عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
لا ثورة في المدينة الجائعة

لا ثورة في المدينة الجائعة

بقلم : محمد عبد السلام

"سبع سنوات في أحضان الراقصات".. أطلق الأستاذ فولان الفولاني عبارته تلك بمنتهي الفخر، ثم إنتظر قليلاً ليستشف رده فعلي، لم يآبه لحالة الإمتعاض التي أصابتني، لم يكترث لتجهم وجهي، كنت أنظر إلية بعين ملؤها الإحتقار، أنا الفتي الذي مازلت اخطو خطواتي الأولي في عالم الصحافة، جئت محملاً بأفكار مُعمقة عن عالم المثقفين، كنت من المخدوعين فيهم لدرجة أني أُصبت بالصدمة بمجرد أن علمت أن هذا "الفولان" أحدهم.



لا أظنكم قد سمعتوا عن هذا الكتاب من قبل، كما إنني أثق أنكم لم تعلموا عن هذا "الفولان" شيئاً، لذلك قصدت عدم ذكر إسمة علة أضحي نكرة هذه الأيام، فرغم مرور أكثر من إثنا عشر عاماً علي حديثي هذا معه، لم يعد هناك من يتذكره، كقطرة ماء صغيرة لم تحتمل قيظ شمس حارقة تبخرت، ولم يعد له وجود، لفظة مجتمع المثقفين الذي رغم معاناته لازال قادراً علي توخي الحذر مع هؤلاء.

بالأمس القريب عشت تجربتي المعتاده مع عالم الناشرين، فأنا فتي أدعي إنتماءاً لعالم المثقفين، ليس لأن لي عدداً من المؤلفات، أو لأنني أصبحت كاتب رأي، وتمكنت من صياغة هذا المقال، بل لأنني أدركت أخيراً أن الإنتماء لهذا العالم يحتاج لشغف الباحثين علي المعرفة بكل ما تحملة الكلمة من معني، وهذا رأي لا مِراء فيه، فحينما خرجت ساعياً لنشر كتابي الجديد كنت محملاً بهموم كل كاتب مصري، وربما عربي أيضاً، فكما قال أحدهم ذات مرة ساخراً: "يا عزيزي ليس هذا زمن الكُتب".

"عارف لو كانت رواية كان الناشرين خطفوها منك".. أطرقت برأسي خجلاً وكأني إرتكبت خطيئة بمؤلفي هذا، تساءلت في قرارة نفسي ساخراً: "كيف فعلت تلك الفعلة الحمقاء، كيف تؤلف كتاباً وليس رواية"، والأدهي أنه كتاباً علمياً وليس سياسياً كتلك التي تدعي معرفة ببواطن الأمور الإستراتيجية، كدت أعتذر للرجل علي تلك الفعلة الحمقاء، مع وعد بعدم تكرارها مرة ثانية، بل إني أقسمت بأن لا تلمس أناملي قلم بعد اليوم، وكالعادة حنثت يميني وعدت إلي القلم كاتباً.

"مصر تؤلف ولبنان تطبع والعراق يقرأ".. هل تذكرون تلك العبارة التي رددناها قديما سنين عددا، كان للكاتب ومؤلفة تقديراً عظيماً، وقبل أن نسمع تلك العبارة بآلاف السنين، كانت منزلة الكاتب من أكثر المناصب تعرضاً للحسد في شرق مصر ومغاربها، ويكفي أن أصحاب القبور من الفراعين العظام منذ عهد خوفو، حرصوا علي تصوير أنفسهم في جلسة القارئ أو الكاتب، ليس كما نفعل اليوم حينما نضع صورة البروفايل الشخصي ونحن نمثل إننا كـ"المفكرين" دون أن نكتب شيئاً ذا قيمة.

ذات يوم منذ ست سنوات سألت إحدي الكاتبات، وكانت تدعي شأناً عظيما في الوسط الثقافي في بر مصر، عن إمكانية نشر كتاب بحثي عن نقد جائزة نوبل، ولم أكن يومها قد خضت تلك التجربة بعد، ولم أنس حتي الأن نظرتها لي، وقالت بصوت لا ينتمي إلا لحانة رخيصة: "نوبل إية يا عم.. إنت عايز تقفلنا الدار.. وحياة أبوك شوفلنا حاجة تانية وأنا هكرمك"، غلبني الصمت يومها، لم يعد لدي لساني الطليق أي قدرة علي الكلام، غلبتني غيبوبة عميقة لم أفق منها، حتي لمحتها صدفة في إحدي البرامج الحوارية تتحدث عن أزمة الكُتاب والكتابة وعالم المثقفين في مصر، والأدهي أنها تبرعت بتقديم حلول لتشجيع الفكر الحقيقي.

"إديني في الهايف وأنا أحبك يا فاننس".. أقسم أن تلك العبارة الرائعة للعبقري محمود عبد العزيز في رائعة الكاتب محمود أبو زيد "الكيف"، خرجت من فم أحد كُتاب هذا الزمن الأغبر، وقد فوجئت به في معرض الكتاب الماضي يجلس أمام إحدي الخيام علي طاولة مليئة بكتابة المثير للجدل، وأمامة يمتد طابور لا ينتهي من الحالمين بتوقيع سيادتة، لا أعلم صراحة هل أحقد علية، أم أشفق علي مجتمع وصل به الحال إلي هذا الوضع المتدني.

"لا ثورة في هذا المدينة الجائعة".."لماذا تقول هذا يا سيدي، فالجوع سبباً أدعي لثورة الحالمين برغيف العيش".. "لم أقصد جوع البطون يا بني، بل أقصد جوع العقول".. حوار هادئ جمعني بالأديب المصري العظيم بهاء طاهر إبريل الماضي، فذلك الأديب لا يؤمن بثورة في ظل عقول خاوية، لا يؤمن بثورة في ظل غياب دور واضح للمثقفين، فجأة إنكلق بضحكاتة الساخرة، نفث دخان سيجاره في فضاء الغرفة، ثم رفع سبابتة إلي النافذة وكأنه يشير الي مصر من الطابق الحادي عشر قائلاً: "هذه المدينة تنفق أموالها علي كُتاب ليس لهم قيمة.. في حين أهم الكُتاب لا يحققون مبيعات أكثر".

شعوب لا تقرأ

"إقرأ.. ذلك الأمر الإلهي".. هل سألت نفسك لماذا كانت أول كلمة لنبي أُمي لا يقرأ ولا يكتب هي "إقرأ"؟، هل حاولت أن تعلم الحكمة التي دعت ملك الوحي يطلقها ثلاث مرات، ورسول الله يقول مرتجفاً "ما أنا بقارئ"، أو لم يعلم أنه أُمي لا يقرأ ولا يكتب، لقد كانت أمر إلهي بأهمية القراءة للمؤمنين، فلا إيمان بدون معرفة، ولا معرفة بدون علم، لذلك قال عز وجل "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"، والخشية هنا للعلماء، والعلم لا يأتي إلا بالقلم "الذي علم بالقلم"، والقلم لا يكتب إلا إذا نفذنا الأمر الإلهي "إقرأ".

منذ عامين خرجت علينا لجنة تتابع شئون النشر تابعة للمجلس الأعلى للثقافة بتقرير أقل ما يوصف بأنه خطير، قالت فيه: "أن العالم العربي في ذيل قائمة الأمم القارئة، وأن متوسط معدل القراءة فيه لا يتعدى ربع صفحة للفرد سنويا، في حين جاءت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الأولى"، فالعالم العربي 22 دولة وأكثر من 300 مليون مواطن لم ينشر سنويا سوي 650 كتاباً فقط، أي أن كل نصف مليون عربي هناك من ينشر كتاباً، في حين تنشر أمريكا ذات ال320 مليون نسمة حوالي 85 ألف كتاب، أي ان كل 3700 أمريكي يوجد كاتب.

منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" هي الأخري خرجت علينا بدراسة موسعة أثبتت من خلالها أن "نصيب كل مليون عربي لا يتجاوز 30 كتاباً، مقابل 854 كتاباً لكل مليون أوروبي، كما أن أن معدل قراءة الشخص العربي ربع صفحة في السنة، مقابل معدل قراءة كبير للفرد الأمريكي يصل إلى 11 كتاباً في العام الواحد"، تلك النتيجة خرجت بها إحدي المؤسسات العربية، فطبقا لتقرير "التنمية الثقافية" الذي أصدره مؤسسة الفكر العربي، كان "متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنوياً، في حين يتناقص معدل القراءة لدى الفرد العربي إلى 6 دقائق سنوياً"، ما جعل التقرير يصف نسبة القراءة المسجلة في الوطن العربي بـ"المخيفة والكارثية".

"هل ثمة علاقة بين مستوي القراءة بشكل عام ونمو سوق الكتابة وبالتالي الكاتب نفسه؟".. الإجابة بالتأكيد ستكون واضحة إذا ما علمنا من وثائق "اليونسكو" أن أوروبي واحد يقرأ سنويا 35 كتاباً، وأن إسرائيلي واحد يقرأ 40 كتاباً، في حين يقرأ 80 عربي كتاباً واحداً، ما يعني أنه لكي يتم تسويق 35 كتاب في مصر فإننا سنحتاج إلي 2800 قارئ علي النظام الأوروبي، وحتي يتم تسويق 40 كتاب سنحتاج إلي 3200 قارئ علي النمط الإسرائيلي.

منذ عشرون عاماً خرج علينا الروائي والكاتب والمترجم الكندي ذو الأصل الأرجنتيني "ألبرتو مانجويل" بمؤلفة الأهم "تاريخ القراءة"، ووصفة بالعالم السحري، والذي يخترق بالمرء لعوالم خارج عالمه ولم تخطر له على بال، بدأ بلوحات تُصور القراءة الأهم عبر التاريخ، لوحة تمثل أرسطو يقرأ مخطوطة، ولوحة رُسمت للشاعر الروماني "فيرجيل" بعد خمسة عشر قرناً من وفاته بوشاحه وبنظاره على أنفه الأقنى يقرأ مخطوطة، وأخرى للقديس "دومينيك سافيو"، وأخرى للعاشقين "باولو وفرانشيسكا" تحت شجرة يقرآن بيتاً للشعر سيقودهما في النهاية لدمارهما، ولوحة لعيسى بن مريم طفلاً يقرأ ويشرح من كتاب لكبراء قومه في المعبد بينما هم مذهولين وغير مصدقين يُقلبون صفحات الكتاب للبحث عن إجابات لتلك المعجزة.

ماذا يقرأون

"نقرأ لنجد النهاية، من أجل خاطر الحكاية، نقرأ لكي لا نصلها، من أجل خاطر القراءة، نقرأ باحثين كمتتبعي الأثر، غائبين عن محيطنا، نقرأ بذهن مشتت، نقرأ صفحات دفعة واحدة، نقرأ في زخات من المتعة المفاجئة، دون أن نعرف ما الذي جلب تلك المتعة".. كنت أعتقد أن ما قاله الأديب الأرجنتيني "ألبرتو مانجويل" يتفق مع حال مجتمعنا المصري والعربي أيضاً، ولكنه خيب ظني عندما حاولت الإجابة عن سؤال وجه إلي ذات مرة "ماذا يقرأون؟.

فكثيراً ما نهاجم منتجي السينما والدراما في مصر بأنهم تسببوا في تدهور الزوق العام، وذلك حينما أخلوا بأهم مبادئ الإبداع بتقديم كل ما هو تافه، لعل أشهر هؤلاء "السوبكي" وما يقدمة من أعمال لا تمت للفن بأي صله، ولكن دعونا نعترف نحن معشر المثقفين، إذا ما جاز لي أن أدعي نسباً بهم، نعاني من تلك الآفة التي أصابت الفن، فمجتمع المثقفين يسيطر علية "سوبكي" من نوع أخر، سوبكي لا يهتم سوي بإنتاج كتب لا ترتقي بعظمة القراءة والمعرفة، وإن كان لها جمهور يعتقد أنه يريد مثل تلك المؤلفات الهابطة.

نظرة سريعة علي تصنيفات الكتب الأكثر مبيعاً في معرض الكتاب الأخير، ستجعلنا نلتمس شيء من العذر، فالبيانات الرسمية لإتجاهات القراءة وإن كانت غير دقيقة، وضعت الكتب الدينية، وكتب الطبخ، وكتب الأبراج، في المرتبة الأولي كأكثر الكتب مبيعاً، لا أقول أنها كتب أقل قيمة، ولكنني سأقول أن كتب المعرفة والعلم يمكن أن تشكل ثقافة تمكننا من مواجهة كل من يحاول خديعتنا، كما أنها وحدها يمكن أن تفتح أمام القارئ عوالم من العلم والمعرفة والمتعة، كما أنها تُعد مفتاح الثقافة والحضارة والتقدم.

يا راعي الثقافة في مصر، يا مسئولي النشر في بلادنا، إن كل كتاب جديد يُضاف إلي مكتبتنا هو خبرة جديدة وتواصل بين العقول في مجتمعاتنا، بين عقول العظماء بما يملكون، وعقول القارئ الذي يرغب في المعرفة، يرغب في التفكير في أمور لم تخطر بباله، أو لم يكن يعرف عنها كثيراً، يرغب في الإستزادة في علوم قد يجد فيها وصفة يعالج بها أخطاءة، او يواجه بها مشاكلة الحياتية، أو إجابة للأسئلة التي تجتاح عقله بين الفينة والاخري، فيستغل جهلة الأخرون.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز