عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
جنون الشمس وذاكرة الصقيع

جنون الشمس وذاكرة الصقيع

بقلم : د. عزة بدر
 «همسات ضائعة» مجموعة قصصية للكاتب عبدالهادى زيدان، وتتكون من ست وعشرين قصة تدور أحداثها وصورها فى عوالم مختلفة، فتارة تحلِّق فى فضاءات البوح العاطفى، وتارة تكثف الحكاية فى مشهد معبر ينتهى بإثارة دهشة القارئ، أو تعتمد على استبطان دواخل الشخصيات فيما يشبه الاعترافات الذاتية، أما أمكنة حكاياته فتدور فى مواطن متعددة فى المعابد الفرعونية وفى مزارات السياح، وفى الندوات الثقافية، وفى مساكن الإيواء!
لكن الملمح البارز فيها أنها تسفر عن الوجه الحقيقى للشخصيات، وتكشف عن أسرارها الدفينة.

• فى انتظار التاج
أبطاله ينتظرون فى صبر لحظات تتويجهم، يأملون فى الحصول على التقدير من مواطنيهم، اللحظات الحلوة التى يجتمع فيها الشمل حول حدث سار أو حزين، حدث مجيد أو بسيط، لكن ذلك لا يحدث أبدا مما يجعل أبطاله فى أسر معاناة داخلية تصهر نفوسهم أحيانا بمظاهر غاضبة وأخرى ثائرة أو تجنح إلى التحقق فى عالم الخيال.

وفى قصته «فى انتظار التاج» تتأمل بطلته فكرة منح التماثيل تيجانا منذ آلاف السنين، ذلك الإلهام الذى تجسد أمام عينى البطلة عندما تجلى الجبل تاجا لمعبد حتشبسوت، ويصبح التأمل والصورة البصرية للتاج أمنية ذاتية للبطلة نفسها، يصبح ما هو تاريخى إرهاصة بأثر يبقى محفورا فى وجدان الشخصية «لعقت ما تبقى من مرارات اختفاء التيجان من حياتها، ومن يحيطون بها، تمنت لو كانت هى نفسها المعبد المرصع بالتاج»، وتتحول الأمنية إلى فعل «سارت نحو المعبد خطوات وئيدة.. شعرت باقترابها من التاج، الحراس يمنعونها من الوصول إليه، تحسست رأسها لم تجده».

وهنا يرصد الكاتب انكسار الحلم الذى لم يتوج، لم يحصل على شارة المجد القديم الخالد، حيث يتحول التاج إلى رمز لكل ما هو جميل ونبيل لابد من البحث عنه.

• همسات ضائعة
وتبدو فكرة التحقق أو التتويج هى الفكرة الرئيسية فى هذه المجموعة القصصية وقد تمثلها الكاتب بطرق سردية مختلفة فهو فى قصة «همسات ضائعة» عنوان المجموعة يحققها أيضا من خلال توحد بطلها مع لوحة تشكيلية بصرية يحدق فيها فتدفئ عالمه وتغمره بكل ملامح الجمال والوصل، يقبض بطله على روح اللحظة تماما كما بحثت فتاة المعبد عن التاج، عن الجمال الذى ولد ليبقى ويترك أثره فى النفوس، وهذه الهمسات الضائعة هى التى استمع إليها الكاتب فصَّورها، وبث فى اللوحات والتماثيل روح اللحظة التى تتجسد فيها آمال المرء وخيباته أيضا، فيقول بطل القصة المشوق لرحلة الجمال، للرحلة البصرية فى ملامح امرأة اللوحة: «كانت أسهمها تتوالى نحوه.. باسمة كسنابل القمح وضاءة كشموع تعزف آيات الوصل، مسودة كتراب الأرض الولادة خصبا، متوقدة بأشعة ما بعد بزوغ الفجر إلى مطلع خفقان القلب، آسفة مرور أحدهم حاملا أكواب الشاى الساخنة طلبا للـبيع».
ويتحقق الوصل والدفء رغم هذا وتتنزل المرأة من اللوحة بجمالها البهى فيتحقق الدفء وتنبعث المسرة: «نظر إلى خصلات شعرها التى تركتها دون ترتيب، يعرف أنها فعلت ذلك لأجله، كانت مترامية على جبينها المفعم بدماء تجرى فتحيل الوجنات إلى زهر يستنكر قطفه، بدأ الدفء يدب فى حناياه، لا يعرف إن كانت من حرارة الشاى الساخن أم من جراء تأمله لصدرها المتصبب عرقا كنهر يختزل جنون الشمس كى يمحو ذاكرة صقيع لا يألفه»، ثم ينكسر الحلم الذى تحول إلى حقيقة، ويصور الكاتب ذلك فى مشهد معبر، فيقول: «يدرك أنها تترفع أن تمنح أحدا غيره تلك النظرات العابرة لقسمات القلب أو ذاك الهمس اللاغى لفتور اللُب أو تلك الأنفاس النابعة من آبار حنين لا ينضب، أناملها تمتد إليه، يقترب منها، يستجدى دهشتها، تمتد أنامله إليها.. أصوات تتعالى وأخرى تنخفض.. هذا آخر يوم لعرض اللوحة»!

• حب حتى مطلع الكراهية!
فى هذه المجموعة القصصية يهتم الكاتب بالمونولوج الداخلى للشخصيات يصور هذا العالم الدفين، والمشاعر المسكوت عنها، ويكشف عن الأفكار الذهنية أو الشعورية التى قد لا يسهل التحدث عنها علانية، أو ينصرف الناس عن الاستماع لصاحبها فهو فى قصة «حب حتى مطلع الكراهية» يتحدث عن امرأة ذهبت لزيارة أبيها فى قبره ومن خلال استبطان حديث ذاتها نكتشف صورة حقيقية لعلاقتها بأبيها تلك الصورة التى امتلأت بالحب ووقفت عند حافة الكراهية! وإذ يثير الكاتب دهشة القارئ فهو يفتح الخزانة الخلفية لقلب تلك المرأة التى أجبرت طوال عمرها على معاشرة زوج لا تحبه خضوعا لأمر أبيها فتفصح البطلة عن مشاعرها بعدما ذهبت سيطرة الأب بوفاته، فوقفت المرأة عاتبة تتحدث إلى أبيها بعد زوال سلطته، ورغم سطوة حبها له لتبدو هذه المفارقة الشعورية المحتدمة، المتقلبة بين الحب والنقمة، والتمرد والطاعة أو هو الحب حتى مطلع الكراهية، فتقول البطلة: «لم تكن تدرك سر المجىء إليه حب يغمرها أم عتاب لا ينتهى، شوق إليه نفسه، أم إلى المكان الذى أقام فيه.. تتسمر شاخصة أمامه تستحضر آيات الرحمة، تستحضر صوته، هيبته، هيئته، كل مواقفه، لحظتها يتوقف مجرى الدمع، يتوارى الشوق، تتلاشى الآيات، تتداعى ذاكرة الهموم، وبقايا جرح لا يبرأ تلقى بما حملت أرضا، تتقيأ وهم الحب المارق لهويتها، تجتر لهيب الود السارق لطفولتها، تستحضر ضوء العتمة حين امتدت يده لتصافح من سماه لها يوما زوجا».
ثم يحتدم المونولوج الداخلى للشخصية ليفصح عن مأساة تلك المرأة:

«أعرف كم أعطيتنى، كم منحتنى، كم قدمت لى، أعرف.. نعم.. نعم أحببتك كثيرا، وخفتك أكثر، علمتنى كيف أقرأ وأكتب.. ولكن علمتنى أيضا أننى عورة، علمتنى أن الأمر شورى، واخترت لى من يشاطرنى الاغتصاب، علمتنى أن الحياة تجارب، ولم تتح لى خوضها، علمتنى أن أواجه الموت، ولم تعلمنى الحياة».

.. وتنتهى القصة أيضا بانكسار البطلة رغم ما أفصحت عنه من مصارحة الذات والكشف عن دواخلها الدفينة، إلا أنها تعود مجبرة إلى الصوت الذى يتعجل عودتها، الصوت الممتزج برائحة الموتى، تعرفه من مصافحة أبيها له تستجمع وهنها متوجهة نحوه.

وهنا تنتصر الإرادة الذكورية وسلطة الأب حتى بعد وفاته فى التحكم بمصير هذه المرأة التى واتتها لحظة القص، حيث قبضت بيدها على جمرة روح اللحظة.
 
• دفء الحكايا
ورغم انكسارات أبطال هذه القصص إلا أن الجانب المضىء من حيواتهم يتجلى فى عدة قصص فالدفء العائلى يطل من قصة «ابتسامات رافضة» والشهامة وطهارة القلب يتجليان من خلال بطلة قصة «يوميات صعلوك» حيث تتألق عوالم دافئة، ومناخات إيجابية تحث أبطال القصص على الحكى الدافئ، وتبعث الحيوية فى لغة السرد السريعة المتدفقة فى قصة «ابتسامات رافضة».

يسبقها صوت الخلخال، تهدأ ثورته يجلسها بجواره يرمقها بنظرات حانية تزيل تجاعيد اليوم المكتظ بعمل لا ينتهى يسألها عما فعل الأولاد فى غيابه تحكى له عن كل واحد منهم أقصوصة ربما لم تحدث، الأولاد ينتظرون صافرة البداية كى يبدأوا الطعام، زوجته تتعجل مد يديه كى لا يتأخر عن موعد نومه، البلدة، البلدة كلها لم تكن حظيت بالكهرباء بعد، حالة من الفرح تنتابهم بعد أن تناول أول لقمة.. رأوها إشارة المرور للطعام، زوجته توزع قطع اللحم الصغيرة عليهم، تختصه بقطعة أكبر.

الأولاد لم يعتادوا شرب الشاى يسألونه إن كان يطلب شيئا، يمنحهم ابتسامة الرافض، يتسابق كل منهم كى يحصل على غطاء للنوم، يصحب زوجته إلى غرفته التى ميزها ذاك السقف المحبوك بجريد النخل.. لمبة الكيروسين على موعد مع الانطفاء عند سماعهم لأم كلثوم.. تطفئها زوجته.. يدخلان الفراش معاً.. ضحكات خافتة تحيطهم.. يقفز أحد الأولاد من الفراش: احك لنا باقى حكاية أبو زيد الهلالى.

• يوميات صعلوك 
أما فى قصة «يوميات صعلوك» فيتجلى البطل الشاب الفقير لكنه كريم على نفسه، سلطان فى ذاته، طلبت إليه إحدى السائحات مرافقتها كمترجم فى نظير مقابل مادى فوافق إذ كان ما فى جيبه يكفى فقط لإعادته إلى بيته، وسافر معها فى جولة سياحية، وفى مزارات أثرية ثم يكشف الحوار عن دواخل الشخصيات، فهذا الشاب الفقير يتبدى أمامنا فارسا شهما لا يخضع لنزواته، ولا يستسلم لإغراء، فيقول بطل القصة: حجزت لها على أقرب طائرة إلى باريس، عندما وصلنا المطار سألتنى وفى عينيها نفس الحيرة التى كانت تعتلى وجهها أول مرة «ألست جميلة»؟

أجبتها: نعم - ألست جذابة؟
قلت: بل أكثر من ذلك
قالت: ألست لافتة لنظر الرجل
أجبتها: نعم...سألتنى إن كنت أنا كذلك فلم لم تشعرنى طوال الرحلة بأننى كذلك؟
قالت بأنها تعلم أن الشرقى ما هو إلا زير نساء لا تجرى فى دمائه سوى لغة الجسد، فلماذا لم تكن كذلك؟
وهنا يكشف الحوار عن دواخل الشخصية وتتبدى شجاعة الشاب ورؤيته لنفسه واحترامه لذاته:
أخبرتها بأننى لست هذا الرجل الذى يمتطى صهوة لذته، ولا من يشترى الرغبة ولا من يبتاع العشق، كنت فى مهمة وأديتها كما يجب على كما أعتقد.
ويتدفق الحوار لتعبر المرأة الأجنبية عن دهشتها، ويعبر هو عن مكنون كنوزه وحضارته.
أجابتنى: لكنك رجل شرقى.
أجبتها: نعم أنا كذلك سيدتى أنا ذلك الشرقى الذى بنى حضارات وأضاء كوناً، ورسم له كياناً عبر تاريخنا.. أنا مزيج من حضارات أمم وثقافات شعوب، وابتكارات عصور زاهية، سيدتى أعلم أنك فاتنة لكنى أيضا أعلم بأن ما دار فى رأسك لم يكن كافيا لتفهمى الشرقى كما يجب أن يفهم.
وتنتمى هذه القصة إلى الهمسات التى لن تضيع فى هذه المجموعة القصصية التى رصدت لحظات الانتصار كما صورت لحظات الانكسار لتتبدى الحياة كما نعرفها مزيجا من هذا وذاك يبدعها الفن، وتعيد صياغتها الكتابة حيث الأدب صنو الحياة، وتوأمها، به نراها ومعه تتألق، لحظات من جنون الشمس وذاكرة الصقيع. •



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز