عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
فلسفة الإلحاد

فلسفة الإلحاد

بقلم : د. عصمت نصار

أعتقد أن السؤال الأول الذي يدور في أذهان معظم المثقفين -غير المتخصصين في الفلسفة- هو هل للإلحاد Atheism فلسفة؟ نعم فمبحث الإلحاد قد ظهر مع ظهور الديانات الوضعية والسماوية –بداية من ثقافات الشرق في مصر وبابل والهند وفارس وكذا الثقافة اليونانية في الغرب والحضارة الرومانية وأوروبا اليهودية والمسيحية والفرق الإسلامية-() ثم أضحى من أهم مباحث (فلسفة الدين) Philosophy of religion -تلك المعنية بدراسة الدين بداية من نشأته ومرورا بالتناول النقدي العقلي لكل المعتقدات التي توصف بالقداسة والقضايا ذات الصلة مثل علاقة الدين بالمجتمع والعلم والنفس الإنسانية والإلهامات والوحي والنبوة والنظريات اللاهوتية والمعتقدات المفسرة للكون ذلك فضلا عن طبيعة الله وصفاته-() عند ظهور المصطلح إبان عصر النهضة ثم في منتصف القرن الثامن عشر ، ويتناول مبحث الإلحاد بالدراسة والتحليل مفهوم الإلحاد والألفاظ ذات الصلة مثل (زندقة – مروق – تجديف – اجتراء – كفر – شرك).



ثم عكف على دراسة ما يميز هذه الألفاظ عن بعضها وكذا دراسة الفرق والنظريات والمذاهب التي تؤدي إلى الإلحاد ثم تناول أشكال الجنوح وأسبابها ومقاصدها ومآلاتها وأخيرا موقف الثقافات المتباينة والعقائد المختلفة من ذلك المروق الملي


وما أكثر المرتابين والمجترئين والثائرين بل والمجددين والمجتهدين الذين اتهموا بالإلحاد والمروق لمخالفتهم الفكر السائد أو السلطات المهيمنة على العقل الجمعي وذلك على مر العصور في شتى الثقافات ، ولقد تفشت هذه الظاهرة بين المثقفين العرب – أعني الحديث عن الإيمان والإلحاد – في الربع الثاني من القرن العشرين ، وذلك على أثر ظهور العديد من الخلايا الإلحادية في شكل جمعيات تجمع بين حفنة من المفكرين الأوروبيين المشتغلين بالاستشراق العقدي والسياسي وعشرات من المستغربين من المصريين والشوام ، وبعض الشباب المرتابين في الكتاب المقدس وفي بعض نصوص القرآن وأحاديث النبي. وقد تمركزت هذه الجمعيات في الإسكندرية والمنصورة وطنطا وبورسعيد ودمشق وبيروت وراحت تنتشر آراؤها على شكل مقالات وقصص قصيرة ومحاورات وأسئلة ترمي إلى التشكيك وزعزعة العقيدة.

وتعد مقالة (( لماذا أنا ملحد )) التي نشرها إسماعيل أدهم على صفحات مجلة الإمام عام 1937 أكثر هذه المقالات زيوعا في بابها ، إذ تساجل حولها أكثر من خمسين قلم بين مناقش وناقد ومؤيد ورافض ومبرر ومحلل وقادح. وعلى الرغم من قوة ذلك التساجل لم نجد من المناظرين من هدد أو توعد أو مارس العنف مع مؤلفها. والذي يعنينا في هذا السياق هو موقف أبوشادي من هذه القضية ولاسيما أنه اتهم بالإلحاد من قبل عقب تصريحه بأنه ماسونيا وأن إيمانه يعتمد على العلم والتصوف وليس التسليم والتصديق بما ورد في الكتب المقدسة وذلك في مقال له بعنوان (( عقيدة الألوهة )) .

قد صرح أبوشادي بتأثره بالنظريات الثيوصوفية إلى درجة أنه لا يستطيع تصور الله بمعزل عنها ، وعلى رأس تلك النظريات نظرية وحدة الوجود عند ابن عربي ومفادها أن الله حال في كل موجوداته على نحو يوحد بين الله والوجود ( أن الله والعالم بأسره شيء واحد أو وجود واحد ) وقد تأثر في ذلك بمنحى الفيلسوف الهولندي سيبنوزا ، وعبر عن تلك الصورة الاعتقادية في وجود الإله ( بالطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة )

ويسوق أبوشادي بعض الأدلة على ذلك التصور منها آية الكرسي وتحنث النبي قبل البعثة ، معقبا أن كثرة تأمل وتعبد المصطفى هو الذي مكنه من الاتصال بالعقل الفعال أي الوحي وتجليات الأنوار الإلهية وكشف الحجب وسطوع المرآة القلبية لاستقبال المعارف الربانية.

ويقول في ذلك : ( فعقيدة الألوهة في ضوء الإسلام لا تخالف العلم السليم ولا الاحساس النفساني النقي وهي بعيدة كل البعد عن الخوف أو الخرافة أو الجهل لأنها تقوم على ركنين أولهما الاحساس الصوفي الفطري إحساس الجزء بالكل ، وثانيهما وحدة الوجود التي تشع عليها آية الكرسي فتظهرها لنا بكل وضوح ومن الآيات القرآنية التي ينبع منها التصوف قوله تعالى : [ فأينما تولوا فثم وجه الله ]                                                           ( البقرة 115 )

وقوله : [ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ]      (البقرة 186) .        

وقوله [ الله نور السموات والأرض ]   ( النور 35 ). ()

  

ويرى مفكرنا أن الإيمان بالله من هذا المنطق الروحاني الوجداني لا يتعارض مع العقل أو العلم وذلك بأن علم الله لا يتعلق بالأمور الجزئية التي يمكن أن تختلف حول فهمها أو تأويلها ، كما أن صفاته وكلامه إلى الأنبياء وما ورد في الكتب المقدسة كل ذلك يعد من الرموز التي لا يتمكن من الكشف عن دلالتها سوى النفوس الراقية والعقول المدركة بعظمة الله ، وإذا ما نظرنا للصلاة بوصفها شكلا من أشكال الخنوع والخضوع لله لا يمكننا فهم الغرض من أدائها إلا في ضوء معرفتنا بأن الله أسمى وأعظم وأغنى من كل الملوك الذين ينتظرون من رعاياهم الشكر والطاعة ، بل إن الإنسان هو الأحوج دوما لتلك الصلوات ليقف بين يدي إلهه ليأنس بحضرته ويستزيد بنوره وينعم بوصله.

أما عقيدة التسليم بقدر الله فيمكن ادراجها ضمن النتائج العلمية المسبقة ، فلم يخلق الكون عبثا أو مصادفة وهذا ما أثبته العلم الحديث ومن ثم فالإيمان الحق هو الذي يعتمد على عقلانية العلم والحكمة ومشاعر ووجدانية وبصيرة التصوف ويقول: ((وكلما اتسع نطاق الكشف العلمي ازداد إيماننا بصيرة بمعاني الألوهة السامية وبقوانين الحياة ونظام الوجود. كما أن الإشراق الصوفي ولذة الأنس بالله ليس خلفها سوى التأمل الكوني العميق وإرهاف الأعصاب وتقوية الحدس ، ولا يمكن إدراك الله سبحانه وتعالى إلا بالحس الصوفي الذي يسنده العلم الفلسفي لا بالعلم ولا بالفلسفة وحدها. وقد يساعد كل أولئك على قراءة الأفكار وتقديم العواقب لا على مجرد التنبؤ بالمستقبل والكشف والالهام مهما كان التوغل في التأله)) ()

ويشجع أبوشادي التفاسير القرآنية التي تؤكد على عدم تعارض النص المقدس باعتباره المعبر عن العلم الإلهي والمكتشفات العلمية التي أضحت حقائق ثابتة لا يمكن الشك فيها ، وذلك شريطة عدم الربط بين الدلالة اللفظية للنص والاكتشاف العلمي أو الظواهر الكونية.

ويعني ذلك أنه أقرب إلى مدرسة الاستاذ الإمام في التفسير العلمي للقرآن دون مدرسة طنطاوي جوهري ومحمد فريد وجدي التي اجتهدت في تأويل الآيات على نحو يتفق مع النظريات العلمية مثل نظرية التطور أو النسبية أو الاكتشافات الذرية

ويضيف أبو شادي أن ما ميز الإسلام عن غيره من الديانات السماوية هو خلو عقيدته من طبقة الكهنة والأحبار وهي الطبقة التي تحتكر تأويل النص المقدس في الديانتين اليهودية والمسيحية ، أما الإسلام فلم يشترط سوى القدرة على فهم النص واستيعابه لتفسيره على نحو يتوافق مع الثقافة السائدة والواقع المعيش ، أما أولئك الذين يوقفون اللفظ على معنى بعينه أو دلالة محددة دون غيرها فأولئك يجمدون الكلم ويجعلون القرآن محصورا في حقبة زمنية معينة ، بالإضافة إلى أنهم يمنعون الفهم الذوقي والنفسي لآياته ويعتبرونها جحودا أو شذوذا أو شطحا ، متناسين أن القرآن حمال أوجه لذا نجد أبوشادي يفصل تماما بين الآراء الفقهية وكتابات المفسرين من جهة والنص القرآني وصحيح السنة من جهة أخرى ويرى أن الربط بينهما في الحكم وإضفاء عليهما صفة القداسة معا يدفع العقل إلى الإلحاد والشك في مصداقية النص ولاسيما تلك الأحكام والتفاسير الرجعية التي أنتجتها عقول تحكمت فيها ظروف شتى وأثرت بالتالي على فهمها وحكمها على النص المقدس.() وهو يتفق في ذلك مع صادق جلال العظم (1934-2016) في كتابه نقد الفكر الديني. ()

ويضيف أبوشادي أن هناك ميزتين للإسلام من أنكرهما أو سكت عنهما فقد عاون على ضياع الإسلام نفسه ، أولهما قيامه على العقل والعلم وعدم مخالفة جوهر شريعته وصلب دستوره الأخلاقي للديانات السابقة عليه.

وثانيهما ديموقراطيته المتناهية أي الإيمان والحث على كفل الحريات بكل أشكالها وقبول الآراء المخالفة بروح التسامح والصدر الرحب وذلك بالإضافة لخلوه من أي سلطة ثيوقراطية كما أشرنا ، ويقول في ذلك (( فأما عن وراثة الإسلام لحسنات الديانات السابقة وقيامه على العقل والعلم فقد تجليا في أنضر عصوره بمظهر التسامي الفكري وتقدير الفلاسفة والعلماء والأدباء والشعراء أيا كانت عقائدهم وآرائهم واجتهادهم وبانتفاء التعصب الديني. وقد انقسم المسلمون إلى نقليين وعقليين وساير الآخيرون الحضارة وحملوا راية الثقافة وطعموا الإسلام بالعلم والفلسفة ، ونبغ من بينهم أعظم رجال الاجتهاد وعلى قدر ذلك التسامح وحرية الفكر والاجتهاد كانت تنمو عظمة الاسلام الروحية والفكرية بل والمادية أيضا. ()

وينتقل أبوشادي لقضية العلية والسببية وخلق العالم التي تحدثت عنها النصوص المقدسة وكذا التصورات الفلسفية وجعلتها ضمن الأدلة على وجود الله ، فذهب إلى أنها خاطئة فالعالم قديم في مادته وليس هناك شيء قد خلق من عدم وهو متأثر في ذلك بالتصور الأرسطي للإله وعلاقته بالعالم وكذا بتأويل معظم الفلاسفة المشاءين في الإسلام والمسيحية. وهو بالجملة يتفق فيما ارتأى مع التصور الماسوني الذي ينظر إلى الله باعتباره مهندس الكون وواهب الصور إلى مخلوقاته. وعلى الرغم من رفضه لنظرية خلق العالم التي وضعها المعتزلة والكندي والغزالي وغيرهم من فلاسفة الإسلام إلا أنه قد رفض إدعاء إسماعيل أحمد أدهم بأن المصادفة وقانون الاحتمالات هو الذي أوجد الكون ، وبيّن في رده عليه أن هذا الفرض مستحيل التحقق علميا وعمليا ولو شئنا تطبيقه على وجود القرآن – على سبيل المثال – لكان هذا التصور من قبيل السفسطة أو الهذر.

 

ويقول في ذلك : (( يبني الدكتور أدهم إلحاده المزعوم في رسالته الشهيرة لماذا أنا ملحد – على أن قانون الاحتمال هو السائد في الكون. وإذاً فكل أثر فيه – حتى القرآن الكريم – عرضة لأن يكون أثرا من آثار هذا القانون العام وبهذا تنتفي قدسيته كما ينتفي وجود قوة مدبرة حكيمة هي الإلوهية ، وهذه جرأة في استغلال قانون الاحتمال()

وانتهى إلى أن تهمة الإلحاد التي طالما وجهت إليه لن تثنيه عن المضي في طريقه الصوفي الجامع بين عزيمة العمل وانطلاقة العلم والحكمة الفلسفية في سياج واحد فمنه تتشكل العقيدة والدين الصحيح الذي يرمي إلى الأخوة الإنسانية وإفشاء العدالة والسلام على الأرض .

ولا ريب في أن كتابات أحمد ذكي أبوشادي في الفترة من 1908م حتى وفاته قد استثارت أذهان المثقفين المحافظين والمفكرين المستنيرين على حد سواء وذلك لأن إلحاده جاء على درب مغاير لرصفائه من المفكرين العلمانيين فهو يؤمن بوجود الله غير أنه يردد أقوال ابن عربي وابن سبعين في وحدة الوجود ووحدة الشهود وهو يشجع على التفسير العلمي لآيات القرآن غير أنه يرفض تماما ربط النص بالنظريات العلمية ونجده يصف العالم بالقِدم وهو ينفي بذلك صفة الخلق عن الله سبحانه وتعالى ويجعل القرآن بذلك مشاركا للعالم من جهة والله من جهة أخرى في صفة السرمدية ، أضف إلى ذلك توحيده بين العلماء والأنبياء فكليهما قد اتصل بالعقل الفعال دون أدنى تمييز بينهما (الوحي والإلهام) ، ويؤخذ عليه كذلك انتصاره للحضارة الغربية إذ رأى أنها الأجدر بالقيادة وحمل راية التقدم ، الأمر الذي يجعل الأمة الإسلامية مجرد تابع للفلسفة الأمريكية والنظريات الأوروبية.

ولعل اعتناقه للفكر الماسوني والميتافيزيقا الثيوصوفية قد أوقعه في بعض المتناقضات أهمها نسخ كل الأديان في عقيدة واحدة تجمع بين العلم والعمل والرياضة الروحية والفلسفة العقلانية ، ذلك على الرغم من حديثه المسهب عن حرية الاعتقاد والحوار بين الأديان السماوية والوضعية. ورغم كل ذلك سوف تظل كتابات أحمد ذكي أبوشادي علامة فارقة تثبت أن الفكر المصري الحديث بداية من أخريات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مثالا يحتذى في التسامح العقدي وحرية الفكر والاعتقاد والابتعاد تماما عن كل مظاهر العنف في المناظرات والمساجلات وتقييم الكتب الجانحة وهو ما نفتقر إليه الآن في القرن الحادي والعشرين ، ذلك فضلا عن نجاحه في دفع الاتجاه المحافظ المستنير للرد على اعتقاداته وأحكامه بمنحى علمي ومنهج عقلاني خالي تماما من التعصب والرجعية.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز