عاجل
السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
الليلة الأخيرة

الليلة الأخيرة

بقلم : أمل حجازي

استيقظت " نادية " من نومها في صباح يوم الجمعة. لم يبدو اليوم كأي يوم عادى، بدا كل شيء غريب ومدهش. فالهدوء يعم المنزل، الأجواء هادئة وكأن لا يوجد غيرها بالمنزل! في طريقها لباب غرفتها صادفت وجهها في المرآة...وكانت المفاجأة!! رأت "نادية" لا تعرفها، امرأة كبيرة في السن، يكسو اللون الأبيض شعرها. رسم الزمن خطوطا على وجهها الواهن في شكل تجاعيد لا يمكن إغفالها. من هي تلك المرأة التي تنظر ل " نادية " في المرآة؟ ليست هي. هل مر الزمن أثناء نومها، هل كانت في غيبوبة ولا تدري؟ ...يا إلهي...كم مر من الوقت وأنا نائمة؟ سألت " نادية " نفسها والدهشة لا تفارق وجهها الجديد الذي لا تعرفه!!



ارتدت " نادية " ملابسها لتغادر المنزل ليس فقط لأنها لم تجد أحدا به، ولكن لأن المنزل نفسه لم يعد كما كان. كل شيء تغير! خرجت " نادية" مسرعة لعلها تجد إجابة أو إجابات لكل ما يدور في رأسها من تساؤلات، ولكن في الخارج كان ينتظرها الأغرب...بل والأكثر جنونا!

كان الشارع نظيفا كما لم تراه من قبل. اختفت أكوام القمامة التي كانت تراها خلف حاويات القمامة نفسها، وكأن من يرمي يتعمد أن يرمي خارجها وليس داخلها. لا أثر لرائحة دخان ولا عوادم تزكم الأنفاس في الهواء، بالعكس كان الجو نقيا صافيا على غير العادة. كانت السيارات في الشارع تسير بشكل منظم، تسير بهدوء، لا أثر لعربيات " الكارو" التي كان يجرها "الحمار" فترى الحمار يسير بجوار سيارة مرسيدس فارهة جنبا إلى جنب في منتصف الشارع في مدينة القاهرة الكبرى!! استقلت " نادية " سيارة أجرة لتذهب بها إلى منزل أختها، لعلها تملك بعض الإجابات لكل ما يحدث حولها. وفى الطريق ظلت نادية تتعجب من كل ما تراه. فالشوارع ممهدة، لا توجد مطبات، لا توجد بالوعات مفتوحة وضعت فوقها إطار سيارة قديم، الذي في الغالب تكون رؤيته معدمة في الليل. رأت نظاما لم تشهده من قبل. كل يلتزم بقواعد المرور بدون حتى وجود عسكري المرور. لم ترى سيارات " الميكروباص" وسائقيها المجانين وهم يزاحمون السيارات وكأن الشارع ملكا لهم. لم ترى حتى أي أثر ل " توك توك"! ... أين هي؟ هل نامت " نادية " ليلتها السابقة في مصر واستيقظت اليوم في بلد آخر؟

وصلت "نادية " العنوان المطلوب. وعند مدخل العمارة قابلتها أختها التي كان يبدو عليها العجلة وقالت لها وهى مسرعة:" إيه اللى أخرك كده؟...ياللا هنتأخر على مشوارنا "...اندهشت " نادية " كثيرا التي لم تعطها أختها أي فرصة لفهم ما يجرى حولها، بل وزادت الأمر حيرة؛ فيا ترى ما هو المشوار الذى تنوي أختها الذهاب إليه معها ولا يجب التأخر عليه؟

وصلت " نادية " وأختها إلى احدى المصالح الحكومية لإنجاز بعض الأوراق المهمة الخاصة بهما. وهناك اكتمل مسلسل الدهشة الذي لا يبدو أنه سينتهي قريبا! لم يكن المكان مزدحما كالعادة، ولم تحتاج أن تأخذ نفسا عميقا حتى تخترق الصفوف الطويلة التي يبدو أنها تصف من اليوم السابق!  اختفت الملفات والدوسيهات التي تكسوها الأتربة منذ زمن الهكسوس وأصبح هناك كومبيوتر أمام كل الموظفين. أما الأمر الذي لم تصدقه " نادية " وكذبته حتى عيناها؛ هو ما حدث أمام الشباك عندما جاء دورهما أمام الموظف المسئول؛ فقد كان الموظف " مبتسما ذو وجه بشوش...يضحك ويسألهما بكل لطف: " صباح الخير...تأمروا بإيه؟"...هل ما تراه وتسمعه صحيحا؟ أم أن هذا الموظف جديد ولم يتعكر دمه ومزاجه بعد من العملاء؛ فيضيق خلقه، وينسي الإبتسامة، ثم يكشر عن أنيابه في وجه كل من يجرؤ فقط أن يقول له " صباح الخير".." وكمان بتقول لي صباح الخير!"...ليس هذا كل شيء...فقط انتهت مهمتها هناك في أقل من عشر دقائق! لم يكن هناك أي داع لدمغات ببضعة جنيهات من البوسطة، أو إمضاءات من أستاذة " مديحة " اللي في الدور السادس، أو أختام من الأستاذ " مجدي" اللي في المكتب اللي على ايدك الشمال! وجاء الآن وقت العودة إلى المنزل، لم تتسن ل " نادية " فرصة واحدة لتتحدث مع أختها.

وبعد مرور القليل من الوقت، وجدت " نادية " نفسها في المستشفى!! من الذي أتى بها هي وأختها إلى هناك؟ ومن المريض الذي يرقد هناك بجوارهما على السرير؟ ... صرخت " نادية" قائلة: " ماما...حبيبتي...مالك؟ حاسة بإيه؟ بتعملي إيه هنا؟...هدأت أختها من روعها ولكنها لم تقل لها ما هي حقيقة الأمر. الأمر المثير حقا كان ما رأته " نادية " في المستشفى؛ كان المستشفى الذي تذهب إليه أمها كل مرة عندما تصاب بوعكة صحية، ولكن هذه المرة كان المكان مختلفا، منظما، فتيات التمريض يعملن بكفاءة ملحوظة وبإبتسامة رقيقة ترحب بالجميع دون أن تتسول عطفهم ثم نقودهم! جاء الطبيب في موعده تماما. كان كل شيء أنيقا، مريحا، غريبا على غير العادة.

دق المنبه ... تشير عقارب الساعة إلى السادسة والنصف صباحا، موعد استيقاظ " نادية " !! ماذا حدث؟ أين هي الآن؟ كيف جاءت إلى هنا؟ كيف هي بملابس النوم؟ وأين أختها ووالدتها؟ هل كان كل ذلك حلما؟ هل كانت تحلم بالمدينة الفاضلة ؟؟ انتفضت " نادية " من نومها مفزوعة، تجري بإتجاه أقرب مرآة في غرفتها لتطمئن على شكلها؛ فهل هي تلك العجوز التي رأتها منذ قليل؟ أم ما تزال " نادية " الشابة الجميلة كما كانت دائما؟

 كان حلما...كانت " نادية " تقضي في منزلها هذا " الليلة الأخيرة " قبل سفرها في اليوم التالي إلى أمريكا، بعد أن أخذت قرارا نهائيا بالهجرة من مصر!  حلمت باليوم الذي نتمنى جميعا أن نشهده. اليوم الذي نستيقظ فيه لنجد وطنا يستحق أن نصحو كل يوم من أجله. نتعب ونشقى من اجله. وبعد كل ذلك نستحق في المقابل أن يعرف هذا الوطن كيف يصون كرامتنا. وطن يجب أن يعلم أبنائه مع الحروف الأبجدية معنى حب الوطن...ويا لها من كلمة عميقة المعنى. نستحق أن نصحو علي شارع نظيف خالي من أكوام القمامة. نستحق أن نعرف ونقدر معني النظام، فينتظم كل شيء في حياتنا. نستحق تعليما رفيعا لأولادنا، وعلاجا مناسبا لمرضانا. نستحق أن ننسى الفوضى تماما. ونشطب من قاموسنا كلمات حان وقت نسيانها؛ كلمات كالواسطةـ والفهلوة، والفتونة، والكوسة...وغيرها الكثير! حان وقت القضاء عل كل أشكال الفساد الذي ينتشر كالخلايا السرطانية فيأكل كل شيء جميل في طريقه. وعندما يتفشى – والعياذ بالله-لا تنفع معه جرعات كيماوية من الأخلاق ولا حتى جلسات إشعاعية من الدين.

لم يترك الحلم " نادية " في أحسن حال، بل زاد الأمر سوءا. فستسافر وتترك الوطن الذي تعشقه برغم كل عيوبه. ستسافر على أمل أن تعود يوما ويتحقق حلمها هذا على أرض الواقع. ستسافر ولكنها لن تنسى أن تأخذ مع حقيبة السفر وأوراق الهجرة صورتها وهي طفلة صغيرة في بهو المنزل؛ تلك الصورة التي ستذكرها دائما بالمنزل... بالأسرة... ستذكرها حتى بنفسها...أما مصر فتحملها داخل قلبها.
 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز