عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مصطفى محمود وتجديد الخطاب الدينى "3"

مصطفى محمود وتجديد الخطاب الدينى "3"

بقلم : د. عزة بدر

لا لتكفير الآخر أو إهدار دمه



 

من أهم القيم التى أكد عليها د.مصطفى محمود فى كتاباته الفكرية: احترام قيمة الفرد، وإعلاء قيم إعمال العقل والتفكير، والحث على الاجتهاد، والسمو والارتقاء بالنفس الإنسانية إلى المراتب العليا للضمير الذى رآه قبسًا من نور الله.

• بالأدلة والبراهين العقلية

ويعد كتابه «حوار مع صديقى الملحد» كتابًا جريئًا ناقش فيه الكثير من الأفكار المادية، والأسئلة الشائكة التى قد تثار ممن يعتنقون بعض الفلسفات المادية، وقد اعتمد مصطفى محمود فى هذا الكتاب على دفع الحجة بالحجة، واستخدام الأدلة والبراهين العقلية التى تعد وسائل راقية للإقناع، واتخذ سبل المناقشة الواعية الهادئة مما أضفى على نهجه فى هذا الكتاب، وفى العديد من أعماله الفكرية سمات احترام الآخر، واحترام العقل الإنسانى فكان يجول فى مساحة واسعة من الحرية بعيدًا عن فكرة تكفير الآخر أو اتهامه بالردة أو إنكار أسئلته وما يفكر فيه، فى كتابه «حوار مع صديقى الملحد» يؤكد قيمة كبرى هى الحرية التى منحها الله سبحانه وتعالى لعباده وقوله تعالى: «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى» الآية 256 من سورة البقرة.

وقوله تعالى: «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» الآية 99 من سورة يونس.

• القضاء والقدر

والقضاء والقدر كما يقول مصطفى محمود فى كتابه: «لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم وإنما على العكس، الله يقضى على كل إنسان من جنس نيته، ويشاء له من جنس مشيئته ويريد له من جنس إرادته فيقول تعالى: «من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها» آية 20 من سورة الشورى.

ويقول تعالى: «فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا» الآية 10 من سورة البقرة.

ويقول تعالى: «والذين اهتدوا زادهم هدى» آية 17 من سورة محمد.

ومن هذه الحريات التى منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان حرية التفكير والاعتقاد بل واعتناق الهدى أو اعتناق الضلالة، ويؤكد مصطفى محمود ما يخطئ فيه المفكرون الماديون حينما يتصورون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية، ويجعلون منه حلقة فى سلسلة من الحلقات لا فكاك له، ولا مهرب من الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع كأنما هو قشة فى تيار بلا ذراعين وبلا إرادة فيقول: «الكلمة التى يرددونها ولا يتعبون من ترديدها كأنها قانون هى: «حتمية الصراع الطبقى» وهى كلمة خاطئة فى التحليل العلمى لأنه لا حتميات فى المجال الإنسانى، وإنما على الأكثر ترجيحات، واحتمالات، وهذا هو الفرق بين الإنسان وبين  التروس والآلات والأجسام المادية فيمكن التنبؤ بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية، ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة على مدى أيام وسنين أما الإنسان فلا يمكن أن يعلم أحد ماذا يُضمر؟ وماذا يخبئ فى نياته؟ وماذا يفعل غدًا أو بعد غد؟ ولا يمكن معرفة هذا إلا على سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين».

• الحرية الإنسانية

ويؤكد كاتبنا أن الفكر المادى تصور الإنسان مجرد ترس فى شبكة من الحتميات، ونسى تمامًا أن الإنسان حُر، وأن حريته حقيقية، فيقول: «أما كلام الماديين عن حكم البيئة والمجتمع والظروف وأن الإنسان لا يعيش وحده ولا تتحرك حريته فى فراغ فالرد على هذا الكلام: أن حكم البيئة والمجتمع والظروف كمقومات للحرية الفردية إنما يؤكد المعنى الجدلى لهذه الحرية ولا ينفيه أما إذا كان الإنسان يتحرك فى فراغ بلا مقاومة من أى نوع فإنه لا يكون حرًا بالمعنى المفهوم للحرية لأنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خلالها.

• القيمة المطلقة للفرد

وقد بلغ احترام الفرد فى الإسلام الذروة فالفرد فى الإسلام يساوى الإنسانية كلها.

ويقول تعالى: «من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» آية 32 من سورة «المائدة».
ويؤكد مصطفى محمود أن ذروة احترام الفرد لم يصل إليها مذهب سياسى قديم أو جديد لكن الفرد فى الإسلام له قيمة مطلقة فى حين أن قيمته نسبية فى كل المذاهب السياسية فالفرد فى الإسلام آمن فى بيته، وفى أسراره فلا تجسس ولا غيبة، آمن فى ماله ورزقه وملكيته وحريته، كل شىء حتى التحية وإفساح المجلس والكلمة الطيبة لهم مكان فى القرآن.

«مصطفى محمود: حوار مع صديقى الملحد، قطاع الثقافة- أخبار اليوم، 2001» ص50.

• احترام العقل والاجتهاد

النظر فى الدين وتطوير فهمه مطلوب، وتاريخ الإسلام كله حركات إحياء وتطوير ويقول كاتبنا: «كل شىء فى ديننا يقبل التطوير ما عدا جوهر العقيدة وصلب الشريعة، وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد وجوهر الإسلام عقلانى يقبل الجدل والحوار، ويحض على استخدام العقل والمنطق، ويقول تعالى:
«أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها» آية 46 من سورة الحج.
أى أن احترام العقل فى صميم الديانة ولبها.

• لماذا خلق الله الشر؟
 

ويمضى مصطفى محمود فى حواره مع صديقه الملحد فيرد على أسئلة ومنها ما يُعد من المشاكل الأساسية فى الفلسفة وقد انقسمت حولها مدارس الفكر واختلفت حولها الآراء، فيقول: «ونحن نقول أن الله كله رحمة، وكله خير، وأنه لم يأمر بالشر ولكنه سمح به لحكمة فيقول تعالى:

«إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون» الآية 29 من سورة الأعراف.

الله لا يأمر إلا بالعدل والإحسان والعفو والخير وهو لا يرضى إلا بالطيب فلماذا ترك الظالم يظلم؟! والقاتل يقتل والسارق يسرق؟

ويجيب كاتبنا على صديقه الملحد فيقول: «لأن الله أرادنا أحرارًا، ولا معنى للحرية دون أن يكون لنا حق التجربة والخطأ والصواب والاختيار الحر بين المعصية والطاعة، ثم إننا نرى لكل شىء وجه خيرّ فالمرض يخلق وقاية والألم يربى الصلابة والجلد والتحمل، والزلازل تنفس عن الضغط المكبوت داخل الكرة الأرضية، وتحمى القشرة الأرضية من الانفجار، وتعيد الجبال إلى أماكنها كأحزمة وثقالات تثبت القشرة الأرضية فى مكانها، والبراكين تنفث المعادن والثروات الخبيئة الباطنة، وتكسو الأرض بتربة بركانية خصبة، والحروب تدمج الأمم، وتلاقح بينها وتجمعها فى كتل وأحلاف ثم فى عصبة أمم ثم فى مجلس أمن هو بمثابة محكمة عالمية للتشاكى والتصالح، وأعظم الاختراعات خرجت أثناء الحروب: البنسلين، والذرة، والصواريخ، والطائرات النفاثة كلها خرجت من أتون الحرب.

• وما ذنب الذى لم يصله قرآن؟

وتتواتر الأسئلة التى يجيب عنها كاتبنا فيوضح المقدمات الخطأ لبعض الأسئلة ثم يجيب عنها فيقول على سبيل المثال: سألنى صديقى وهو يبحث لى عن حفرة أو مطب يدق عنقى فيه:

«ما رأيك فى هذا الإنسان الذى لم يصله قرآن ولم ينزل عليه كتاب.. ما ذنبه وما مصيره عندكم يوم الحساب مثل اسكيمو فى أقاصى القطبين أو زنجى فى الغابات؟ فيجيب كاتبنا: «لقد بنيت أسئلتك على مقدمة خطأ فالله أخبرنا بأنه تعالى لم يحرم أحدًا من رحمته ووحيه وكلماته وآياته فيقول تعالى:

«وإن من أمة إلا خلا فيها نذير» آية 24 من سورة فاطر.

ويقول تعالى: «ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا» آية 36 من سورة «النحل»، والرسل الذين جاء ذكرهم فى القرآن ليسوا كل الرسل وإنما هناك غيرهم لا نعلم عنهم شيئًا، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم عن الرسل:

«منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك» آية 78 سورة غافر.

وقد يكون الوحى كتابًا يلقيه جبريل، وقد يكون نورًا يلقيه الله فى قلب المرء، وقد يكون انشراحًا فى الصدر، وقد يكون حكمة، وقد يكون حقيقة، أو فهما أو خشوعا ورهبة وتقوى، وما من أحد يرهف قلبه ويرهف سمعه إلا ويتلقى من الله فضلا.

أما عن الجزاء يوم القيامة فيقول تعالى: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» آية 62 من سورة البقرة.

ومن الآيات القرآنية ودلالتها استقى كاتبنا الحكم على من لم يصله قرآن، وموقفه ساعة الحساب فيقول: «حتى الصابئين الذين قدسوا النجوم على أنها آيات من آيات الله وآمنوا بالله الواحد وبالآخرة والبعث والحساب وعملوا الصالحات فلهم أجرهم عند ربهم».

«مصطفى محمود: حوار مع صديقى الملحد، مرجع سابق ص33»

• الجنة والنار

ويمضى الحوار فى هذا الكتاب فيجيب عن أسئلة حائرة فى صدر سائلها:

«كيف يعذبنا الله وهو الرحمن الرحيم على ذنب محدود بعذاب لا محدود «النار خالدين فيها أبدًا»، ومن نحن؟ وماذا نساوى بالنسبة لعظمة الله حتى ينتقم منا هذا الانتقام؟ وما الإنسان إلا ذرة أو هباءة فى الكون.

فيجيبه مصطفى محمود مصححًا هذا الطرح المغلوط: «إننا لسنا ذرة ولا هباءة فى الكون، وإن شأننا عند الله ليس هينًا بل عظيمًا، ألم ينفخ فينا من روحه؟ ألم يسجد لآدم الملائكة؟ ألا نحتوى الكون ونستوعبه بعقلنا وندرك قوانينه وأفلاكه، ألم يقل الشاعر وهو يخاطب الإنسان: وتحسب أنك جرم صغير/ وفيك انطوى العالم الأكبر.

إذًا فالإنسان عظيم الشأن كبير  الخطر وهو من روح الله، وأعماله تستوجب المحاسبة، ثم يتساءل كاتبنا: وهل ينبغى أن يتساوى الظالمون والمظلومون أو الجناة وضحاياهم، وهل العدل أن يستوى أولئك وهؤلاء؟! ثم يضيف مصطفى محمود: «للذين يستبعدون عن الله أن يُعذب نقول: ألا يعذبنا الله فى دنيانا؟ وماذا تكون الشيخوخة والمرض والسرطان إلا العذاب بعينه؟!»

ولكن هل هى أقدار لتعذيب الناس فى الدنيا كما يقول مصطفى محمود؟ أليست عذابات البشر فى الدنيا والمعاناة الإنسانية هى محن يمر بها البشر بسبب تقدم العمر، أو ملوثات البيئة؟ وغيرها من أسباب.

ومن الأهمية بمكان أن نعرف ما قاله أبو بكر بن زكريا الرازى «توفى حوالى 313هـ/ 932م» صاحب موسوعة الحاوى فى الطب، وكتاب الطب الروحانى حول هذا الموضوع، وذلك من واقع خبرته كطبيب ممارس عن أمراض مهر فى معالجتها وأخرى تشخص كداء عضال لا يسع الطبيب إلا مصاحبتها بأدوية التخفيف من وطأتها وأوجاعها فقد كان الرازى يميل إلى اعتبار ذرائع الأديان عامة حيال ذلك ترى أن الآلام الجسدية والنفسية إنما نُبتلى بها نحن المخلوقات الضعيفة إما من باب عقابنا وإما لامتحان إيماننا وعوضًا عن ذلك خليق بالعلماء أن يسعوا إلى تطوير الطب وقدراته من جيل إلى جيل، وتكثير المستشفيات تُعنى مرافقها بالفقراء والمرضى.

بنسالم حميش: «فى الإسلام الثقافى»، الدار المصرية اللبنانية، مايو 2016، ص13».

• هل الدين أفيون الشعوب؟!

هكذا تكلم السائل متشككًا فى حقيقة الأديان قائلاً: إنها تُخدر الفقراء والمظلومين ليناموا على ظلمهم وفقرهم ويحلموا بالجنة والحور العين، فى حين يظل الأغنياء على غناهم.

فيرد مصطفى محمود قائلاً: «الدين فى حقيقته أعباء وتكاليف وتبعات وليس تخففًا وتحللاً، وبالتالى ليس مهربًا من المسئوليات وليس أفيونا، الدين صحو وانتباه ويقظة، ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير فى كل فعل وفى كل كلمة وكل خاطر، المتدين المسلم يعتبر نفسه مسئولاً عن سابع جار، وإذا جاع فرد فى أمته أو ضُربت دابة عاتب نفسه بأنه لم يقم بواجب الدين فى عنقه.

لكن المادى هو الذى ينكر الدين هربًا من تبعاته ومسئولياته، ويتصور أن لحظته ملكه، وأنه لا حسيب ولا رقيب ولا بعث بعد الموت فيفعل ما يخطر على باله!
ولم يأتِ الإسلام لينصر الأغنياء على الفقراء وإنما جاء ثورة على الكانزين للمال والمستغلين الظالمين ويقول تعالى: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» آية 34 من سورة التوبة.

والإنفاق يبدأ من زكاة إجبارية ثم يتصاعد اختياريًا قائمًا على الضمير، وهذا أكرم للإنسان من نزع أملاكه بالقهر والمصادرة.

«مصطفى محمود: حوار مع صديقى الملحد، مرجع سابق، ص47».

• الروح والجسد

ما دليلك على أن الإنسان له روح وأنه يُبعث بعد موت، وأنه ليس مجرد الجسد الذى ينتهى إلى تراب؟، وماذا يقول دينكم عن تحضير الأرواح؟

بهذه الأسئلة يبدأ فصل بعنوان «الروح» فى كتاب مصطفى محمود «حوار مع صديقى الملحد» فلم ينزعج كاتبنا من تلك الأسئلة، وإنما بدا كفيلسوف يحاور مريديه فيقول: «فكر معى قليلاً.. إن أول المؤشرات التى تساعدنا فى التدليل على وجود النفس أن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة، الإنسان له طبيعتان طبيعة خارجية ظاهرة مشهودة فى جسده تتصف بكل صفات المادة، ولكن هناك طبيعة أخرى مخالفة تمامًا للأولى ومغايرة لها فى داخل   الإنسان تتصف بالتجرد والديمومة هى العقل بمعاييره وأقيسته ومقولاته، والضمير بأحكامه والحس الجمالى، والـ (أنا) التى تحمل كل تلك الصفات من عقل وضمير وحس جمالى وحس أخلاقى، والـ (أنا) غير الجسد تماما الذى تتداول عليه الأحوال من صحة إلى مرض إلى سمنة إلى هزال، ويتغير من حال إلى حال، ومن لحظة إلى لحظة . 

ويتساءل : أى الطبيعتين هى الإنسان حقا ؟! ثم يجيب : (الماديون يرون أن الإنسان هو جسده، وهو الحاكم، وكل ما ذكرت من عقل وحس جمالى وحس أخلاقى وضمير ملحق بالجسد تابع له ويقوم على خدمته ويتولى إشباع شهواته وأهوائه، ولكن ألا نصحو فى الصباح فيبدأ الجسد تلقائيا فى تنفيذ خطة وضعها العقل . مَنْ التابع هنا ومَنْ المتبوع ؟، ألا يجوع الجسد حين نرفض إمداده بالطعام لأننا قررنا الصوم مثلا ؟ 

ألا يتحرك بشهوة فنزجره فلا تتحقق ثم يعلو المعنى، ويتدفق عندما يصف النفس البشرية فيقول كاتبنا : (الحالة الداخلية التى تدركها فى لحظات الصحو الباطنى (حالة الحضور) هى المفتاح الذى يقودنا إلى الوجود النفسى بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذى اسمه النفس، لنا نفس تعلو على الزمن وتتخطى الموت، وتتخطى الحتميات المادية .

• عود على بدء 

يجيب كاتبنا عن أسئلة صديقه الذى استخدم منهج الشك فى كل معنى حتى أنه لا يصدق أن هناك بعثا وأن الأجساد سوف تنهض بعد أن  انتهت ترابا.

فيجيبه كاتبنا قائلا : (البعث حقيقة دينية يرجحها العلم والعقل لأن شواهد الوجود وظواهره تشير جميعها إلى أن هناك عودا على بدء لكل شىء فبعد النهار يأتى الليل، ثم يعود من جديد فيأتى النهار، والشمس تشرق ثم تغرب ثم تعود فتشرق، الصيف والخريف والشتاء والربيع ثم تعود فتتكرر الدورة من جديد، وبعد اليقظة ونوم الليل نعود فنستيقظ من جديد، وهذا يرجح أنه بعد رقود الموت هناك صحوة بعث لأن هناك عودا لكل شىء، والله تعالى يسمى نفسه فى القرآن المبدئ المعيد فيقول تعالى: (كما بدأكم تعودون) آية 29 من سورة الأعراف ويقول تعالى: «إنه يَبْدؤُا الخلق ثم يعيده) آية 4 من سورة يونس .

أما عن ماهية الروح فقد انفرد الله بعلمها يقول تعالى : (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى  وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) آية 85 من سورة الإسراء

• تحضير الأرواح

إلا أن مصطفى محمود لم يقف موقفا حاسما عند طرحه موضوع (تحضير الأرواح) فقد بدأ كلامه بقوله : (تحضير الأرواح عندنا أمر مشكوك فيه) ثم عاد يقول إن رأى الصوفية المسلمين اكثر الآراء تفسيرا لما يحدث، وهم يقولون : (إن الذى يحضر فى تلك الجلسات ليس الروح ولكن القرين وهو الجن الذى كان يصاحب الميت أثناء حياته، وهو بحكم هذه الصحبة يعرف أسراره، ولأن الجن مُعمر  فإنه يبقى حيا بعد موت صاحبه وهو الذى يحضر الجلسات ويفشى أسرار صاحبه ويقلد صوته وعاداته ليسخر من الموجودين على عادة الجن فى عدائهم للإنسان، ثم يعود مصطفى محمود فيقول مثل المفكر هنرى سودر : (إن تلك الظواهر مصدرها العقل الباطن  للوسيط والقوى الروحية للوسيط ذاته، ولا شىء يحضر بالمرة).

وقد كانت لهذه القضية حضور فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى فقد كتب الشيخ أحمد حسن الباقورى مقالا عنوانه: (الذين ينكرون الجن ينكرون القرآن) فيقول: (إن الذين ينكرون الجن ينكرون القرآن، وقد فتح الله تعالى لأولئك الجاحدين عالم الروح نافذتين لا يجرؤ على إنكارهما والإعراض عنهما إلا من يجرؤ على إنكار الشمس فى رائعة النهار، وهاتان النافذتان هما التنويم المغناطيسى واستحضار الأرواح، ويقول الشيخ الباقورى (وقد يستسيغ المرء من الملحد أن ينكر الجن وأن يبالغ فى الإنكار ولكن داهية الدواهى أن ترى منتسبا إلى الدين ينكر الجن والشيطان فينكر القاعدة الوحيدة التى ينتظم بها أمر دينه وأمر دنياه).

(مجلة الهلال : يوليو 1980، ص115) وقد رد على ذلك توفيق الطويل فى مقال له تحت عنوان: (مناقشات مقالات الهلال- حول موضوع الجان: ما نظن أن فى اعتراف المسلم بوجود الجان إشكالا ولكن الإشكال قائم فى ادعاء الإنسان إمكان الاتصال بالجن، وتسخيرها لتحقيق مآربه، ثم الادعاء باتصال الجن بالإنسان وهيمنتها على إرادته وذلك كله خارج نطاق الشريعة الإسلامية ذات القطع والتعيين ثم يتولانا العجب حين يستند الشيخ الباقورى فى تأييد وجود الجن إلى  إمكانية التنويم المغناطيسى واستحضار الأرواح، ويستطرد توفيق الطويل فيقول : (إن تحضير الأرواح مرفوض فى الدين إذ أكد القرآن الكريم استحالة الاتصال بين الأحياء والموتى تحت أى ظرف كان، ويرد عليه بالآيتين الكريمتين 99، 100 من سورة المؤمنون : (حتى إذا جاء أحدهم الموت، قال رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)

وقد وردت مقالة توفيق الطويل فى (مجلة الهلال : أغسطس 1980، ص82، ص83).

وفى رأى بعنوان : (الاتصال بالجن قديما وحديثا) : (إن العجز الإنسانى  هو الأصل فى الاستعانة أو الادعاء بالاستعانة بالجن سواء عند الخادع أو المخدوع فكلاهما يصبح بعد فترة ضحية عجزه وقهره واستسلامه لظروفه القاهرة، ولكن يجب على المسلمين أن يكونوا أبعد عن السقوط فى هذه الهوة لأن المسلم الحق هو الذى يؤمن أنه يواجه كل الظروف وهو يستند إلى ذات  وحدانية قاهرة، ذات الله صاحب الأمر والنهى، لا يشاركه فى ذلك جن ولا ملائكة ولا أنس). 
(عبدالمنعم الجداوى : مجلة الهلال، أغسطس 1980، ص 76، 81.

ومن هنا نقول إن كتابات توفيق الطويل، وعبدالمنعم الجداوى جاءت أكثر حسما لهذا الموضوع من موقف مصطفى محمود الذى أنهى هذا الفصل من كتابه (حوار مع صديقى الملحد) بقوله : (المسألة مازالت قيد البحث، وللأسف الشعوذات فى هذا الموضوع أكثر من الحقائق، والكلمة الأخيرة لم تقل بعد) ص 77

• علم الله وعلم الإنسان 

 أما أبدع فصول هذا الكتاب لمصطفى محمود فهو تناوله  لفكرة الزمن فى القرآن الكريم فقد أتى تفسيره دقيقا وسؤاله حصيفا إذ يقول : (لماذا يأتى المستقبل على لسان الخالق على أنه ماض فأحداث يوم القيامة ترد كلها على أنها ماض.)
 (وانشقت السماء فهى يومئذ واهية) آية 16 من سورة الحاقة
 (وَبُرّزت الجحيم للغاوين)  آية 91 سورة الشعراء . 

ويفسر ذلك بقوله : (أن كل الأحداث حاضرها ومستقبلها قد حدثت فى علم الله وليس عند الله زمن يحجب عنه المستقبل فهو سبحانه فوق الزمان والمكان ولهذا تقرأ العبارة القرآنية أحيانا فنجد أنها تتحدث عن زمانين مختلفين، مثل: 
(أتى أمر الله فلا تستعجلوه)  آية 1 من سورة النحل 
فالأمر قد أتى وحدث فى الماضى لكن الله يخاطب الناس بألا يستعجلوه كما لو كان مستقبلا لم يحدث بعد، والسر كما شرحناه أنه حدث فى علم الله لكنه لم يحدث بعد فى علم الناس، ولا تناقض وإنما دقة وإحكام وصدق فى المعانى العميقة).

.. كانت تلك التفسيرات اجتهادا، يتمتع بعمق الرؤية والقدرة على التحليل اتسمت بها كتابات مصطفى محمود الفكرية والتى أمتعت قراءه بتأملات عميقة، وأثارت أسئلة، وأنعشت الفكر بأن رفدته بأفكار عديدة، وفتحت مجالا للحوار والاختلاف، والرد على الحجة بالحجة، والاعتماد على الدليل والبرهان فى حوار اتسم باحترام العقل والآخر بعيدا عن فكرة تكفير الآخر أو إزهاق روحه أو إهدار دمه .. ومن هنا اكتسبت كتاباته قيمة كبيرة فى نفوس قارئيها. 
 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز