عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
متعة الحياة فى أدب نجيب محفوظ

متعة الحياة فى أدب نجيب محفوظ

بقلم : د. عزة بدر
 (تحية للعمر الطويل الذى أمضيته فى الأمان والغبطة، تحية لمتعة الحياة فى بحر الحنان والنمو والمعرفة)..
.. تلك كلمات نجيب محفوظ فى كتابه :
 
(أصداء السيرة الذاتية)، وفى هذه الكلمات التى اختزلت كل العطر فى وردة، ورأس الحكمة فى عدة سطور تأتلق حياة وكتابات نجيب محفوظ بتنوعها، وثرائها الفكرى والثقافى لتتوجه ملكا للسرد، ولدنيا الخيال والحكى، وفارسا  من فوارس المخيال الشعبى، وأحد حكماء هذا العصر الذى نعود لكلماته وفلسفته فى الكتابة والفن والحياة فنتجدد ونسمو ونرتقى إلى عالم من القيم والمثل، والمتع النفسية والحسية احتفلت بالحياة على أكمل وجه، وأتم صورة.
 
• نقطة الكمال 
 إن ما دفع بنجيب محفوظ  إلى قمة حياتنا الأدبية والفكرية بل والاجتماعية هو تطلعه للمثال، وبحثه الفريد عن نقطة الكمال، لقد كان هو نفسه كما كشف لنا فى أصداء سيرته الذاتية هو (عبدربه التائه) العاشق للحياة، والباحث عن أعمق أسرارها ومعانيها، مزج ذكرياته وتجاربه وخبراته الحياتية فقطرها فى ألوان وأشكال من السرد استلفتت النقاد والمتخصصين كما لفتت أنظار  قرائه والمهتمين بإبداعه، بل نظرت جموع الناس فى مصر والعالم العربى بل والغربى إلى حارته (حارة نجيب محفوظ) كعلامة أدبية فارقة ميزت أدبه الذى انتقل من المحلية إلى العالمية بفضل إخلاصه لهموم المواطن العادى وانشغاله بجوهر الإنسانية، وتصويره البارع لأوجه الحياة فى مصر، وللشخصية المصرية فتفاعل أدبه أخذا وعطاء مع الحياة الشعبية، والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية فى مصر بدءا من رواياته التاريخية: (عبث الأقدار) 1939، و(رادوبيس) 1943، و(كفاح طيبة) 1944، ومرورا عميقا فى رواياته الواقعية بالحياة الشعبية المصرية فى أدق صورها من خلال رواياته : (القاهرة الجديدة) 1945، و(خان الخليلى) 1946، و(زقاق المدق) 1947، و(السراب) 1948، و(بداية ونهاية) 1949، وثلاثيته الشهيرة (بين القصرين) 1956، و(قصر الشوق) 1957، و(السكرية) 1957، و(اللص والكلاب) 1961، و(السمان والخريف) 1962.. وغيرها.
 
 كان إيمانه العميق بالحياة، وعشقه للأدب هما الوسيلتان اللتان بحث بهما عن نقطة  الكمال أو كما يقول فى أصداء سيرته الذاتية من خلال هذه الأيقونة  التى تتراوح فى خصائصها الأسلوبية ما بين القصة القصيرة، والخاطرة الشعرية، والحوار الفلسفى فتبلور نهجه فى الحياة وفى اختيار طريق الأدب والفن فيقول :
 قال الشيخ عبدربه التائه :
 «قلت له بخشوع وعيناى لا تفارقان طلعته :
لم أر أحدا فى مثل بهائك من قبل فقال باسما :
 الفضل لله رب العالمين
 أريد أن أعرف من تكون يا سيدي؟
فقال بهدوء وكأنه يتذكر :
أنا الذى كان يوقظك من النوم قبل شروق الشمس.
أصغيت باهتمام فواصل:
 أنا الذى ناصرتك على الكسل فانطلقت مع العمل.
 فكرت بعمق فيما قال، واستمر هو:
أنا الذى أغراك بحب المعرفة فهتفت:
 نعم.. نعم
 وجمال الوجود أنا الذى أرشدتك إلى منابعه.
إنى مدين لك إلى الأبد
وساد صمت متوتر، وشعرت بأنه جاء يطالبنى بشيء فقلت :
إنى طوع أمرك
 فقال بهدوء شديد :
 - جئت لأضع فوق عملى نقطة الكمال» «أصداء السيرة الذاتية» ص 118
• مفتاح السعادة
.. لقد اكتشف نجيب محفوظ بنفسه متعة الحياة فى بحر الحنان والنمو والمعرفة وهو مدين بهذا لدرس الطفولة عندما تلقته أحضان الرعاية والحنان وولت دنيا الإرهاب كما وضعها فى أصداء سيرته الذاتية فيقول تحت عنوان : (دين قديم) :   (فى صباى مرضت مرضا لازمنى بضعة أشهر، تغير  الجو من حولى بصورة مذهلة وتغيرت المعاملة، ولت دنيا الإرهاب، وتلقتنى أحضان الرعاية والحنان، أمى لا تفارقنى وأبى يمر عليًَّ فى الذهاب والإياب، وإخوتى يقبلون بالهدايا، لا زجر ولا تعيير بالسقوط فى الامتحانات.
 
 ولما تماثلت للشفاء  خفت أشد الخوف الرجوع إلى الجحيم، عند  ذاك خلق بين جوانحى شخص جديد، صممت على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة، إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفنى ذلك من عناء، وجعلت أثب من نجاح إلى نجاح، وأصبح الجميع أصدقائى وأحبائى، هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل (مرضى)!!
 
• روح المكان 
 تأخذنا رواياته إلى التاريخ العميق للأمكنة إلى الحارة  المصرية، والمقاهى، لطعم الأزقة ففيها تجسيد لروح القاهرة القديمة وناسها وعاداتها فى حراكها، وليست رواياته تأريخا للمكان بقدر ما كانت تبعث فيه حياة جديدة تتصل بنفوسنا القديمة والحديثة بكل ما فينا من مشاعر واختلافات..
 إنها الأماكن تحيا فينا وبنا طوال الوقت كأنها أحد مخازن الشعور بل إن مصائر شخصياته ترتبط بالأمكنة حتى أصبح المكان فى أعمالا مفتاحا لقراءة الشخصية المصرية، فلقد كان محفوظ عاشقا بحق للأمكنة، وأذكر أننى التقيت به فى ثمانينيات القرن الماضى، وكنا فى مجلة (صباح الخير)  نرصد ملامح مصر فى مائة عام، وكنت أكتب عن أحياء القاهرة وأمكنتها فذهبت لأسأل نجيب محفوظ عن أماكنه التى ملأت خيالى سحرا ودهشة فسألته وكان فى جمع من أصدقائه ومحبيه :
 (لقد ذهبت أبحث عن حى السكَّرية) فلم أعرف من أين يبدأ ولا أين ينتهى ؟
فتأمل نجيب محفوظ سؤالى ثم أجاب : (تبدأ هنا فى داخلى ثم لا تنتهى).
 فصفق له قلبى، وكان أهل الحى قد رأوا أن حى السُكرية يبدأ من باب الفتوح إلى عطفة الآياتى إلى شارع ضيق ينتهى عند بيت المناديلى، وعَرَّفه أحدهم قائلا : (أمال إيه ؟.. نجيب محفوظ كان يمشى هنا على طول).
 فقلت له : إذا كان قد مشى هنا ذات يوم فهى (السُكَّرية).
 كان ذلك فاتنا، أكثر فتنة من أى شيء أن يكون مثل هذا الارتباط الشعورى بين الناس وبين الأديب الذى أبدع المكان وأضاف إليه من جوانح خياله سحرا ودهشة.
 بل إن النقاد اهتموا بدراسة  المكان فى أعماله.
 فيقول (ممدوح فراج) فى دراسته (المقهى ومشكلات المصير الإنسانى عند نجيب محفوظ) :(المكان لديه حالة فارقة بحضوره  المتعدد والثرى داخل نتاجه الإبداعى على اختلاف أنواعه : رواية، قصة قصيرة، مسرح، نصوص سيرية كما فى أصداء السيرة وأحلام فترة النقاهة.
 وشكلت أماكن متناهية فى الصغر مثل الحارة والعوامة والبنسيون ملامح أساسية فى أعماله، فقد كانت المقاهى لديه بمثابة علامة من علامات الانفتاح الاجتماعى  والثقافى.
فهناك مقهى (الكرنك)، ومقهى (الزهرة) فى رواية خان الخليلى، ومقهى البوديجا فى رواية السمان والخريف، فتفارق المقاهى  وظيفتها كمكان للتجمع واللقاء بين الناس إلى مكان موازٍ وفضاء رحب تتفاعل فيه جميع الأفكار السياسية والمذاهب الفكرية  تتجادل فى  صخب فى حالة من الحيوية السياسية مثل مقهى (أحمد عبده) الذى شغل حيزا كبيرا فى ثلاثية نجيب محفوظ، حيث كان مكانا يجتمع فيه الثوار للتجهيز للمظاهرات ضد الإنجليز، ومقهى (قشتمر) وهو مقهى شهير فى العباسية - فى حى الظاهر، وتدور الأحداث فيه من خلال خمسة من الأصدقاء يربطهم المكان وتنتهى الرواية أيضا فى المقهى  الذى تحمل اسمه (قشتمر).
 
• عشق الحياة 
 كان نجيب محفوظ مغرما بالحياة والحب بل رأى أن من يحب الحياة بصدق تحبه الآخرة بجدارة، وفى أعماله الأدبية تجلى  هذا العشق فيقول فى «أصداء سيرته الذاتية» :
 (قال الشيخ عبدربه التائه :
 جاءنى رجل شاكيا فسألته عما به فقال:
«إنى غريق فى بحر المتعة ولا أشبع!
 فقلت له :
- سأزورك يوم تشبع لأقدم لك واجب العزاء». ص 150
كان نجيب محفوظ يحمل كأسه المترعة برحيق الحياة فتجلت فى أعماله حيوية البحث عن الجمال، وعن المعنى الحقيقى للحب، وكان تقديره واضحا ومميزا فى كتاباته، ويمكن أن نلمس تعاطفه مع أمينة فى ثلاثيته عندما يقول :
 (أمينة التى تروعها  المآذن التى تنطلق انطلاقا ذات إيحاء عميق،  تارة عن قرب حتى لترى مصابيحها وهلالها فى وضوح كمآذن قلاوون  وبرقوق، وتارة عن بعد غير بعيد فتبدو لها جملة بلا تفاصيل كمآذن الحسين والغورى والأزهر، وثالثة من أفق سحيق فتتراءى أطيافا، ترى ما هذه الدنيا التى لم تر منها أمينة إلا المآذن والأسطح القريبة؟، ما هذه الدنيا التى لم ترها  أمينة إلا مرات متباعدة وهى تخرج لزيارة أمها بالخرنفش أحد تفرعات شارع المعز - وعند كل زيارة يصطحبها سى السيد فى حنطور لأنه لا يتحمل أن تقع عين على حرمه بيد أنها ما تكاد تنفذ ببصرها من ثغرات الياسمين واللبلاب إلى الفضاء والمآذن والسطح حتى تعلو شفتيها الرقيقتين ابتسامة حنان وأحلام).
 وعن إحدى قصص الحب التى عاشها استلهم حب كمال عبدالجواد لعايدة لا أحد يدرى على وجه الدقة ملامح الحقيقة من ملامح الخيال، ولكن نجيب محفوظ صرح ذات مرة فقال : (أنا كمال عبدالجواد فى الثلاثية)
ومن النصوص السردية التى تكشف عن حبه للمرأة، وإيمانه بالحب فيقول:
• الطاهر:
«رأت الشيخة رجلا حائرا وهى تسير فى السوق بجلبابها الأبيض وخمارها الأخضر فأجاب بصبر نافذ:
- أبحث عن ماء طاهر. فقالت بلهجة لم تخل من عتاب:
- لا يوجد ما هو أطهر من عرق المرأة» وفى نص آخر بعنوان «التوبة» يقول: «مرت أمامى الجميلة الفاتنة وهى تتأود وتتنهد فلم ألتفت إليها، نعمت فى ذلك الوقت الجاف بإرضاء كبرياء الزهد والإعراض عن مغريات الدنيا، وثبت إلى طبيعتى فى ليلة قمرية ذات بهاء، وسعيت وراء الجميلة الفاتنة.
وأنا مشفق من العقاب ولكنها تلقتنى بابتسامة وقالت:
- لتهنأ بمصيرك فإننى أقبل التوبة».  « أصداء السيرة الذاتية» ص48
• معنى الجنس فى أدب نجيب محفوظ
الجنس فى أعماله يمضى فى موازاة العلاقات الأخرى بحركة تلقائية عفوية كما يقول غالى شكرى فى كتابه «أزمة الجنس فى القصة العربية»، وفى فصل بعنوان: «معنى الجنس عند نجيب محفوظ» يقول: «محفوظ أحد هؤلاء الذين لم يتخصصوا فى موضوع بعينه، وإنما أولوا الحياة العريضة اهتمامه الأول.
 
فقد صور محفوظ الجنس كعلاقة اجتماعية فى تفاعلها المعقد مع بقية العلاقات من جانب ومن الواقع الحضارى للمجتمع من جانب آخر، ومع التكوين الذاتى لنفسية الفرد من جانب ثالث وعلى هذا النحو تميزت كتابات نجيب محفوظ فى هذا الجانب بالأصالة والعمق، ويرى غالى شكرى أن الثلاثية هى عمل استجمع فيه محفوظ نظرته كلها فى الحياة والإنسان والمجتمع، وتخير مرحلة حية تجاوزت ربع قرن من حياتنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى ثورة 1919، وتخير الطبقة المتوسطة الصغيرة ولايرى الثلاثية فى خانة الفن التاريخى وإنما يراها وسيلة فنية لعرض أزمة والتعبير عن قضية معينة، ويراه لم يؤرخ لإحدى مراحل تطورنا بقدر ما أراد أن يصور بعض قضايانا الفكرية والإنسانية، وفى تناوله لشخصية السيد عبدالجواد وتفسيره للعلاقات النسائية العديدة التى ملأ بها دنياه يعالج قضية الجنس من وجهة نظر بطله فيقول ردا على الشيخ متولى الذى ينصحه بتعدد الزوجات مثلما فعل أبوه بدلا من مسافحة النساء فيقول سى السيد: «كان أبى شبه عقيم فأكثر من التزوج، وبالرغم من أنه لم ينجب سواى إلا أن عقاره تبدد بينى وبين زوجات أربع مات عنهن، إلى ما ضاع على النفقات الشرعية فى حياته، أما أنا فأب لثلاثة ذكور وأنثيين وما يجوز لى أن أنزلق إلى الإكثار من الزوجات فأبدد ما يسر الله علينا من رزق، ولاتنس يا شيخ متولى أن غوانى اليوم هن جوارى الأمس واللاتى أحلهن الله بالبيع والشراء، والله من قبل ومن بعد غفور رحيم».
 
وهنا يكون السيد أحمد عبدالجواد قد لخص مأساة دامية عاشها الإنسان منذ العصر العبودى الأول حتى مجتمعنا الحديث هى مأساة الوضع اللاإنسانى الذى عاشته المرأة، وتحولها إلى شيء أو كما يقول غالى شكرى: «تصبح العلاقة بين أحمد عبدالجواد والمرأة فى المجتمع الإقطاعى علاقة استهلاكية فهى مجرد أنثى.
 
ثم تتغير هذه النظرة تماما مع جيل آخر جديد فى الثلاثية يتمسك بالحب، وبالزواج، الناجح مثل أبناء خديجة، ويقول غالى شكرى: إنه يرسم خطا بيانيا للقيمة الإنسانية النابعة من التكوين النفسى والاجتماعى للشخصية، ونجيب محفوظ فى روايتيه «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية» بذل جهدا رائعا فى تتبع وتصوير تعقد الحياة وعلاقات الأفراد فإذا انحدرت بأحدهم علاقة ما كالجنس - إلى الحضيض فلأن كافة العلاقات الأخرى لاترتفع عن نفس المستوى وهنا يتألق منهجه فى التعبير، إذ هو يتخير بإحساس مرهف وشفافية الزاوية النموذجية للكشف عن جوهر الحدث أو الشخصية أو الموقف الدرامى، فى «القاهرة الجديدة» تتنوع درجات الوعى والإدراك وتتعدد المستويات الاجتماعية فتلتقى بالملحد والمتدين والمستهتر، بالغنى والفقير والمتوسط، بالصفاء والغدر واللامبالاة، وتنمو القضية الإنسانية، من خلال التجربة الفنية فى تناسق بديع .
 
وفى رأيى أن معالجة نجيب محفوظ لقضية الجنس فى رواياته قد توجت بنظرة إنسانية لكيان الفرد، مثمنا قدرته على تغيير حياته بإرادته وعزمه وعلى سبيل المثال شخصية «ريرى» فتاة الليل فى رواية «السمان والخريف» التى ترفض «عيسى الدباغ» الذى عشقته لأنه أهانها وتخلى عنها وتركها وابنته التى من صلبه ولم ينسبها إليه، وتمسكت بزواجها من الرجل الذى عطف عليها وابنتها، والإعلاء من قيمة الإنسان وكرامته فى كتابات نجيب محفوظ شأنه شأن كل أدب رفيع يحاول أن يلقى الضوء على محنة الإنسان.
 
• النص الأدبى والنص الدينى
وتأتى رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ لتمثل المرحلة الفلسفية أو الرمزية فى أدبه وقد نشرت مسلسلة فى الأهرام عام 1959 لتثير عاصفة من التساؤلات والقضايا الفكرية المهمة وهى ضرورة التمييز والفصل بين النص الأدبى والنص الدينى وبين لغة الرواية ولغة التاريخ، وبين معتقدات الكاتب ومقاصد الرواية فبعد نشر الرواية اعترضت بعض رموز التيار الدينى المحافظ على نشرها استنادا إلى تأويل الرواية تأويلا دينيا يتماس مع قصص الأنبياء فكان أن تم منع طبع الرواية فى مصر وكما قيل حينذاك «لأنها ستحدث ضجة كبيرة نحن فى غنى عنها» ولكن تمت طباعة الرواية فى بيروت عام 1967، وهذه الرواية التى وصفها النقاد بأنها حولت رموز الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام إلى رموز وقيم ومعطيات كما يقول محمود أمين العالم فى مقالته: «جدل الخاص والعام فى أدب نجيب محفوظ»، دورية نجيب محفوظ، عدد 8 ديسمبر 2015، المجلس الأعلى للثقافة، ص318.
 
إذ يبرز «عرفة» رجل العلم والمعرفة فى نهاية مسيرة طويلة كأنما هو امتداد تاريخى موضوعى للرسالات السماوية وإن كانت رسالته هى العلم وإن استخدمت الرواية لفظ السحر مرادفا متخيلا للعلم مع الامتزاج والتوحد مع «عواطف» أى العمق الإنسانى، ولكن سرعان ما يفسد «عرفة» نفسه إذ يغويه ويطويه نظار الحارة ويستخدمون سحره أى علمه لمصالحهم وتنتهى الرواية بمصرع «عرفة» و«عواطف» كما يختفى الكتاب الذى يحتوى على أسراره العلمية أو السحرية ولكن يبقى مساعده الذى يعرف كل الأسرار والتخفى وتنتهى الرواية بالكلمات التالية «لوحظ اختفاء بعض الشبان تباعا وقيل أنهم اهتدوا إلى مكان من يعرف الأسرار وإنه أخذ يعلمهم السحر استعدادا ليوم الخلاص الموعود، أما الناس فقد استمسكوا بالأمل، قالوا لابد للظلم من آخر ولليل من نهار ولترين حارتنا نهاية الطغيان ومشرق النور والعجائب» ص318.
 
هذا ما طرحه محمود أمين العالم فى رؤيته للرواية ص318 وهو التفسير الذى يصلح أن يكون سياسيا أو إنسانيا أو تصويرا للصراع بين العلم والدين فى العصر الحديث وهى كلها بالنهاية رؤية الكاتب تخصه فى تركيب أدبى يعتمد على الرمز، وفيه من الواقع والخيال.
 
وعلى سبيل المثال يفسر محمود أمين العالم شخصية الجبلاوى فى رواية (أولاد حارتنا) بأنه مالك الأرض وصاحب أوقافها وهو صاحب الوصايا العشر الجديدة التى تؤكد ضرورة توزيع ريع هذه الأوقاف بالتساوى والعدل على أهل الحارة وهو فى الرواية يمثل مرجعية أساسية للقيم الإنسانية ومن هنا يستنتج أن الأسماء والأماكن والتعابير اللغوية لاتشير إلى معانيها المباشرة وإنما قد تتضمن دلالة مزدوجة تجمع بين المحدد وغير المحدد، المادى والمعنوى ولو كان مثل هذا الرأى قد تم طرحه على الجمهور العام، وتوافرت المنافذ الثقافية والإعلامية والصحفية لإحداث هذا الحوار المجتمعى حول النص الأدبى والنص الدينى، والواقعى والمتخيل من خلال متخصصين فى النقد الأدبى فى مناخ سمح، وتذوق فنى وذائفة سمحة، وتفكير لم يسئ تأويل الرواية وفهمها لما تعرض نجيب محفوظ عام 1994 لمحاولة الاغتيال التى قام بها أحد الشبان المتطرفين.
 
• معنى الحياة!
لقد آمن نجيب محفوظ بالحياة وبالآخرة وعاش يبحث عن نقطة الكمال، وكانت تأملاته التى يقول فيها تحت عنوان «سؤال عن الدنيا» - فى «أصداء السيرة الذاتية»:
«سألت الشيخ عبدربه عما يقال عن حبه للنساء والطعام والشعر والمعرفة والغناء فأجاب جادا:
- هذا من فضل الملك الوهاب فأشرت إلى ذم الأولياء للدنيا فقال:
- إنهم يذمون ما ران عليها من فساد» ص118
وفى نص آخر بعنوان «الحركة» يقول نجيب محفوظ:
«قال الشيخ عبدربه التائه:
جاءنى قوم وقالوا أنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة فقلت لهم تحركوا دون إبطاء فالمعنى كامن فى الحركة» ص156.
.. تحية لنجيب محفوظ.. تحية للعمر الطويل الذى أمتعنا بالأمان والغبطة، تحية لمتعة الحياة فى بحر الحنان والنمو والمعرفة، ولهذا الإبداع المتواصل المتدفق كالنهر عطاء وعذوبة ولتبقى أصداء سيرته الذاتية تتردد فى أسماعنا:
«من خسر إيمانه خسر الحياة والموت»، و«إذا أحببت الدنيا بصدق أحبت الآخرة بجدارة .

تحية لنجيب محفوظ الذى حمل فى قلبه ذلك الإيمان العميق بالفن والأدب ومحبة الحياة .



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز