عاجل
السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
الرفق والعدل وميزان التقييم وأخلاقيات التعلم

الرفق والعدل وميزان التقييم وأخلاقيات التعلم

بقلم : د. عصمت نصار

ما برحت قوتان تستوقف قلمي الأحمر أثناء الشروع في كتابة درجات تقييم كراسات أو أبحاث الطلاب ، ولما كانت هاتان القوتان من جنس واحد كان لزاما علي التمهل والإنصات لاعتراضاتهما وتبريراتهما ، أجل ففضيلتا الرفق والعدل من أكثر الفضائل التي يجب على المشتغلين بالعلم التمسك بهما وعدم الحيد عنهما وذلك لأن المعلم في هذه الحالة يشغل محل القاضي الذي ينبغي عليه الانتصار للعدل دوما ، غير أن فضيلة الرفق تجتهد في إيجاد العلل والأسباب التي تبرر إخفاق وزلات أصحاب الأقلام التي خطت هاتيك الأوراق ومنها:- أن ذهن الباحث لم يستوعب السؤال أو أن الموضوع أكبر من قدراته ، أضف إلى ذلك أن مواطن الأصالة والابتكار والجدة والطرافة والدقة في المقابلة والموضوعية في الموازنة وعمق التحليل والحيدة في النقد ورصانة اللغة والاستناد إلى المصادر الموثوق بها في إطلاق الأحكام واستقاء المعارف وغير ذلك من آليات البحث العلمي والإجابات المثالية  لم يعد متوفر في ظل سياسة التعليم العشوائية ، والمقررات الشاغلة بالنصوص ، والأساليب البالية في التدريس ، وإهمال المعلمين لمهام وظائفهم ، وانصراف الطلاب عن القراءة وإقبالهم على ثقافة (الساندويتش) والمعلومات الجاهزة التي تصدر لهم على شاشات الكمبيوتر وفي مواقع الدردشة دون أدنى تحري أو فحص أو اختبار لها.  فمن الظلم مطالبة الطالب أو الباحث بما يفتقر إليه و لم يتعلمه.



لذلك كله أجد فضيلة الرفق تحول بين قلمي والتقييم الموضوعي لما أقرأ من إجابات أو مصنفات وتطلب مني بسط اليد في الدرجات.

وعلى الجانب الآخر أجد قيمة العدل تنظر باستخفاف لكفتي ميزان التقييم متهكمة على أحاديث فضيلة الرفق مؤكدة أن الإصغاء لها في هذا السياق يقذف بالمعلم إلى درك الجور ، فباسم الرحمة والرأفة تُهدر كل القيم التي يجب على المعلم الأخذ بها بل واعتناقها عند تقييم الطلاب حتى لا يستوي المجتهد بالبليد ، والمبدع بالمقلد.

نعم يجب الإصغاء لقيمة العدل ، فإذا كان في إسكات صوت الرأفة بعض الشر فإننا نجد في العدل الخير الأعم.

وإذا ما حاولنا التعرف على مدلول هاتين القيمتين في معاجم الفلسفة التطبيقية والكتب التربوية:-

فإننا سوف ندرك أن الرفق هو لين الجانب في القول والفعل وهو ضد العنف والشدة وهو عدم المشقة وتكليف المرء بما لا يقدر عليه. وكل هذه المعاني والدلالات لا دخل لها بسياق التقييم بل يمكن أن تقود المقيم إلى العديد من الرذائل تبدأ بالمجاملة والمداهنة والحكم بالهوى والميل وتنتهي بالفساد الناتج عن إعطاء المرء ما لا يستحق ورفعه لمقام غير مؤهل للارتقاء إليه.

في حين تنبئنا نفس المعاجم عن العدالة في التقييم فتعرفها بأنها انقياد المقيم للقوة العاقلة وتبعيته لها بمنأى عن مشاعره وأهوائه الذاتية وهي نقيض الظلم والسبيل إلى إعطاء لكل ذي حق حقه ، والعدالة واجب ووسط بين رذيلة الجور والمجاملة وهي عين الإنصاف والاستقامة وصوت الحكمة.

والتقييم الصحيح عند التربويين ينقسم إلى قسمين: الأول معياري ويهدف إلى التأكد من صحة المعارف ودقة المعلومات قياسا على نموذج أو قانون أو رؤية متفق عليها ومقطوع بصحتها أما القسم الثاني فيرمي إلى الكشف عن قدرة المتلقي على تفهم الموضوع والتعرف على جوانبه وأبعاده ثم التصور الذي يعبر عنه على نحو إبداعي مبتكر.

وقد أسهب التربويون والحكماء في الثقافة العربية الإسلامية في وضع الضوابط التي يجب على المعلم الانصياع إليها خلال بحثه ودرسه وذلك قبل إجراء الاختبارات والامتحانات وتقييمها.

ويعد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي (1283-1332)هـ / (1866–1914)م من أكثر المعلمين المحدثين اهتماما بالأخلاق التطبيقية في ميدان التعليم وقد عني عناية كبيرة في كتاباته بقضية التقييم تلك التي ربطها ارتباطا وثيقا بآداب المهنة وأخلاقيات المعلم والمتعلم.

فمن أقواله "العاقل لا ينتصر لرأيه الذاتي ولا يصر عليه بل يعتبره خاطرا سنح له فربما كان صواب أو خطأ" ، وقد حث على ضرورة تحلي المعلم بفضيلتي الرفق والعدل وذلك خلال الدرس والتوجيه والتدريب ومن أقواله في ذلك " وينبغي على المعلم أن يكون حريصا على تعليم تلاميذه ، مهتما بهم مؤثرا لهم على حوائج نفسه ويرحب بهم عند إقبالهم إليه ... وينبغي أن يكون باذلا وسعه في تفهيمهم وتقريب الفائدة إلى أذهانهم ، حريصا على هدايتهم ، ويفهم كل واحد منهم بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه ما لا يحتمله ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة ، ويخاطب كل واحد على قدر درجته وبحسب فهمه وهمته ... ويذكر الأحكام موضحه بالأمثلة من غير دليل لمن ينحفظ له الدليل ، فإن جهل دليل بعضها ذكره له ، ويذكر الدلائل لمحتملها ، ويذكر ما يرد على المسألة وجوابه إن أمكنه ، ويبين الدليل الضعيف لئلا يغتر به فيقول استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا ، ويبين الدليل المعتمد ليعتمد ، وينبههم على غلط من غلط فيها من المصنفين فيقول مثلا هذا هو الصواب وأما ما ذكره فلان فغلط أو ضعيف ... وعلى المعلم أن يسألهم عما ذكره لهم من المهمات فمن وجده حافظا مراعيا له أكرمه وأثنى عليه وأشاع ذلك ومن وجده مقصرا لامه ويعيده له حتى يحفظه حفظا واضحا ، وينبغي أن ينصفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم وإن كان صغيرا ... وينبغي عليه أن يذكرهم بأن اجتماعهم ينبغي أن يكون لله تعالى فلا يليق بهم المنافسة والمشاحنة بل سبيلهم الرفق والحياء واستفادة بعضهم من بعض واجتماع قلوبهم على ظهور الحق وحصول الفائدة ، وإذا سأل سائل عن أعجوبة فلا يسخرون منه ، وإذا سؤل هو عن ما لم يحط به فعليه التصريح بأنه لا يعرف دون خجل أو تكبر فينبغي للعالم أن يورث أصحابه مقولة (لا أدري) .. لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة وإنما يمتنع من (لا أدري) من قل علمه وقصرت وضعفت تقواه لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين سائليه أو سامعيه وهو جهالة منه".

وحري بنا أن نتساءل هل مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا قد وضعت خطتها التعليمية على تلك الأسس وهاتيك القيم ، وهل معلمونا مؤهلون لممارسة المهنة تبعا لآدابها وأخلاقياتها التي أشار إليها فلاسفتنا وعلمائنا ، وهل لجاننا التقيمية تقيم بالعدل أم بالرفق والهوى أم تبعا لمعارفهم النسبية التي لا تستند على معيارٍ ولا نهج.

أقول وأؤكد أننا أحوج ما نكون إلى إعادة دراسة العملية التعليمية في ضوء الفلسفة التطبيقية التي تحدد ما نطلق عليه متطلبات الوظيفة ، أجل فليس كل صاحب معرفة يصلح للتدريس وليس كل قادر على الحفظ والتقليد يوصف بالنابه والفائق وليس كل من تدرج في المناصب وحصل على إجازات قادر على ممارسة وظيفة الناقد أو المحكم أو المقيم. فجودة التعليم التي ننشدها يجب أن توغل في تحليل التفاصيل وتجعل للقائمين بالعملية التعليمية معلمين أو متعلمين تاريخ صلاحية. فالعديد من معلمين ومتعلمين أصبحوا غير صالحين لأداء مهمتهم والقيام بوظائفهم ومن تشدق بغير ذلك أعتقد إنه لا يريد إصلاحا وتقويما لما نحن فيه من تردي وانحطاط.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز