عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
دماء على كرسي الخلافة 21
بقلم
علي مقلد

دماء على كرسي الخلافة 21

بقلم : علي مقلد
 "منذ متى ونحن نعبأ بالدماء" ، عبارة قالها الداعية السلفي حازم صلاح أبو إسماعيل المسجون حاليا بتهمة التزوير ، وتهم أخرى تتعلق بتحريضه على العنف ، وذلك إبان فترة ولاية المجلس العسكري بعد أحداث يناير ، وكان وقتها أبو إسماعيل يحرض على العنف أمام وزارة الدفاع وأمام مدينة الإنتاج الإعلامي ،  تلك العبارة تخلص وتختصر تفكير كل التيارات والجماعات الإسلامية ، التي تتصارع على كرسي الخلافة ، منذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، ومرورا بكل جرائم الحرب التي ارتكبت من أجل ذلك المنصب،  وحتى يأذن الله لهذه الأفكار أن تبيد ، وتشرق قلوب وعقول المسلمين بفتوحات عقلية نورانية ، تزيح  روث الأوهام المتخثرة في عقولهم حول قدسية "منصب الخليفة".
 
 نتوقف اليوم ، ليس أمام حادثة أو معركة أريقت فيها الدماء المحرمة ، وانتهكت فيها الأعراض المصونة،  وسلبت فيها الأموال ، ودسيت فيها المقدسات بنعال المتقاتلين ، وحوافر خيل أمراء الحرب ، كما اعتادنا في المقالات السابقة ، التي رصدنا فيها مسيرة المعارك الإجرامية التي قامت بها كل الفرق والمذاهب الإسلامية بحثا عن بريق السلطة ، ولكننا اليوم نتوقف عند شخص بعينه ، ربما وحده يختصر التاريخ الدموي الذي مرت به الإمبراطورية الإسلامية ، ويمثل نموذجا يقاس عليه كل مجرمي الحرب.
 
 إنه أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي ، الذي قال واصفا نفسه: "ما أعلم اليوم رجلاً على ظهر الأرض هو أجرأ مني على الدم " وذلك حسبما روى المؤرخ الشهير محمد بن سعد البصري الزهري المعروف بابن سعد في كتابه "الطبقات الكبير"  الذي يعد من أهم الكتب التي ألفت في الطبقات وتراجم الرجال ، والحجاج كان محور معارك كثيرة ومتعددة دارت رحاها بطول في أماكن شتى من بقاع الدولة الإسلامية ، وكان معروفا بقسوته وجبروته ، واستسهاله لقطع الرقاب لتوافه الأسباب ، لدرجة أنه قال في خطبة له في البصرة "والله لا آمر أحدكم ، أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الباب الذي يليه ، إلا ضربت عنقه" .
 
كان الحجاج محور مقالات سابقة وعرجنا على سيرته عرضا في بعض المقالات لكننا اليوم نتوقف عنده لبعض الوقت لنرى أن مؤرخي الإسلام – وربما تلك عادتهم – لم يروا فيما فعله الحجاج من انتهاك للحرمات وهدم للكعبة ،  وقتل وذبح وصلب ، سوى أنه جبروت حاكم ، أراد أن يوحد الأمة ويقضي على الفتنة ، ويتشفعوا له بما فعله من قتل وسفك لدماء لشعوب أخرى غير مسلمة ، ويقولون للناس : رغم سفكه للدماء لا تنسوا أنه كان السبب في فتوحات كثيرة .. وكأن هذه الفتوحات لم تكن أيضا سفك دماء ، لكنها بوجهة نظرهم مستحلة لأنهم لا يدينون بنفس دينهم،  لدرجة أن ابن كثير يقول عن الحجاج :كان فيه شهامة عظيمة وفي سيفه رهق (الهلاك والظلم)، وكان يغضب غضب الملوكِ...وقال أيضاً: وكان جباراً عنيداً مقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة وكان يكثر تلاوة القرآن ويتجنب المحارم، ولم يُشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعاً في سفك الدماء، فلا نكفر الحجاج، ولا نمدحه، ولا نسبه ونبغضه في الله بسبب تعديه على بعض حدود الله وأحكامه، وأمره إلى الله... وبالرغم أن الحجاج كان يكفر من يخرج على أسياده بني أمية  لدرجة أن الحجاج نفسه وصف الصحابي عبد الله بن الزبير  بعدو الله بعدما قتله وقطع رقبته ووضع جسده متدليا على جدار ،  إلا أن العلماء والمشايخ رفضوا تكفيره بل أن هناك من ألف مطولات عن شهامته وبطولاته ... إذن فاعتبار "داعش أهل قبلة" مقولة تأتي في سياقها وليست بجديدة على هذا المنهاج.
 
من نافلة القول ونحن هنا لا نورد  سيرة ذاتية للثقفي وإنما نورد بعض مواقفه وخطبه لندلل على حقيقة الأوضاع والصراعات التي كانت دائرة آنذاك ، ولد الحجاج في ثقيف بمدينة الطائف، في عام الجماعة 41 هـ،  وكان اسمه كليب ثم أبدله بالحجاج،  وأمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي الصحابي الشهيد، وهو نشأ في الطائف، وتعلم القرآن والحديث والفصاحة، ثم عمل في مطلع شبابه معلم صبيان مع أبيه، يعلم الفتية القرآن والحديث، ويفقههم في الدين، لكنه لم يكن راضياً بعمله هذا، على الرغم من تأثيره الكبير عليه، فقد اشتهر بتعظيمه للقرآن .. كثيرون اليوم قتلة ومجرمين وإرهابيين وهم حفظة القرآن ، التاريخ يتكرر كمأساة تحل على تلك البقعة من الأرض كلما فارقنا جيل من الإرهاب استولد التراث جيلا آخرا أكثر لعنة وإجراما .
 
كانت الطائف في تلك الأيام بين ولاية عبد الله بن الزبير، وبين ولاية الأمويين، لكن أصحاب عبد الله بن الزبير تجبروا على أهل الطائف، فقرر الحجاج الانطلاق إلى الشام، حاضرة الخلافة الأموية المتعثرة، التي تركها مروان بن الحكم نهباً بين المتحاربين ، وقد تختلف الأسباب التي دفعت الحجاج إلى اختيار الشام مكاناً ليبدأ طموحه السياسي منه رغم بعد المسافة بينها وبين الطائف، وقرب مكة إليه، لكن يُعتقد أن السبب الأكبر كراهته لولاية عبد الله بن الزبير ، وفي الشام حسبما تذكر كتب التاريخ، التحق بشرطة الإمارة التي كانت تعاني من مشاكل جمة، منها سوء التنظيم، واستخفاف أفراد الشرطة بالنظام، وقلة المجندين، فأبدى حماسة وانضباطاً، وسارع إلى تنبيه أولياء الأمر لكل خطأ أو خلل، وأخذ نفسه بالشدة، فقربه روح بن زنباع قائد شرطة بني أمية إليه، ورفع مكانته، ورقاه فوق أصحابه، فأخذهم بالشدة، وعاقبهم لأدنى خلل، فضبطهم، وسير أمورهم بالطاعة المطلقة لأولياء الأمر ، فرأى فيه روح بن زنباع العزيمة والقوة الماضية، فقدمه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ... وهنا التقى محفظ القرآن بالمحدث والفقيه وكلاهما أصبح له بصمة في الإجرام وسفك الدماء .
 
كان عبد الملك بن مروان قد قرر تسيير الجيوش لمحاربة الخارجين على دولته، فضم الحجاج إلى الجيش الذي قاده بنفسه لحرب مصعب بن الزبير ، ولم يكن أهل الشام يخرجون في الجيوش، فطلب الحجاج من الخليفة أن يسلطه عليهم، ففعل ، فأعلن الحجاج أن أيما رجل قدر على حمل السلاح ولم يخرج معه، أمهله ثلاثاً، ثم قتله، وأحرق داره، وانتهب ماله، ثم طاف بالبيوت باحثاً عن المتخلفين، وبالفعل  بدأ الحجاج بقتل أحد المعترضين عليه، فأطاعه الجميع، وخرجوا معه، بالجبر لا الاختيار
 
 كذلك بعدما انتصر الحجاج في حربه على بن الزبير كما رأينا في مقالات سابقة ، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية مكة لكن لكثرة شكوى المكيين منه ، قام بن مروان بعزله ، خاصة أن مكة بلدة بن مروان وموطن قبيلته ، وربما أحس بفظاعة أن يتسيد ثقفي من الطائف على مكة ، فعرق البداوة لم يفارق دمائهم ، وكثيرا من قرارات الخلفاء خاصة بني أمية اتخذت لأسباب عرقية ، لكن بن مروان لم يكن ليضحى برجل في إجرام الحجاج الذي ساعده على توطيد ملكه وملك ورثته من بعده ،  لدرجة أن ابن مروان قال وهو يحتضر عن الحجاج " إن الحجاج جلدة ما بين عيني " وأوصى ابنه الخليفة من بعده الوليد بن عبد الملك بالحجاج خيرا ، وأن يجعله ذراعه في الحرب والسلم ، وهو ما كان من الوليد،  لدرجة أنه لما مات الثقفي، قال عنه الوليد " كان جلدة وجهي كله" .
 
نعود للوراء مرة أخرى ، عند تلك اللحظة التي أسند الخليفة الأموي ولاية العراق  إلى الحجاج ، واستمر يحكم العراقين، عراق العرب وعراق العجم، نحو عشرين عاما ، أذاق خلالها أهل الرافدين سوء العذاب ، فما تحدث إلا مهددا ومتوعدا ، وما حكم إلا ظالما متجبرا ، قال ذات يوم في خطبة بالكوفة " أما والله ، فإني لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى،  ثم قال: والله يا أهل العراق، إن أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانة بين يديه، فعجم عيدانها عوداً عوداً، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مكسراً، فوجهني إليكم، ورماكم بي، يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ... ويستمر الثقفي في وعيده حتى يقول " وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين – بالطبع يقصد مناوئ بن مروان على السلطة-  وقد أمرت لكم بذلك، وأجلتكم ثلاثة أيام، وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به، ويستوفيه مني، لئن تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه، ولينهبن ماله" .
 
 كما خطب الحجاج عندما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم فقال: "أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه ، ومن استطال أجله ،  فعلي أن أعجله ، ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ، ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه ، إن للشيطان طيفا ،  وللسلطان سيفا ،  فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ، ومن وضعه ذنبه ، رفعه صلبه ، ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ، ومن سبقته بادرة فمه ، سبق بدنه بسفك دمه ، إني أنذر ثم لا أنظر ، وأحذر ثم لا أعذر ، وأتوعد ثم لا أعفو .
 
هذا أحد أمراء الحرب الذين فعلوا كل الجرائم لتثبيت أركان دولة بني أمية ، وهو نموذج تكرر من قبل ومن بعض وكل خلافة كان لها حجاجها ومجرميها ، لكن الحجاج يتوهم مثل كل الإرهابيين والقتلة أن أفعاله كانت من أجل نصرة الإسلام وأن الله سيتغاضى عن جرائمه لأنها كانت بنية صالحة ، لذلك فهو يقول  عندما حضرته الوفاة  : "اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل"» ،وروي أنه أنشد في لحظاته الأخيرة ، قبل أن يفارق إلى ما قدم من عمل  :
يا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا  بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ
 
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ؟ وَيْحَهُمُ   ما عِلْمُهُمْ بكريم العَفْوِ غَفَّارِ؟
لكن الغريب أن الحجاج كان يرى أن الخليفة بن مروان يمثل الإسلام ، لدرجة أنه كتب في وصيته ترك الحجاج وصيته : هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث .

يبقى أن نقول أن الحجاج لم يكن فريدا من نوعه في أمراء الحرب فقد سبقه ولحقه كثيرون ربما منهم من كان أشد إجراما ، لكنه كان نموذجا واضحا وصريحا في العنف .. في المقال القادم نعود لرصد حوادث القتل التي دارت بسبب كرسي الخلافة بين المسلمين، ونتحدث فيه عن معركة "دير الجماجم" واحدة من أبشع المجازر التي تمت في العصور الإسلامية الأولى وكان الحجاج الثقفي طرفا فيها ، بعدما انشق عنه قائد جيوشه عبد الرحمن بن الأشعث.



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز