عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
رواية "بيت السنارى" وتحرير الخيال

رواية "بيت السنارى" وتحرير الخيال

بقلم : د. عزة بدر

بوسع الروايات التاريخية فى كثير من الأحيان أن تقدم لنا تأويلا فنيا وجماليا جديدا للأحداث التاريخية التى مرت ببلادنا، بل بوسعها أيضا أن ترسم فى مخيلتنا أبطالا شعبيين لم نكن نعرفهم، أو تلقى الضوء على مكتنز من تراث معرفى واجتماعى لم نعرف عنه إلا القليل.



بوسعها أيضا أن تظل تخايلنا طوال الوقت وأن يتنفس أبطالها من حولنا، فى الأمكنة القريبة والبعيدة التى تحمل رائحة الذكرى، وفى بيوتنا الأثرية القديمة فيخرجون ليتحدثوا إلينا بما كان من تجاربهم وآلامهم وأشواقهم، عن ميراث الحزن، وطاقات الفرح، عن مقدرات الصعود، ومنازل الهبوط فى التجارب الإنسانية المختلفة فى ارتباطها بجوانب حضارية واجتماعية واقتصادية وتاريخية.

ومن هذه الروايات التى تحدث مثل هذا الأثر الفنى والجمالى رواية «بيت السنارى» للروائى عمار على حسن التى صدرت حديثا عن الدار المصرية اللبنانية.

• بيت السنارى

ربما مررت ببيت السنارى فى حى الناصرية بالسيدة زينب، الذى يقع فى نهاية حارة مونج، وبيت السنارى هو واحد من البيوت الأثرية الفخمة التى بناها لنفسه ولزوجاته وجواريه وأولاده إبراهيم كتخدا السنارى عام «1209هـ - 1794م»، وهو أحد الأثرياء فى ذلك الوقت، وكان مساعدا لمراد بك قائد المماليك، ولقب إبراهيم كتخدا بالسنارى نسبة لمدينة «سنار» بالسودان التى ينتسب إليها.

والبيت الذى تمت مصادرته من أصحابه ليسكنه علماء الحملة الفرنسية عام 1798 مع مجىء حملة بونابرت على مصر، وفيه تمت فصول كتاب «وصف مصر».. وهذا البيت الأثرى كان البنية المكانية والتاريخية التى دارت من حولها أحداث رواية «بيت السنارى» لعمار على حسن.

• تحرير الخيال

تمتع النص بقدرة متميزة على فتح المجال لتأويل الأحداث وتحرير الخيال بداية من اختيار لحظة السرد المتوترة التى شحنت النص نفسه بالعديد من التساؤلات، بل والإجابات المحيرة التى تطرح فى مجملها مزيدا من الأسئلة، لحظة السرد هى لحظة دخول الفرنسيس إلى مصر، حملة احتلال داهمت البلاد التى كانت واقعة أيضا تحت براثن حكم المماليك، «مراد بك»، و«إبراهيم بك»، وفى وقت أنزل فيه المماليك بالناس كل ألوان الظلم، والاستيلاء على موارد البلاد.

وظهرت الشخصيات الرئيسية لتعبر عن معاناة الناس، فزينة محظية السنارى هى أجمل نسائه وأقربهن إلى قلبه، تتلقى رسالة من بونابرت للسنارى يدعوه للتسليم بأمر الاحتلال، والتخلى عن مراد بك فيحظى بالأمان هو وأهله.

زينة الحريصة على سيدها وحبيبها تريد أن تصله الرسالة وهو المسافر إلى الصعيد فى محاولة لمساعدة ومساندة مراد بك لمواجهة الفرنسيس، وزينة صاحبة ثأر تريد الانتقام من المماليك، ومراد بك لأن أتباعه قتلوا والدها الذى كان يعمل على مركب لتاجر غلال، نهبوا كل ما على المركب، كان أمينا على مال التاجر فقاومهم فغرسوا رأسه فى ماء الفيضان وأغرقوه.

وتتوالى الأحداث فى الرواية لتكشف عن الخيط الرئيسى الذى يشد بنيانها بعضه إلى بعض، ويجعله متماسكا حريا بالتأمل، وهو طاقة تحرير تتوهج شعلتها فى نفوس أبطال الرواية، فالبلاد التى يصر أهلوها على تحريرها من ظلم المماليك، ومن غزو الفرنسيس تصبح هى المحور الرئيسى الذى يؤثر فى حياة أبطال الرواية، ومواقفهم، ويعبر السارد عن ذلك بلغة سريعة تلغرافية ترصد الحدث، وسرعة تلبية الناس لداعى الجهاد: «الفرنسيس على باب القاهرة، والناس يتجمعون فى كل الساحات «بركة الفيل»، و«قرميدان» و«الأزبكية» و«الرميلة» و«بيت القاضى». ص 13

وتبدو لغة السرد السريعة المطواعة فى حراكها مع الحدث الرئيسى «كأن القيامة قد قامت، وحين طالعت الوجوه وجدتهم جميعا من أهل البلد، جاءوا من الأزقة المعوجة، والحارات ذات المغاليق، وكل منهم يحمل ما وجده فى بيته ينفع فى معركة آتية، حتى إن بعضهم يحمل أفلاق نخل، وعروق زان، وأسياخ حديد طويلة». ص 69

ومن تلك اللحظة الفارقة التى هددت البلاد وأهلها تفجرت طاقات من المقاومة النفسية والذهنية فى نفوس شخصيات الرواية، تتأجج فى ذواتهم روح اليقين التى تمنحهم القدرة على تحرير أنفسهم أولا ثم تحرير الآخرين.

• زينة

زينة التى فقدت والدها، وتحمل ثأرها ضد المماليك فقدت أمها أيضا عندما سارتا عنوة إلى بيت الرقيق، ودارت بها دورة الرق حتى وصلت إلى صاحبها إبراهيم كتخدا السنارى الذى وقع فى هواها فلم يعاملها كجارية، بل أنزلها منزلة خاصة فى نفسه، وحاول تعليمها وتثقيفها فأحبته.

حاولت «زينة» أن تحرر نفسها داخليا من عبوديتها، فعلى الرغم من الهزيمة التى لحقتها مرة باغتيال والدها، ومرة بوقوعها فى أسر الرق فقد حررت نفسها بالحب عندما أخلصت العاطفة للسنارى الذى أكرمها، وحاول أن يزيل ما فى نفسها من آثار الرق.. وهاهى ترى نفسها سيدة حرة، وقد تحررت روحها بالحب فتقول للضابط الفرنسى - أحد جنود الحملة - فى ثقة:

- «أنا زوجة السنارى».

فقال لها: «ما عرفته أنك جارية»!

فصرخت فيه: «لست جارية، ما بينى وبينه لا يجعله على سيدا، ولا يجعلنى له جارية» ص 137.

تجاوزت «زينة» هزيمتها النفسية وأزمتها الشخصية فى قوة أمام الضابط المحتل الذى حاول إغواءها، وتمسكت بحبها وشرفها الذى تمثل من وجهة نظرها فى الحب الذى جعلها بمثابة الزوجة، وهى لتذكرنى بإحدى بطلات رواية لهمنجواى وهى «كاترين» التى تقول لحبيبها عندما أراد أن يتزوجها: «نحن متزوجان فعلا، أنا لا أستطيع أن أكون متزوجة أكثر منى الآن فإذا قاطعها استطردت: لا تتكلم، وكأن عليك أن تجعل منى امرأة شريفة، أنا امرأة شريفة جدا». فى روايته «وداعا للسلاح».

«زينة» مثلها مثل كاترين، امرأتان فى حالة تحرير للذات بالحب، رغم أن الواقع المحيط بهما هو زمن هزيمة، فى حالة زينة هزيمة نفس وقعت فى العبودية، ولحظة أسر وقع فيها الوطن فى يد الفرنسيس، وفى حالة «كاترين» هى عاشقة أرادت هى وحبيبها التبرؤ من الحرب والتعلق بالحب، إلا أن حب «زينة» كان نوعا من المقاومة وبدءا فى حمل وشحذ السلاح، وفى حالة «كاترين» وحبيبها توديع السلاح!

استخدمت «زينة» كل ما تملك من دهاء الأنثى لتصل رسالة قائد الفرنسيس إلى حبيبها «السنارى» لتنقذه من التورط مع مراد بك، فتسعى لذلك بتجنيد «حسن جعيدى» لخدمتها، والضابط الفرنسى «دوبريه» لحماية بيت السنارى وما يحفل به من زوجات وأطفال وجوار وممتلكات، وقد استأمنها السنارى فى غيبته على خبيئة أخفاها فى إحدى ردهات المنزل الأثرى الضخم فى صندوق غطاه بأحجار صلدة، ومفتاحه مع «زينة»، إذ توسم فيها روح الأمانة والعدل.

• السنارى

كان يحمل فى داخله إحساسا عميقا بضرورة العدل، لكنه كان يميل بقلبه إلى «زينة»، ولكنه لم يؤثرها بكل ما فى الخبيئة من كنوز، بل استأمنها عليها وأوصاها «هذا البيت لذريتى وعقبى فإن انقرضوا يؤول إلى ذرية عتقائى ذكورا وإناثا، بيضا وسودا وحبوشا بالسوية بينهم، وبعدهم لأولادهم العتقاء، بعضهم من بعض فإن انقرضوا جميعا، وخلت منهم الأرض يؤجر ، ويوقف للإنفاق على مصالح ومهمات وشعائر مسجد السيدة زينب، ومقامها الشريف، فإن تعذر الصرف فى هذا الوجه، يصرف الريع على الفقراء والمساكين من المسلمين، والأرامل المنقطعين أينما كانوا، وحيثما وجدوا» ص 60

وعندما سألت «زينة» ضاحكة عن نصيبها أجابها السنارى: «نصيبك ليس فى أحجار البيت ولا أرضه ولا ريعه، إنما فيما أنت على رأسه الآن».

نظرت إلى أسفل، وأشارت بطرف إصبعها؟

- أتقصد؟

- نعم، لا يعرف أحد فى البيت حتى زوجاتى وأولادى مكان هذه الخبيئة.

وترقرق دمع فى عينيه فمدت يدها ومسحته بأطراف أناملها وهو يدفع رأسه إلى صدرها، وقال:

«أنا واثق فيك، عليك إن جاءك خبر رحيلى عن الدنيا، وكلنا راحلون أن تأخذى ربع هذا لك وتوزعى البقية على أولادى للذكر مثل حظ الأنثيين». ص61

هذا الحوار بين «زينة» و«السنارى» يشد بنيان وعصب الرواية على خيط قوى متين وهو طاقة الحب التى منحت لأطرافها الثقة كل الثقة فى اجتياز المحنة والأزمة، والانتصار للذات وللوطن.

هو الحب الذى يدعو «زينة» لمناداة «السنارى»: أين أنت يا طفلى الكبير؟ فتسخر منها زوجاته وجواريه، فتسألها إحداهن: ألك خلفة ولا نعرفها؟

- أسأل عن سيدى الذى غاب.

- وهل سيدك طفل؟

صمتت برهة ثم قالت:

- حين نتعانق نكون طفلين. صـ62

كان الحب زاد السنارى فى مواجهة أزمته الشخصية كما كان زاد «زينة» فى مواجهة أزمتها، السنارى الذى حرره الحب يعترف لها فى نهاية الرواية برسالة صاغها الراوى برهافة الشعر، وتدفق النثر ليعبر بلا حدود عن طاقة تحرير النفس البشرية التى عندما تقع فى الحب الحقيقى فإنها تتحرر بحق وتصل إلى معرفة الذات الحقة، ومكاشفة الآخر، فيقول السنارى لزينة معبرا بطاقة شعرية سحرية عما بداخله وكانت هى الإفضاء الأخير وسرة البوح، واعتراف النهاية قبل مقتله، فكتب يقول لها:

«أكتب إليك، لا لأواسيك فأنت قوية بمشاعرك الفياضة، وعقلك الراجح، إنما أبوح لك بما كتمته عنك، وكان يجب ألا أفعل لكن ضعفى حجزنى، واستسلمت له كل هذه السنين، وتركتك تعتقدين أننى جبار، بينما كان جبروتى فى مداراتى وصمتى وكذبى، نعم، كذبى، فأنا لم أكن أبدا كما اعتقد الناس فيَّ، وفهموا عنى، ونظروا إليَّ، كان لديَّ ما أفعله ولكنهم بالغوا فيه إلى أقصى حد وأنا جاريتهم، نبتة هشة كنت، قلعتها مياه النيل الجارفة من أرض السودان ورمتها فى أرض غريبة، وكان عليها أن تخرج شوكها حتى لا يدهسها العابرون، وكان شوكى إيهامى الذى رآه الناس إلهاما، فجعلتهم يقفون على بابى لأنى الساحر وقارئ الطالع، وأخو الجن، وصديق النجوم الزاهية، ولم يكن كل هذا إلا لعبة استمرأتها، ونفخت فى قليلها الذى أملكه فصار كبيرا وهائلا، وأرادوا هم أن يصدقوها فانساقوا خلفى لأنهم كانوا يبحثون عن أى وهم يمنحهم الأمل، ويجلى لهم غموض ما يحيط بهم، ويريهم ما يغيب عنهم وسيأتيهم حتما.

أما ما كنت حقيقة أملكه فهما دأبى وعزمى حين تعلمت لغة السادة الجبارين، وصنعت لنفسى دوما مسربا بين أجساد الطغاة والبغاة، ومكانا بين أحذيتهم الثقيلة، وتمكنت من أن أجد لنفسى دفقة هواء وشربة ماء مما يبقيهم هم على قيد الحياة كبارا عند الناس، صغارا فى أنفسهم!

والحقيقة الأكبر من كل هذا فى حياتى كلها هو أنت يا زينة، لكن عَزَّ عليَّ أن ترينى عاريا مجردا من كل حول وطول وسلطان وجاه، وأنا أحكى بين يديك كطفل ثم أذهب ولديَّ ما أخفيه عنك، والآن حين تطالعين سطورى تلك أكون قد قلت لك كل شىء فأرجو منك الصفح والسماح». صـ325، 326

تبدى السنارى فى هذه الرواية عاشقا، وعادلا ومحاربا قويا كأنه ولد بالحب، وانصهر به حتى صاغه إنسانا آخر، فبدا بطلا اختار أن يحرر حبيبته أولا، وأن يحرر الناس من الخوف من المستعمر مواجها المماليك بالواجب الذى عليهم فعله لصد الفرنسيس كاشفا عن رؤية عميقة للصورة الكاملة عن القوى التى يمكنها مواجهة المحتل مؤمنا بقوة الشعب وقدرة الناس على مواجهة الاحتلال القادم فيقول: «القوة فى يد ساكنى الشقوق، هؤلاء حين يملأون الشوارع لن يستطيع أحد صدهم ولا ردهم، إنهم مارد جبار طالما كنا نخشاه ونحن فى الحكم دون أن نعلن هذا، وطالما عملنا على أن نشتت هذا الجمع، والآن إن وحدناه سيكون المطرقة الضخمة التى تنزل على رؤوس الفرنسيس فيفقدون صوابهم، ولا يجدون بدا من الرحيل».

بل بدا السنارى فى هذه الرواية كإحدى القوى المؤثرة فى الواقع والملتحمة بقوى المقاومة وطوائفها الشعبية المختلفة، ومن الحوار الذى أجراه الراوى على ألسنة أبطاله تتضح هذه الرؤية التى تطرحها الرواية فى محاولة لتأويل صورة السنارى، ليبدو بطلا شعبيا بدلا من أن يظل طوال الوقت ناهبا سالبا مثله مثل من يساعدهم من المماليك أو كما عرفه الناس حينذاك كأحد رجال مراد بك، وكأن الرواية تطرح تأويلا جديدا ومغايرا لشخصية السنارى ومواقفه من خلال ما تلقيه من ضوء على شخصيته.. ويتجلى فى هذا الحوار كأحد تقنيات السرد المفصحة عن جوهر الشخصية المحورية للرواية كما يطرحها السارد:

«قال شيخ طائفة الحدادين متحدثا عن صورة الناس: - هؤلاء خرجوا فى هبة جارفة قبل شهور فما نابهم غير أن لطخت دماؤهم كل الأزقة والحوارى والعطوف، وهدمت شقوقهم فوق رؤوسهم وشردوا وآلاف منهم أصابتهم عاهات ستلازمهم طيلة حياتهم».

وقال أحد شيوخ الأزهر:

- «وما يضمن لهؤلاء إن ضحوا ونزلوا غاضبين عن بكرة أبيهم وأطاحوا بالفرنسيس ألا يأتى بكوات المماليك ليستعبدوهم من جديد؟

تنحنح السنارى وأجاب:

- «أعتقد أننا تعلمنا الدرس، وأعدكم بأن الآتى سيكون مختلفا تماما عما ذهب».

وسأله أحد الوراقين:

- «سيخرج العموم من شقوقهم لكنهم يأملون أن تكون معهم، فى وسطهم، إن لم تقدهم.

هز السنارى رأسه وابتسم وقال:

- ما يخصنى أنا، أعدكم أن أكون هنا. صـ187

• لحظة فارقة

وبهذا الحوار التمهيدى بين جموع الناس ممثلة فى شيخ طائفة الحدادين، والوراقين، وشيوخ الأزهر حول غضبة الناس وإمكانية تطوير الغضب إلى ثورة، يبرز «السنارى» كما يراه السارد كزعامة شعبية، وهو التأويل الذى تنحاز إليه الرواية فيما أرى، وهو ما بدا فى قول أحد الوراقين: «يأملون أن تكون معهم، فى وسطهم، إن لم تقدهم» صـ187

وهو الذى أدرك قوة الشعب وإرادته، وقد تحول فى هذه اللحظة الفارقة (دخول الفرنسيس مصر) إلى شخص آخر، من مساند للمماليك إلى معضد لجموع الشعب، والثائرين ضد الفرنسيس، ويصبح المماليك فى هذه الحالة أعوانا على دحر الفرنسيس، وقد أبرزت الرواية هذا البعد العميق لبطولة الشعب وقوته، وهو ما يجعل استفادتها من التأريخ واضحة، وتدعم الخط الأساسى للرواية فى إبراز بطولة شعب، وبطولة شخصيات وضعتها الأقدار أمام لحظة تحول فارقة، غيرت النفوس وعدلت مصائر الشخصيات، وهى لحظة مواجهة المستعمر.

ومن هذه المشاهد التى عززت هذا المعنى «حين شرع الفرنسيس فى فرض ضرائب على أملاك الناس فحصروا البيوت والخانات والحمامات والسيارج والمعاصر والمدابغ والحوانيت، وكتبوا مناشير ألصقوها بمفارق الطرق وعلى بعض الأبواب، وأرسلوها إلى الأعيان، ثم راحوا يضبطون كل من اعترض فهاج بعض العوام ووافقهم بعض أصحاب العمائم، وانتشر خبر التمرد فى «الغورية»، و«الصنادقية»، و«بين القصرين»، و«باب الزهومة»، و«باب الفتوح»، و«باب النصر»، و«باب الشعرية»، و«باب زويلة»، و«البندقانيين»، ومنها إلى بقية أخطاط القاهرة، وما عدا «بولاق»، و«مصر عتيقة» اللتين خاف أهلها الخروج لقرب معسكرات المحتلين منهما.

خرج الناس لملاقاة الفرنسيس، وهدموا المصاطب وصنعوا المتاريس، ووقفوا خلفها محتشدين ومتحفزين، وكان من بينهم «حسن جعيدى» وصاحبه اللذان نزلا مع الشبان إلى الشوارع والأزقة، ومعهم خلعوا أحجارا من حافة جبل المقطم، وصنعوا متراسا عاليا عند مداخل حاراتهم التى تنبت من ساحة مسجد «السلطان حسن»، وأمسكوا فى أيديهم قطعا صغيرة من الحجر، وعصيا طويلة وبلطا، ومن وجد فى بيته بندقية متهالكة أحضرها» صـ104

«ولم تمر ساعات حتى استعرت «بولاق» نارا، بعد شهور طويلة من الهدوء، وهاجم أهل الحى يقودهم تاجر الزيوت الحاج «مصطفى البشتيلى» مخازن جيش الفرنسيس، وأبادوا الحامية التى تحرسها، واستولوا على كل ما فيها من مؤن كان كثير منها قد اغتصبوه من أهل البلد.

• التفكير الروائى

وعلى الرغم من أن «بيت السنارى» هو الذى تم فيه إنجاز كتاب وصف مصر الذى كتبه علماء الحملة الفرنسية فإن الرواية أو بالأحرى التفكير الروائى لم يقع فى أسر ذلك، لكنه أبرز بحق افتئات الاحتلال على جموع الشعب، وقسوة المحتل وبطشه بالجميع، وناقش على لسان أبطاله ــ من هذا المنطلق ــ فكرة الحضارة ــ وهى الفكرة العميقة التى تدور حولها الرواية وسؤالها المهم.. هل يمكن للحضارة أن ترقى وتكتمل، وهى تستخدم وسائل غير متحضرة فى مواجهة البشر وإنسانيتهم؟

ويستخدم الروائى هنا تقنية الحوار فى الكشف عن هذا المعنى العميق لفكرة الحضارة.. كيف تكون؟ وكيف تقوم؟، كيف تتطور؟ وبالطبع تدين الرواية على لسان أبطالها أن تتم الحضارة أو تكتمل بفرض الاحتلال، وفرض سياسة القوة والبطش بحجة التثقيف أو التنوير، وتصور الرواية من خلال المشهد والحوار هذه الرؤية «كانت نائمة حتى الضحى حين دق الباب عليها بعنف، قامت مفزوعة، وجرت حافية وفتحته فوجدت كبرى زوجات «السنارى» تقول لها فى رعب: «الفرنسيس على باب البيت، ولا أدرى ماذا يريدون؟ وهبطوا جميعا زوجات وجوارى وخدم وسرارى وخشداشية ووقفوا فى الفناء وعلى وجوههم فزع شديد وحيرة، ولم تمض سوى دقائق حتى جاءهم الحارس وقال: يريدون استلام البيت، صرخت زينة، استلام ! إنه بيت السنارى بناه من حر ماله، ويعرف كل أهل المحروسة أنه بنى على الهيئة التى أرادها، وكان يقف على رأس البناءين والحدادين والنشارين والنجارين والفواعلية حتى اكتمل.

رد الحارس بشفتين مقددتين تبرزان من وجه منقبض يكسوه الأسى.

قلت لهم كل هذا وأكثر، لكنهم عازمون على أخذ البيت.

بصقت كبرى الزوجات وقالت «هذه سرقة» جاءوا من آخر الدنيا ليسلبونا.

ثم تمت المواجهة بين زينة والضابط الفرنسى الذى جاء لتنفيذ الأوامر فتقول له زينة «أليست للبيوت حرمة عندكم؟»

هز رأسه وفرش فى وجهه ابتسامة عذبة وأجاب وهو ينظر إلى المترجم المغربى «بلى» لكن هذه أوامر، وليس أمامى سوى تنفيذها.

- أوامر بالسرقة، هذا والله شىء غريب؟

سحب الابتسامة من وجهه وقال لها: هذا البيت بنى من قوت أهل البلد، وصاحبه كغيره من الكبار اغتنوا وأفقروا أصحاب المال الأصليين، ونحن سنسترد البيت لنخدم الناس.

تعجبت من كلامه وسألته: هل سيأتى كل أهل المحروسة ليسكنوا «بيت السنارى»؟

عادت إليه الابتسامة وأجابها: ليس على هذا النحو بل سنخصصه، والبيوت التى تجاوره لعلمائنا وفنانينا، وسنضع فيه مخترعاتهم ورسومهم وكتبا فى العلوم والفنون، سيتاح للناس قراءتها، نحن جئنا لنبنى حضارة ونحقق مبادئ ثورتنا العظيمة.

- وهل حضارتكم تلك لا تقوم إلا على تشريد كل هذا الجمع الذى يعيش بالبيت؟

لم يجبها على سؤالها، إنما لان بين يديها وقال لها بالنسبة لك أنت فاستمرار وجودك بالبيت يسعدنى!!

• الآخر فى الرواية

وتبدو مأساة الضابط «دوبريه» اكتمالا للشخصية الفنية لهذه الرواية التى استقصت أيضا موقف الآخر من الداخل الإنسانى الحميم، فالضابط «دوبريه» الفرنسى لم يكن يرغب فى المشاركة فى الغزو، وكان قد فقد حبيبته «إيلين» فى بلاده ورأى فى «زينة» عوضا عنها، لدرجة أنه كان يناديها بنفس الاسم، ترى هل رأى فيها صورة منها، «دوبريه» الذى تكشف فصول الرواية أنه لم يكن يحب أن يكون فى صورة الغازى، ولكنه عندما وضع فى موقف عاطفى تغيرت حاله واشتط فى الدفاع عن منزلته وقوته مستمدا تلك القوة من سطوة الغزو إذا كان هذا سيحقق له الحصول على زينة، فعندما صارحته بحبها للسنارى قال لها «دعك منه ولا تغرنك أمانى فى عودته، هذا لن يحدث وإن جاء سأقتله بنفسى، وحتى لو خرجنا من بلدكم، وهذا مستحيل لأننا جئنا هنا لنبقى، سآخذك معى، ستركبين السفينة الهائلة، وتعيشين معى فى باريس».

وتعاطفت معه زينة، فقد كان صوته يتهدج بنبرات غارقة فى تبتل غريب وعيناه ذاهبتان إلى بعيد راح منه، وتأتيان به وتطلقانه فى وجه زينة التى بدت تأخذ ما يقوله على محمل مختلف.

قالت لنفسها هذا عاشق مكسور، ويستحق العطف.

وتمنت أن تستغل تعلقه هذا فى الحفاظ على خبيئة بيت السنارى.

ويكشف الراوى فيما بعد عن رغبة «دوبريه» فى البقاء فى مصر قائلا: جئت إلى هنا على غير رغبة منى لكن يمكننى أن أبقى برغبتى، ألم تناد ثورتنا بالحرية فلماذا تكرهوننى على المجىء، وتكرهوننى على الرحيل؟

«لست وحدى الذى سيخاطر، فقد سمعت أن كثيرين سيبقون، علماء وعسكرًا وتجارًا، كلهم يقدرون ما أقدره، فالخطر قائم فى كل الأحوال، وما يدريك أن ينقض الإنجليز العهد ويحطموا بقايا أسطولنا فى البحر ونموت جميعا غرقى وتأكلنا الأسماك الجائعة، هنا على الأقل إن قتلت أو مت بعد عمر طويل سأجد بقعة أرض تحوى جثتى، ولست كبيرا مثل كليبر الذى تفاوضتم على نقل رفاته، وستؤدون لعظامه النخرة التحية كأنه عائد مظفر من معركة فاصلة». 267

كان يريد أن يبقى من أجل زينة، ويقول لها ما يقولونه لكل الناس فى المحروسة بأنهم سيعودون وقد لا يخرجون، لأن أساطيل وعمائر فرنسية ضخمة تحركت فى عرض البحر لمساعدتهم فى الصمود والبقاء!

وكان هذا ما يشيعه الفرنسيون، لكن الحقيقة أنهم هزموا، وها هو «السنارى» يرصد المطامع الكثيرة والعديدة التى تعرضت لها البلاد، وكشف عن وعيه ووعى الناس بكل ما يحدث فيقول: «الانجليز أصبحوا فى الورايق وإمبابة ومراكبهم تملأ النيل، وطلائع الأتراك وصلت إلى منية السيرج، وفى لحظة خروج الفرنسيس ودخول الترك أتوقع أن تعم الفوضى، وإن لم أدخل بيتى فقد يجرى إليه من يسكنه.

كان يخشى من الأتراك الذين يتحينون الفرص، وفى خضم المعترك تتأزم مأساة دوبريه الذى انكشف أمر حبه، ولو عاد مع الحملة فقد يتسلون على وجعه ساخرين حتى شواطئ فرنسا، فلطم زميله الضابط الذى أمره بالتجهيز للرحيل، وكشف نزوته التى تدعوه للبقاء، واتهمه بالخيانة، ولكن دوبريه الذى تحركت إنسانيته بالحب، ومس أعماقه وعواطفه تعلقه بزينة فرفض الحرب، وكره الغزو، وكأنه هو الآخر يشبه بطل همنجواى فى روايته وداعا للسلاح، فيقول السارد عن دوبريه:  «انتابه إحساس جارف بأن كل ما يربطه بماضيه ينقطع بل شعر أنه لا يصلح أن يكون مقاتلا من الأساس، يزهق أرواحا بضغطة بسيطة على تتك بندقيته من أجل أن يسهم فى دفع رجل واحد إلى قمة التاريخ متذكرا قائده، ولكن دوبريه انضم إلى الأتراك ورأى بينه وبين السنارى ثأرا لأنه يريد الاستئثار بزينة.

• صراعات جديدة

وتنتهى الرواية بمقتل السنارى فى المذبحة التى دبرها الأتراك لأمراء المماليك فى الإسكندرية، إذ طلبوا إليهم أن يصعدوا لمقابلة السلطان العثمانى فى الغليون وأن يتركوا أسلحتهم فلا يليق أن يحملوها فى حضرته، ثم نكلوا بهم وقتلوهم رغم أن السنارى كان قد أعلن ولاءه للباب العالى، وأمر قائدهم زوجات السنارى وأهل بيته بطرد زينة لعلها ترضخ له، ولكن زينة رفضت الطامعين جميعا الضابط دوبريه، والباشا التركى، وحسن جعيدى، الرجل الذى ساعدها وساندها طوال الوقت طمعا فى وصالها، ويبدو مشهد النهاية موحيا بصراعات أخرى جديدة.

مشى الضابط الفرنسى الذى صار فى خدمة الترك والجندى التركى الذى سيتبعها إلى حيث ينتهى بها المقام ليبلغ سيده الذى ينتظرها فى لهفة، وحسن جعيدى الذى كان يسبقهما بخطوتين يرعى زينة بعينه وبالأخرى يرقب الاثنين فى غيظ، ويحاول أن يهزم عجزه وهوانه بلا جدوى.

حسن جعيدى الذى كان يود أن تنتهى إلى يديه خبيئة السنارى إذا تزوج زينة، وأقسم إن انتهت إليه هذه الثروة فسيجعل لأصحابها الحقيقيين خيرا كثيرا فيها، فقد جمعت من قوت هؤلاء الغلابة، ومن العدل أن يعود إليهم ما سلب منهم».

لتقدم لنا هذه الرواية صورة بانورامية لأحداث ذلك الزمن، ولتضفى على حياة أبطالها حيوية دافقة وتثير أسئلة عديدة حول ما يمكن أن تقدمه لنا الرواية التاريخية من تأويل جديد للأحداث ومعطيات الشخصيات، ولتصبح من طرف خفى هى الأخرى وثيقة الفنان والأديب فى استقراء التاريخ، وأحداثه لتضيف إليها هذا البعد الإنسانى العميق والحميم فى آن واحد. 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز