عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مصطفى محمود وتجديد الفكر الدينى

مصطفى محمود وتجديد الفكر الدينى

بقلم : د. عزة بدر

سبع سنوات مرت على رحيل د.مصطفى محمود الذى دفعت كتاباته الحيوية فى حياتنا الثقافية، وأثارت الخيال، وأعملت العقل فى كثير مما يثير الجدال الآن من شئون تجديد الفكر الدينى، ومن كتبه المهمة التى قدمت محاولة جادة لقراءة تراثنا الفكرى والدينى كتابه «القرآن محاولة لفهم عصرى»، وكتابه «الشفاعة».

واجتهاداته من الملفات المهمة التى تحتاج أن نفتحها ونحن نناقش محاولات تجديد الفكر الدينى بصفة عامة، والقراءات والتفسيرات الجديدة للقرآن الكريم ما لها وما عليها بصفة خاصة.



• القرآن محاولة لفهم عصرى
وكان مصطفى محمود قد بدأ اجتهاداته الفكرية على صفحات مجلة «صباح الخير» التى نشرت مقالاته مسلسلة تحت عنوان «القرآن محاولة لفهم عصرى، والتى صدرت فيما بعد فى كتاب.. وقد تعرض الكتاب للمصادرة، وتم التحقيق مع مصطفى محمود بمعرفة لجنة من الأزهر لكن شيخ الأزهر حينذاك د.عبدالحليم محمود أفرج عن الكتاب.

• العلم والإيمان
الفكرة الأساسية فى كتاب «القرآن محاولة لفهم عصرى»، أنه يربط بين العلم والإيمان, وهى الفكرة التى أكدها كاتبنا من خلال اجتهاداته ومن خلال برنامجه الشهير الذى يحمل  الفكرة ذاتها، برنامج «العلم والإيمان» الذى كان يقدمه على شاشة التليفزيون  المصرى.. وقدم مصطفى محمود لكتابه بقوله: «مازال القرآن كتاب المسلمين المعجزة يتحدى العقول بعد ألف وأربعمائة عام من نزوله، كأنه نزل اليوم ليتحدث عن علوم اليوم، وشواغل اليوم، وأسرار اليوم، وحروب اليوم، وبين دفتيه سوف يفاجأ كل شغوف بعلوم الفلك والطبيعة والجيولوجيا والطب والتشريح والحياة بلمحات من هذه العلوم وبالجديد فى علوم الباطن والنفس والروح، وما وراء الطبيعة، وبالجديد فى عوالم الغيب وخفايا الزمن والمكان والمادة، وبالجديد والمبهر فى الأخلاق والدستور والشرائع والأديان».

• قراءة علمية لبعض آيات القرآن
ويقول كاتبنا: إن علماء الفلك ظلوا يتحدثون عن سبعة كواكب تدور حول الشمس حتى نزلت آيات القرآن الكريم تتحدث عن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فى سورة يوسف: «إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين»، آية 4: سورة يوسف، وها هى التلسكوبات الفلكية رصدت بالفعل أحد عشر كوكبا تدور مع الأرض والقمر على أبعاد شاسعة متفاوتة حول الشمس وهو أمر لم يُكتشف إلا حديثا.. ويمضى كاتبنا فى قراءة دقيقة للآيات ويدلل على ما فيها من إعجاز واكتشاف لحقائق علمية فيتحدث عن البصمة المرسومة على طرف البنان، التى ينفرد بها كل مولود لتدل على شخصيته التى لا يشاركه فيها مخلوق حتى أخيه التوءم فيقول تعالى فى قرآنه المجيد عن يوم البعث الذى كان يشك فيه الجاهليون عن يوم القيامة الذى سوف تقوم فيه الأجساد من قبورها، ويعود الموتى إلى سالف هيئتهم: «أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوى بنانه»، الآية: 3، والآية 4 من سورة القيامة، ويخص تعالى البنان بالتسوية لأنه الحامل للبصمة المعجزة الدالة على شخصيته المتفردة التى لا تتكرر والتى سوف تعود إليه يوم البعث، كانت البصمة التى على البنان إعلامًا قرآنيًا بحتًا.

• قصة الخلق
ويقدم مصطفى محمود لهذا الفصل بعنوان «قصة الخلق»: «ما جاء فى هذا الفصل هو محاولة تخضع لقاعدة الاجتهاد فى احتمال الخطأ والصواب، والله الموفق».

ويصحح كاتبنا ما شاع عن نظرية «داروين» وكان الشائع عنها مؤداه: أن الإنسان انحدر من القرد، وأن الجنس البشرى من سلالة الشمبانزى أو النسناس فيقول: إن ذلك نكتة روجتها الصحف وانتشرت كنوع من الكاريكاتير للداروينية، لكن النظرية فى أصلها المكتوب لا تقول إن أيًا من الأجناس الموجودة خرج من الآخر وإنما كل جنس هو بذاته نهاية فرع مستقل من الشجرة، لم يخرج الإنسان من فرع القرد وإنما خرج كل منهما على حدة من الشجرة الأم، وهما يرتدان فى الأصول إلى منبع واحد هو الخلية الأولى التى تنوعت بها البيئات فتفرعت شجرتها إلى ما نرى حولنا من تصانيف، ويرى مصطفى محمود أن الوشيجة العائلية تربط كل الخلائق بالفعل، والتشريح يقول إنها ترتبط ببعضها بصلة رحم وقربى، أما حكاية ارتقاء المخلوقات من الأدنى إلى الأعلى وتفسير ذلك فهو ما يختلف فيه مصطفى محمود مع داروين فالأخير يقول: إن الترقى حدث بالحوافز الحياتية وحدها وبدون يد هادية أى أن الأنواع تطورت بقانون بقاء الأصلح، أما ما عجز عن تفسيره داروين فهو فكرة وجود خالق عليم قدير يهندس الوجود ويصممه وينشئه إنشاء.

ويقول كاتبنا عن أسلوب القرآن فى تناول المسائل العلمية: «القرآن حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها «أينشتين» بالمعادلات، ولا كما يعرضها عالم بيولوجى برواية التفاصيل التشريحية وإنما يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة والعبارة التى تومض فى العقل كبرق خاطف، إنه يلقى بكلمة قد يفوت فهمها وتفسيرها على معاصريها، ولكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرحان هذه الكلمة ويثبتها تفصيلاً: «سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق»، آية 53 من سورة فصلت.. كما يتناول كاتبنا قصة الخلق داخل الرحم فيقول: «إنه يتم على أطوار، خلق من بعد خلق، وإنه يجرى داخل ظلمات ثلاث.. وهى: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة الغلاف الأمينوسى، وهى حقائق تشريحية يتألف منها الجنين ذاته.. «يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث» آية 6 سورة الزمر.

• التفكير والتدبر واجب وتكليف
ويرى مصطفى محمود أن تدبر قصة الخلق، والكون هو واجب وتكليف وأن الآيات القرآنية تحث على ذلك: «قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» آية 20 سورة العنكبوت.. ومن هنا يفسر قصة هبوط آدم وحواء من الجنة إلى الأرض تفسيرًا مختلفًا فيقول: «إن الإهباط ورد فى القرآن بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان دون مغادرة الأرض ويستند فى ذلك إلى قوله تعالى فى مخاطبته لقوم إسرائيل: «اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم» آية 61 سورة البقرة.

ويرى أن كلمة الجنة وردت فى القرآن الكريم بمعنى البستان على الأرض: «لقد كان لسبأ فى مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال» آية 15 سورة سبأ.
ومن هنا يخلص لفكرة أن نزول آدم وحواء هو نزول من مقام الرضا إلى مقام المعصية وأنه قد تحقق بانتقال آدم من حياة سهلة فى بساتين يانعة وافرة الخصب والرزق إلى مكان جديب وهو على الأرض لايزال، دون أن يهبط من سماوات، ورأى أن سجود الملائكة لآدم قد تم على الأرض كمعجزة وكلها دلالة على مقام آدم العالى عند ربه ويستند إلى الآية التى يقول فيها تعالى: «قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون»، الآية 25 سورة الأعراف.

ومضى كاتبنا يتأمل، ويتحرى، ويعمل فكره فى تدبر الآيات، وتلتمع فى عقله العديد من الأفكار العلمية حول تكون الجبال، والأنهار والمحيطات فيقول على سبيل المثال، «إن ذروة الاضطراب البركانى والزلزالى واقعة حول الماء، وتحت الماء، حيث جوف الأرض النارى المتأجج بالحرارة قريب من السطح لا يحفظه من التفجر إلا توازن القشرة الأرضية الدقيق، والجبال الهائلة التى تعمل كثقالات وأوتاد تحفظ هذه القشرة فى مكانها وفى ذلك يقول القرآن عن تلك الجبال الرواسى: «وألقى فى الأرض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة»، آية 10 سورة لقمان.

• التفسير العلمى للقرآن
ورغم أن الدين يحثنا على طلب العلم وتدبر الأمور والتبصر فى أنفسنا وفيما حولنا إلا أن الكتاب كما ذكرت صودر، وكانت وجهة النظر السائدة فى مناقشة الكتاب هى رفض فكرة التفسير العلمى للقرآن من قبل رجال الدين فعلى سبيل المثال ما ذكره د.محمد حسين الذهبى وزير الأوقاف الأسبق فى كتابه «بحوث فى علوم التفسير والفقه والدعوة»، فيقول: «لو أننا تتبعنا سلسلة البحوث التفسيرية للقرآن الكريم لوجدنا أن هذه النزعة تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا، ولوجدنا أنها بدأت على هيئة محاولات يقصد منها التوفيق بين القرآن وما جد من العلوم، ثم وجدت الفكرة مركزة وصريحة على لسان الغزالى ومن سلك مسلكه من العلماء، ثم طبقت الفكرة علميًا وظهرت فى محاولات الفخر الرازى ضمن تفسيره للقرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم، وأخيرًا راجت هذه الفكرة فى العصر الحاضر رواجًا عظيمًا نتج عنه مؤلفات كثيرة وتفاسير واسعة تسير على ضوء هذه الفكرة».

ولم يعضد د. محمد حسين الذهبى هذا الاتجاه بل أكد رأى الشاطبى الذى عارض فكرة التفسير العلمى للقرآن فى كتابه «الموافقات» إذ يقول: «إن كثيرًا من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن  الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين ويقول: «إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم فى شىء من هذا المدعى» ص193، 194، ورأى الشيخ محمد حسين الذهبى أن الحق فى جانب الشاطبى، وأن فكرة التفسير العلمى للقرآن تسلطت على عقول أصحابها وهى فكرة تخرج بالقرآن الكريم عن اتجاهه السوى الصحيح إلى اتجاه منحرف سقيم كما يقول، ثم يشير وهو فى مقام الرد على د.رمزى نعناعة مؤلف كتاب «بدع التفاسير فى الماضى والحاضر»، فيتهمه بأنه أوهم قراءه بأنه كتب عن أحدث ما قيل فى بدع التفسير لكنه لم يفعل بل استند إلى ما ورد فى كتاب الشيخ الذهبى «التفسير والمفسرون» ويقول إنه كان الأجدر به أن يعرض لآراء مصطفى محمود التى نشرها كمقالات فى مجلة «صباح الخير» المصرية تحت عنوان: «محاولة لتفسير عصرى للقرآن»، فيقول: «أقل ما كان ينتظر منك أن تعرض لآراء السيد مصطفى محمود، وأنت حديث عهد بها ثم تُعقب عليها بما يبين زيفها وفسادها، وبهذا تكون قد جئتنا بجديد يسرنا أن تكون أنت صاحبه» ص205.

كانت فكرة رفض التفسير العلمى للقرآن سائدة فى هذه الآونة عندما صدر كتاب «محاولة لتفسير عصرى للقرآن»، والآن نقرأ عن موقف مغاير لهذه الفكرة من قبل رجال الدين ففى عدد أغسطس 2016 من مجلة «الأزهر» الشهرية، تطالعنا مقالة للدكتور محمود حمدى زقزوق رئيس تحريرها وهى بعنوان: «تجديد الفكر الدينى» فيتحدث عن ضرورة المصالحة بين الدين والعلم قائلاً: «الإسلام دين لا يعادى العلم ولا يصادم أية حقيقة علمية وما يقره العلم لا يرفضه الدين، ولا يغيب عن الأذهان أن الآيات الخمس الأولى من الوحى القرآنى لم تحدث الناس عن العقائد أو العبادات وإنما حدثتهم عن مفاتيح الحضارة فقد طلبت منهم القراءة مرتين: قراءة الكتاب المسطور وهو القرآن الكريم، وقراءة الكتاب المنظور وهو الكون كله بسمائه وأرضه وما بينهما من كائنات بشرية وغير بشرية» ص2343، وهو ما فعله مصطفى محمود فهل آن الأوان لإنصاف اجتهاداته؟! وإعادة الاعتبار لمحاولته المهمة فى تجديد الفكر الدينى، هذا من جانب فكرة «التفسير العلمى للقرآن الكريم»، التى قدم فيها عطاءً مهمًا.

• التفسير الباطنى للقرآن
ومن جانب آخر دعا مصطفى محمود إلى موقف رأى أنه لابد من التزامه وهو الارتباط بحرفية العبارة ومدلول الكلمات الظاهر فيقول: «لا ننتقل إلى تأويل باطنى إلا بإشارة وإلهام من الكلمات القرآنية ذاتها فنفسر القرآن بالقرآن ظاهرًا وباطنًا على ألا يتعارض تفسيرنا الباطن مع مدلول الكلمات الظاهر أو يكون نافيًا له، ولا يكون التفسير الباطنى مقبولاً إلا إذا كان مؤيدًا ومؤكدًا للمعنى الظاهر، ولا ترخيص فيه إلا بضرورة، وهذه هى الحدود التى تمليها طبيعة هذا الكتاب المحكم الذى لا يتقدم فيه حرف على حرف إلا بسبب عميق وضرورة لازمة» ص160.

ومع هذا الطرح فقد ناقض مصطفى محمود نفسه حينما انتقل إلى تأويل باطنى لآيات القرآن بلا إشارة واضحة من الكلمات القرآنية فعندما تناول الآية 38 من سورة المائدة ونصها: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما....» وفسر آية من سورة النور ونصها: «الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة».

وقام بالتفسير كالتالى: «الله تعالى حينما يذكر السرقة نراه يورد السارق مقدما على السارقة، أما فى الزنى فنراه يذكر الزانية مقدمة على الزانى، والحكمة واضحة فالمرأة فى الزنى هى البادئة وهى التى تدعو الرجل بزينتها وتبرجها، أما فى السرقة فهى أقل جرأة من الرجل» ص252، 253، وهذا التفسير لا توحى به الآيات الكريمة لا فى ظاهر النص القرآنى ولا فى باطنه.

ومع ذلك تبقى محاولته فى كتابه «القرآن محاولة لفهم عصرى»، اجتهادًا مهمًا، خاصة أنه اهتم بمناقشة قضايا حيوية فى كتاباته مثل قضية الحرية وقد تناولها فى نفس الكتاب فى فصل بعنوان «مخير أم مسير؟» ص31 فقال «إن الحرية ثغرة كبيرة يدخل منها الشك ويتسلل منها هواة الجدل من الملحدين، فأول ما يقوله الواحد منهم ليقيم الحجة على الدين كله أن يهتف محتجًا: «إذا كان الله قدَّر على أفعالى فلماذا يحاسبنى؟» أو «إذا كان كل شىء يجرى فى الدين بمشيئة الله فما ذنبى؟» فيناقش ذلك مستشهدًا بآيات الله الكريمة: «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» آية 99 سورة يونس، والآية: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» آية 29 سورة الكهف.

والآية: «ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها» آية 13 سورة السجدة.
ثم يعود ليحلل ذلك من خلال علم النفس فيقول: «الإنسان وحده هو الحر المتمرد الثائر على طبيعته وظروفه ولهذا يصطدم بالعالم ويصارعه، ويستحيل فى أى لحظة أن يتنبأ أحد بمصيره وحكاية الحتمية الداخلية التى تصورها «فرويد» فاعتبر الإرادة بسببها حرة فى الظاهر لكنها مقيدة فى الباطن وأسيرة لجبرية الغرائز وآلية الحوافز الباطنة عاد هو ذاته فنقضها وقال: إن الغريزة هى خام تتصرف فيها الإرادة بالكبت أو بالإطلاق أو بالتسامى، وهكذا عادت الغريزة لتصبح مجرد ظرف تتحكم فيه الإرادة وأصبحت الإرادة بهذا المعنى حقيقة متعالية متجاوزة للغرائز، والإرادة الإنسانية لها حريتها فى أن تُخل بأى تعاقد ويستحيل التنبؤ بما يجرى فى منطقة الضمير لأنها منطقة حرة بالفعل» ص32، ص33.

• المسلم القوى
ومن القضايا المهمة التى تناولها مصطفى محمود فى كتاباته موضوع «الشفاعة» التى خصص لها كتابًا بعنوان: «الشفاعة» والذى أثار عند صدوره ضجة كما أثار ردود أفعال غاضبة فصدر فى الرد عليه أكثر من عشرة كتب تهاجمه بدلاً من أن تناقش أفكاره، وكنت قد أجريت معه حوارًا ونشر على صفحات «صباح الخير»، بعنوان: «يهاجموننى لأننى طبيب بلا جبة ولا قفطان»، قال فيه: «إن ما صنعه البخارى بإخراجه مذنبى المسلمين من النار بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تأت بالمسلم الأفضل بل جاءت بالمسلم الأضعف المتواكل الذى يحلم بدخول الجنة بلا عمل، لست ضد البخارى، ولا ضد رواة الأحاديث وهم على رءوسنا جميعًا بما اجتهدوا وإنما الموضوع هو صنع الإنسان المسلم القوى».

وكان يرى أن «الأحاديث النبوية نقلت عن بشر، بيننا وبينهم زمن دخلت فيه الإسرائيليات، وداخلها الوضع، «فقال لا صحة لأحاديث تتناقض مع النص القرآنى، وأنا هنا أفرق بين السنة النبوية والأحاديث التى رواها الأشخاص، فالسُنة أى أفعال النبى صلى الله عليه وسلم لا مناقشة فيها، أما الأحاديث التى ليس لها سند من القرآن فلا».

• الشفاعة فى علم الغيب
وعندما سألته «ذكرت فى كتابك أن الشفاعة شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم للمسلمين يوم القيامة أمر غيبى فلماذا تجتهد فيه؟ قال: «نعم هى أمر غيبى، وهذا هو الاجتهاد فأنا لا أضمن الشفاعة فلا يصح بكل جرأة أن أتصور أننى داخل الجنة، وأن الله سوف يأذن لى بشفاعة إذا قلت ذلك يصبح الأمر جرأة على الغيب لقد انتبه هؤلاء الذين هاجمونى، هبوا من سبات عميق فإذا بهم فى النار أمام ساعة الحساب وجها لوجه بلا شفيع أو شفاعة فصرخوا فى وجهى، وهاجمونى فلقد أصبح التواكل ظاهرة سلبية عامة فى المجتمع، انهيار أخلاقى كامل، تخلف فى الإحساس بالواجب حيث تسود الأخلاق الأنانية والنفعية والاستغلال وساد مبدأ «اخطف واجرى»، وفى الآخر يريدون أن يدخلوا الجنة، النبى صلى الله عليه وسلم لن يشفع أبدًا لهؤلاء».

وكانت الردود والكتب التى تدفقت حينذاك فى الرد على مصطفى محمود قد هاجمته، ومنها: «الشفاعة بين العقل والنقل» للدكتور يوسف القرضاوى، و«إنكار الشفاعة» دراسة وتحقيق عبدالله حجاج، و«الشفاعة فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة» لعبدالهادى البانى والكتاب الملحق بمجلة «الأزهر» وكان عنوانه «الرد على د.مصطفى محمود فى إنكار الشفاعة»، وعلى اللواء محمد شبل فى إنكار يوم عرفة، والرد كان بقلم د.عبدالمهدى عبدالقادر.

• الشفاعة فى القرآن والأحاديث
وكانت رؤية مصطفى محمود التى أكد عليها أنه لا صحة لأحاديث تتناقض مع النص القرآنى، فالآيات القرآنية تربط الشفاعة بالإذن الإلهى فيقول الله تعالى: «الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما فى السموات وما فى الأرض من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه» سورة البقرة آية 255، وهناك آيات أخرى تؤكد مسئولية الإنسان عن أفعاله فلا شفاعة لأحد فيقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خُلِّة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون»، سورة البقرة: آية 254.

ويقول مصطفى محمود: «هذا هو موقف القرآن من الشفاعة بينما تروى لنا بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يقف شفيعًا يوم القيامة للمذنبين وأهل الكبائر من أمته، ويخرجهم من العذاب فيدخلون الجنة بشفاعته، وهذا غير صحيح، الوسيلة الوحيدة للنجاة هى باب التوبة فى الحياة إذا تورط المرء فى الأخطاء، والشفاعة الممكنة هى دعاء النبى لمسلمى هذه الأمة بأن يختم حياتهم بتوبة وهذا الدعاء المحمدى هو الشفاعة التى أفهمها بالمعنى القرآنى».

ويلتقى رأى مصطفى محمود مع رأى المعتزلة فى قضية الشفاعة، والمعتزلة واحدة من أبرز وأقدم الفرق الإسلامية، تبلورت كمدرسة فكرية فى أواخر القرن الأول الهجرى، وهذا التيار الفكرى بدأ بقيادة واصل بن عطاء الغَزَّال «80-131هـ- 669م- 748م»، وللمعتزلة رأى فى الشفاعة فهم ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر على أساس قوله تعالى: «لا تجزى نفس عن نفس شيئًا»، ولذا فقد أشار مصطفى الذهبى فى كتابه «شفاعة الحوض المورود والرد على شبهات مصطفى محمود»، إلى هذا مهاجمًا الرجل قائلاً: «إن مصطفى محمود هو ذلك المنكر فى جانب سحيق يعضده واصل بن عطاء إمام المعتزلة».

• مصطفى محمود والمعتزلة!

وعندما سألت مصطفى محمود فى حوارى معه: «فيما تلتقى أنت وإمام المعتزلة؟ وفيم تختلف معهم؟
قال: «نلتقى فى احترام العقل أنا وواصل بن عطاء، والمعتزلة فصيل من الإسلاميين مهم جدًا لأنه لفت النظر إلى العلم، وأصحاب العقل العلمى وقد أدوا دورًا مهمًا فى الإسلام، وهم مجموعة من المفكرين الكبار لا يستهان بهم اتهموهم بشدة العقلنة وهكذا المغالاة توقع فى الخطأ، أنا اختلفت معهم فى العقلنة الزائدة على الحد، وأتفق معهم فى بعض الأمور، ورأيى أنا مسئول عنه غير أننى غير قابل للتصنيف أتوكل على الله وأقول رأيى، وأنا لم أعتزل الناس، أنا فى وسطهم وبينهم دائمًا.

وعندما سألته: «لماذا تعيد إنتاج فكرة فالمعتزلة قالوا ما قلت فى مسألة الشفاعة؟
فقال: لأن القضية لاتزال حية، الاتكالية هى السائدة، وغاب مفهوم الواجب والأخلاق، وباب الاجتهاد نفسه قد أغلق منذ أكثر من مائة عام، التعصب والتشدد هما المناخ السائد الآن، شعار «اسكت.. لا تتحدث»، والمعارضة دائمًا متهمة، فى الجوهريات لا أحد يتكلم.. الكل يسكت والتخلف حقيقة، ولابد أن نعترف بها وكل ذلك مرتبط بمساحة الحرية.

لقد اجتهد مصطفى محمود، وقدم فى كتبه محاولة جادة لتجديد الفكر الدينى، وقد آن الأوان لدراسة مثل هذه المحاولات الجادة، واجتلاء جوانبها المضيئة، ومعرفة ما لها وما عليها فى مناخ حر يسمح بحرية التفكير، والتعبير، وكل ذلك يحتاج إلى إعمال العقل والاحتكام إليه فى تأويل النصوص الدينية وتلك هى الخطوة الأولى فى تجديد الفكر الدينى.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز