة والبهجة التي اكتسبتها من ذلك الحفل تكفيني لسنوات قادمة!!!
    وفى الطائرة التي تحملني إلى الوطن، تذكرت كلمات الأغنية وشرح أبى المبسط لها، تذكرتها ربما لأنني بهذه الطائرة كالريشة المعلقة في الهوا. وصلت بسلام إلى مطار القاهرة ومعي من الحقائب والهدايا وزنا لا بأس به، ولكنني خشيت ان ادفع وزنا زائدا علي ما أحمله داخل قلبي من بهجة وسعادة ونوع جديد من الحب لم أذق طعمه من قبل. أنه حب الحياة التي كانت تتحدث عنه الأغنية: " خدها كده زى ما هي ". الحياة بها من القسوة ما يكفي لينهكك، ومن العذاب ما يكفي لتشعر باليأس، لذا فعندما تقرر الحياة أن تلهو قليلا معك وتسري عنك، فإياك أن تضيع الفرصة.
   سافر...أهرب...حب...عش...جن...افرح...لا تبالي طالما كل ما تفعله لا يضر أحدا، وطالما كل ما تفعله هدفه الأول والأخير أن تحصل على السعادة والهناء. يوما ما سيأتي الحزن. يوما ما سيفارقك من تحبه. يوما ما ستتألم من وجع. يوما ما لن تقدر على السفر. يوما ما لن تستطيع تذوق كل ما تشتهيه نفسك. ستمنعك الحياة من مباهجها الجميلة فقط في الوقت الذي تراه هي مناسبا لذلك. لذا ففي المرة القادمة عندما تري الدنيا " ريشة في هوا " اربط حزام الأمان وحلق بعيدا معها فهي تعرف جيدا أنه الوقت المناسب فإياك أن تضيعه...فلن يعود!
" يموت ببطء من لا يسافر، من لا يقرأ، من لا يسمع الموسيقي، من لا يعرف كيف يري بهجة الأشياء بنفسه "..." بابلو نيرودا ".
   نسيت أن أقول لكم؛ بعد رحلتي بأيام قليلة، وأنا أقود السيارة مع ابنتي الصغيرة، قالت لي كالعادة: " ماما هأسمعك غنوة جديدة. "...أنا: " طبعا يا حبيبتي."
... فجاء صوت عبد الحليم قائلا: " حبيبها...لست وحدك حبيبها..." فانبهرت كثيرا!! هل تحسن ذوق ابنتي في الأيام القليلة التي غبت فيها عن البيت؟ ...ثم زال انبهاري وحلت محله الصدمة الكبرى عندما تحولت الأغنية إلى أغنية مهرجانات ليقول بعدها الرجل الذي صرخ فجاءة بصوت أحمق فأربكني عن القيادة قائلا: "...دي مصاحبة الشلة كلها..."!!
 ...لا تعليق!!



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز