د. طه جزاع
ناجون .. لكن بأجسادهم وحدها !
بقلم : د. طه جزاع
يعد التعرض للحوادث المؤلمة ، أمرا طبيعيا ومعتادا في كل المجتمعات البشرية ، لكنه يصبح أكثر خطورة ومأساوية ، في المجتمعات التي تتفجر فيها أحداث العنف والجريمة والإرهاب الأسود ، والمواجهات القتالية الدموية، مثل العراق وسورية وليبيا واليمن في الزمن الراهن ، وهناك عشرات الآلاف من القصص والمواقف والحكايات ، عن الضحايا المجهولين ، وهناك الكثير من هذه الحكايات المأساوية في طول هذه البلدان وعرضها ، تعقب كل حادثة تفجير ، أو جريمة ، أو فاجعة أسرية ، مما يستدعي أن نولي اهتماما استثنائيا بذلك الاكتشاف الطبي البريطاني الذي يتيح للإنسان التلاعب بالذكريات السيئة بواسطة بعض المواد الكيميائية ، اذ تم التوصل إلى عقار يطهر الدماغ من تلك الذكريات وبذلك صار بإمكان ملايين البشر الذين يعانون من توترات ما بعد الصدمة ، أن يستفيدوا من هذا العقار للتخفيف من الألم العاطفي المرتبط بذكريات الأحداث المؤلمة ، ومنهم ضحايا حوادث السيارات والكوارث الطبيعية والهجمات الإرهابية ، وعلى الرغم من الاعتراضات الأخلاقية التي أثيرت حول هذا العقار، وخطورته على العبث بالذاكرة، وتدميره للذكريات مما يشكل مخاطرة بتغيير شخصيات الشعوب ، ألا إن حاجة شعوبنا المصدومة لمثل هذا العقار تبقى اقل خطورة على ذكرياتهم وشخصياتهم،من اولئك السياسيين وأشباه السياسيين، والبرلمانيين وأشباه البرلمانيين، والخطباء وأشباه الخطباء ، الذين جعلونا بحاجة إلى أطنان من ذلك العقار، لتطهير أدمغة المواطنين من ذكرياتهم السيئة وتصريحاتهم وخطبهم المدمرة التي قادتنا إلى كل هذا الخراب في نفوس العباد وأحوال البلاد!
إن الأعداد المعلنة من ضحايا عمليات الإرهاب ، والعنف والإجرام، والمواجهات الدموية ، والجرائم الجنائية ، والكوارث الطبيعية ، والحوادث المرورية المروعة ، والمشكلات الاجتماعية، والتفكك الأسري وغيرها ، تمثل الجزء الظاهر من الضحايا المباشرين لتلك العمليات والحوادث ، أما الجزء الأكبر الذي قد يصل إلى أضعاف هذه الأعداد ، فهو الجزء المخفي منها ، ويتمثل في أولئك الضحايا غير المنظورين ، الذين يعانون من آثار وتوترات وعذابات وخيالات ورعب ما بعد الصدمة ، وهم من أعمار مختلفة ، وان كان الأطفال منهم أكثر عرضة للكثير من المشكلات النفسية التي تعقب مشاهداتهم المروعة ، أو معايشتهم لأجواء القلق والخوف والفزع وقت حدوث تلك الكوارث والحوادث والجرائم ، وفي الوقت الذي تنشغل فيه فرق الإنقاذ بنقل الجرحى إلى المستشفيات ، أو إحصاء عدد الضحايا الذين أزهقت أرواحهم ، يبقى ضحايا ما بعد الصدمة ، بعيدون عن الأنظار ، لأن جراحهم غير ظاهرة للعيان، ويحسبونهم الناس في عداد الناجين ، وما هم ناجون إلا بأجسادهم ،أما أنفسهم، فهي مجروحة، مكلومة، حزينة، قانطة، مذهولة، حائرة بين لغز الموت، وهستيريا الحياة، مما يتطلب بذل رعاية نفسية وطبية لانتشال هؤلاء الضحايا والسعي لعلاجهم من الآلام النفسية والعاطفية التي ارتبطت بالأحداث المؤلمة والقاسية التي مروا بها فخرجوا منها سالمين بأجسادهم لكنهم في حقيقة الأمر جرحى ومعاقون في نفوسهم وخواطرهم المنكسرة جراء الأهوال التي مروا بها أو جراء فقدهم لعزيز من أهاليهم وأحبتهم أمام أعينهم.
ولعل المفارقة إن الكثير من البلدان المتقدمة والمستقرة والآمنة تحرص على الاهتمام بالطب النفسي وافتتاح المزيد من العيادات والمصحات النفسية لمواطنيها السعداء ، غير إن بلدانا أخرى ومنها بلادنا العربية السعيدة لا تهتم بهذا الأمر مطلقا إن لم تعده أمرا معيبا ومخجلا ، ونوعا من أنواع الترف والدلال لمواطن لا يستحق الرعاية بعد أن كتب عليه الشقاء ، وكتبت عليه الخديعة ، فصار يبحث عن الدجالين والمشعوذين والسحرة لعلهم يخلصونه من شعوذة بعض السياسيين ودجلهم وسحرهم المبين ( ولايفلح الساحرون ) !