عاجل
الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
فـى ذكــرى طلعت حرب!
بقلم
محمد نجم

فـى ذكــرى طلعت حرب!

بقلم : محمد نجم

 



لم يكن طلعت حرب رائد الاقتصاد المصرى الحديث.. رجل أعمال ولا صاحب ثروة.. بل كان رجل قانون، حيث تخرج من كلية الحقوق بجامعة الملك فؤاد (القاهرة حاليا)، ولكن تكمن عبقرية هذا الاقتصادى الفذ فى إيمانه الشديد بقدرة الشعب المصرى على صنع نهضة زراعية- صناعية مصرية خالصة.. متحديا بذلك السيطرة الاقتصادية والأجنبية على الثروات الطبيعية المصرية، مبادرا بدعوته لتأسيس بنك مصر برأسمال لم يتجاوز الـ 80 ألف جنيه وقتها، ونجاحه خلال سنوات قليلة من إنشاء وتأسيس أكثر من عشرين شركة فى مجالات مختلفة تحمل الاسم العزيز (مصر).

وقد حاولت منذ عدة سنوات دراسة تاريخ وتجربة هذا الرائد العظيم طلعت حرب وبمساعدة قيمة من المرحومة عنايات شابند وبعض أحفاده ونشرت ما توصلت إليه فى ملحق خاص بمجلة أكتوبر.

وعندما تلقيت دعوة د. هالة السعيد عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لحضور ندوة إعادة التوازن للاقتصاد المصرى واستلهام تجربة طلعت حرب، سارعت بالمشاركة لأتزاحم مع عدد كبير من الاقتصاديين المصريين وأساتذة جامعة القاهرة فى تلك القاعة العريقة والتى تحمل اسم أستاذ الأجيال أحمد لطفى السيد، وبحضور وفد كبير من ممثلى تحالف المصريين فى أمريكا الشمالية صاحب فكرة عقد تلك الندوة بالتعاون مع كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.

 

ثم كانت المفاجأة الكبرى أن المتحدث الرئيسى فى الندوة هو د. أريك ديفز أستاذ العلوم السياسية بجامعة روتجرز ومؤلف كتاب «طلعت حرب والتصنيع المصرى» فى منتصف القرن الماضى.. والذى صدر بأكثر من لغة وترجم مؤخرا للعربية.

والمفاجأة أن د. أريك تحدث باللغة العربية (مع شىء من التكسير)، كما وضح أنه صاحب حس فكاهى محبب، حيث وصف نفسه بقائد المؤامرة الدولية لتدمير اللغة العربية.

ولكن الأهم.. أن الرجل تطرق إلى جوانب فى شخصية طلعت حرب لم ننتبه إليها من قبل، كما عالج  موضوعات غفل عنها مؤلفون آخرون، منها- مثلا- أن طلعت حرب كان يرى أن قوة مصر تكمن فى قوة عائلاتها الكبرى والبارزة وصاحبة التواجد الملحوظ فى المجتمع المصرى، ولكى يضمن تعظيم حجم مساهمتهم فى البنك بدأ بتعيين أبنائهم فى البنك وشركاته، وأيضا لكى يبرز وطنية البنك الوليد استوحى الهندسة المعمارية الإسلامية فى إنشاء مقراته فى جميع محافظات مصر، ولم ير حرجا أو عيبا فى أن يكون أول رئيس لبنك مصر هو يوسف أصلان القطاوى والذى كان يتولى رئاسة الطائفة اليهودية فى مصر وقتها.

ولم يكتف الرائد العظيم بالعمل على المستوى المحلى ولكنه فتح خطوطا متعددة للتعاون المشترك مع كافة الدول العربية.. حتى قيل إنه أول من حقق ما يسمى بالتكامل الاقتصادى العربى، هذا فضلا عن إيمانه العميق بأن النشاط الاقتصادى لا يجب أن يستهدف تحقيق أرباح فقط، ولكن هناك ما يسمى بالرأسمال الاجتماعى، ولذلك اهتم بنشاط السينما والثقافة بشكل عام.

qqq

ولكن يبدو أن النجاح فى مصر لابد له من ثمن، فبعد أن نجح بنك مصر والشركات التى أنشأها، بدأ طلعت حرب فى الإعلان عن إنشاء بنك صناعى مصرى كمحاولة لكسر احتكار البنوك الأجنبية العاملة فى مصر وتحكمها فى عدم قيام صناعة وليدة بها بحجة أن مصر بلد زراعى ولا توجد لديها مقومات صناعية واعدة.

ولكن هل يتركه حاسدوه ومنافسوه والذين تملكت الغيرة قلبهم مرددين كيف لهذا العصامى القادم من إحدى قرى الشرقية يكل هذا الزخم المجتمعى والنجاح الاقتصادى؟.. فقد أوعز كل من إسماعيل صدقى وأحمد عبود للبرلمان برفض الفكرة، ولم يكتفوا بذلك.. بل ضغطوا على صندوق البريد المصرى- وقتها- بسحب إيداعاته ببنك مصر، فتعرض البنك بعدها لما يسمى بأزمة السيولة، وخيّر طلعت حرب ما بين الإعلان عن إفلاس البنك أو أن يتقاعد ولا يكون له علاقة ما بالبنك وشركاثه، وبالطبع لم يتردد المصرى الأصيل فى اختيار العرض الثانى، حيث قضى بقية عمره فى معزل عن الناس مكتفيا بالمبلغ الزهيد الذى قرر له كمعاش!

وعين حافظ عفيفى باشا رئيسا للبنك، والذى تغلبت مصريته على الاستمرار فى التحالف مع الحاسدين.. وبدأ البنك فى العودة إلى مسيرته الأولى.. وأسس شركات جديدة فى مجالات مختلفة حتى وصل عدد الشركات التى أنشأها البنك أو ساهم فى تأسيسها وحتى نهاية الأربعينيات من القرن الماضى إلى حوالى 34 شركة مازال بعضها بمثابة منارات صناعية مصرية تساهم بشكل فعال فى الاقتصاد المصرى، ولعل أبرزها شركة مصر للطيران وغزل المحلة وشركة مصر للزيوت واستديو مصر.. وغيرها!

لقد آمن طلعت حرب أن الاقتصاد المصرى لابد له من ساقين قويتين وهما الزراعة والصناعة، حيث الإنتاج والتشغيل، بدلا من الاقتصار على نشاط الخدمات وكأنه قاطرة التنمية.. وكما حدث فيما بعد!

ومن هنا كانت فكرة المؤتمر: كيف نعيد التوازن للاقتصاد المصرى من جديد؟.. ولذلك تركزت مناقشاته والتى شارك فيها كافة المتخصصين المصريين فى بحث آليات تطوير القطاعات الإنتاجية، وكيف نعظم دور القطاع المصرفى فى دعم الصناعة والمشروعات، مع دعم دور القطاع الخاص المصرى كشريك أساسى فى تحقيق التنمية، خاصة أن مصر لديها إمكانات هائلة يمكن القول إنها لم تستغل بعد بشكل جيد.

كما تجب الإشارة أيضا أن انعقاد مثل هذا المؤتمر فى جامعة القاهرة هو عودة بمؤسسات التعليم والبحث العلمى فى مصر لخدمة المجتمع والاقتصاد الوطنى، وكما قال د. جابر نصار رئيس الجامعة بحق أن الأمم تتقدم بالأفكار.. وليس بالأموال فقط! مشيرا إلى ما يجب أن تكون عليه الجامعات المصرية  كمفرخة للخريجين المؤهلين القادرين على قيادة خطوات التطوير والتطوير فى المجتمع.

كما تساءل د. جابر- وعن حق أيضا- هل يصح أن نستمر فى تدريس قصة عنترة ابن شداد وحبه لعبلة العبسية بدلا من دراسة تجربة رائد الاقتصاد المصرى الحديث طلعت حرب!

qqq

لقد أثار المؤتمر وذكرى طلعت حرب الكثير من الشجون والتداعيات، منها مثلا لماذا غابت المبادرات الكبرى التى تسارع بالصعود بالمجتمع المصرى وتحسين أحوال معيشة مواطنيه؟.. وهل عجزت مصر عن أن تلد أكثر من طلعت حرب جديد؟.

على أية حال.. وما يطمئن ويدفعنا للتفاؤل أن أحفاد طلعت حرب فى بنك مصر لايزالون يواصلون المسيرة، وقد صعدوا بشركات البنك من 34 شركة إلى أكثر من 160 شركة حاليا، هذا على الرغم من الحظر المفروض عليهم من البنك المركزى بألا تزيد مساهمات البنوك على 40% فى الشركات غير المالية، وهنا أعتقد أن أحفاد طلعت حرب فى بنك مصر يمكنهم قيادة عمليات الاكتتاب فى شركات جديدة وفى أنشطة مختلفة وأن تستكمل المبالغ المطلوبة لرأس المال عند التأسيس أو التشغيل من خلال الاكتتاب العام بالبورصة، ولا أعتقد أن المصريين سوف يخذلوهم فى ذلك، بل إننى أراهن بأنهم لن يستوعبوا حجم الإقبال المتوقع وعندنا تحارب سابقة تؤكد ذلك، فما المانع- ورسالتى هنا للأستاذ محمد الأتربى رئيس البنك أن يعيد بنك مصر لسيرته الأولى والتى بدأ بها فى ثلاثينيات القرن الماضى! خاصة أنه أعلن أن لديه أكثر من 120 مليون دولار فائض عن احتياجاته اليومية!

قضية أخرى أثارها المؤتمر وهى المصريون فى الخارج والذين تشير بعض البيانات لوصول تعدادهم إلى حوالى 8 ملايين مصرى، وعلى فرض أن نصفهم يتمتعون بدخول مالية معقولة، فماذا لو حوّل كل منهم ألف دولار فقط شهريا إلى حسابه الخاص بأحد البنوك العاملة فى مصر؟! هل تعلمون حجم الحصيلة الشهرية؟.. إنها لن تقل عن 4 مليارات دولار شهريا.. وبحسبة أخرى حوالى 48 مليار دولار سنويا!

ألا يمكن أن يقوم المصريون فى الخارج بهذه المبادرة ولو لمدة عام واحد لسد العجز فى احتياجاتنا من النقد الأجنبى وخاصة الدولار الأمريكى؟.. مع العلم أن هذه المبالغ ستظل ملكا لأصحابها وفى حساباتهم الخاصة وهى مضمونة من البنك المركزى المصرى، ولكن كل ما سوف يحدث أن الجهاز المصرفى سوف يستخدم تلك الحصيلة فى تغطية واردات البلاد من الخارج مما يخفف الضغط عن العملة الوطنية ويتم تداولها فى سوق النقد بسعرها وقيمتها الحقيقية.

نعم.. نستطيع.. فأبناء مصر وطنيون مخلصون محبون لبلدهم وأيا كان موقعهم أو طبيعة عملهم أو محل إقامتهم.

حفظ الله مصر وألهم أبنائها الرشد والصواب..                                

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز