عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
السياق الأسطوري للزمان والمكان وأثره في الدين والفلسفة

السياق الأسطوري للزمان والمكان وأثره في الدين والفلسفة

بقلم : د. عصمت نصار

2) من التأصيل إلى التبرير:



إذا ما حاولنا الكشف عن الأطوار التي مرت بها التصورات الفلسفية لمقولتي الزمان والمكان فإننا سوف ندرك أنها بدأت بطور التفسير والتبرير أي أن الأنا الفلسفية المبدعة لم تكن حرة في وضعها للتصورات وتحديدها المعاني بل كانت مقيدة بثقافة العصر الذي نشأت فيه وسوف تكشف السطور التالية عن الدروب التي سلكتها الفلسفة بداية من السياق الأسطوري ومرورا بالنسق التوفيقي بين الفكر اللاهوتي والتفسير العقلي ثم الانتصار للنسقية الفلسفية محاولة التحرر من سلطة التبعية باسم العلم تارة والمنطق والحكمة العقلية تارة أخرى ، فمعيار الحضور هنا هو الحفاظ على النسق:-

لعل أقدم التصورات (للزمكان) يمكن التماسها في السياقات الأسطورية الشرقية، فعند المصريين نجد أسطورة نشأة الكون حيث "نون" ويمثل أصل كل الأشياء أو الأوقيانوس عند اليونان ومنه خرج المحيط الأزلي والبيضة الذهبية التي تطوف فوقهم فانفلقت نصفين فخرج منها كل الموجودات بداية من "أتوم" الإله غير المرئي المجرد وهو علة النظام الذي أشرف على إيجاد كل الموجودات فأوجد "شو" وهو إله الأثير أو الفضاء "وتفنوت" وتمثل ربة الرطوبة. ويرمز للزمان في الأساطير المصرية بـ"رع" ويرمز للمكان بـ"جب" إله الأرض غير أن النسيج الأسطوري لم يقو على مجابهة النظريات العلمية الفلكية التي أنتجها المصريون في تفسيرهم لطبيعة الزمان والمكان –ولاسيما عند الخاصة-. أما الهندوسية فقد صورت أن الإله "براهمان" حلم بصورة الكون فقرر إيجاده بواسطة "فشنو" الإله الحافظ و"شيفا" الإله المهلك وثلاثتهم يمثلون علم الإله وقدره واللحظة التي أوجدوا فيها المكان أيضا. والزمان في عالم ما قبل الفلسفة في الأساطير اليونانية هو "خرونوس" أما ربة المكان فهي "هيستيا" وتصف الأساطير الأول بأنه متحرك وخالد وهو الذي يتعقب الإنسان من الميلاد إلى الموت وعلى النقيض نجد "هيستيا" ربة المكان تمثل الثبات والاستقرار وهي شديدة التعلق بإله الزمان ويؤكد "هيزتوس" و"هومروس" إنهما لا يفترقان أبدا.

ويمكننا ملاحظة أنه على الرغم من تباين الأساطير من حيث النسيج الروائي إلا أنها تجتمع جميعا على وجود زمن ميتافيزيقي مطلق سابق على وجود الحياة الإنسانية والعالم ومكان غير محدود صنعهما الموجود الأول أو أشرف على تنظيمهما ثم أوجد الموجودات في الحياة الدنيا ، أضف إلى ذلك تصور العالم الأخروي حيث فناء الحياة التي تسير وفق زمان ومكان محسوسين ينقسمان إلى ساعات وسنين وتضاريس وسهول وكواكب وأجرام ونجوم وذلك فيما عدا الأساطير الصينية التي لم تتحدث إلا عن الحاضر المحسوس وقدست في الوقت نفسه الماضي باعتباره مأوى أرواح الأجداد المعبودة. ولا ريب في أن فلاسفة اليونان قد تأثروا بالسياق الأسطوري الشرقي ولاسيما أسطورة الوجود التي تشابهت في محتواها المعرفي فلا نكاد نلمح فروقا جوهرية بين الثقافة المصرية والبابلية والفارسية والهندية (خضم مائي غير محدود ثم إله مجرد يصنع من الماء كل الموجودات) ، ويبدو ذلك في كتابات الطبيعيين الأوائل ثم أفلاطون وأرسطو وأفلوطين ، فتلازم الزمان والمكان والصيرورة والتمييز بين حركة الأفلاك الدائرية المطلقة وحركة الزمن النسبي ،  وكل ذلك أثر بالطبع على النسق الفلسفي والآراء العلمية.

ولم تخل الكتب المقدسة من ذلك الأثر أيضا فها هو العهد القديم يتحدث عن الزمان  والمكان بوصفهما مخلوقين لله ، وكان يعبر عن الفترة السابقة على نشأة الكون بالزمن الإلهي وهو يختلف في طبيعته وحساباته عن الزمن الفيزيقي المرتبط بالمكان وقد ذُكر ذلك في المزمور 90 :4،2 (منذ الأزل إلى الأبد أنت الله) (لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس) والمزمور 102 :25،24 (لا تقبضني في نصف أيامي. إلى دهر الدهور) (من قدم أسست الأرض). وقد وُصف الله بالأول الأزلي السابق على كل الأزمان في الإصحاح الثامن من سفر الأمثال : 23 (منذ الأزل مسحت، منذ البدء، منذ أوائل الأرض) أما الزمن الفيزيقي فقد ظهر مخلوقا مع خلق العالم وذُكر ذلك في سفر التكوين : 2،1 (فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) (وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ) . وقد صورت المسيحية الزمان في صورتين أيضا الزمن الميتافيزيقي وهو مرتبط بشخصية الأب الخالق وذلك في الإنجيل الرابع ((في البدء كان الكلمة)) ثم الزمان الذي ولد فيه المسيح وبدأ العهد الجديد وذلك في الإصحاح الثاني من إنجيل متى : 1 (ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام هيرودس الملك) . ويختلف الزمان الميتافيزيقي في اليهودية عنه في المسيحية ، ففي اليهودية  يبدأ بخلق الله للعالم وينتهي بالموت والبعث حيث العالم الآخر عالم النعيم أو الجحيم ، أما في المسيحية فقد تم الخلاص على يد المسيح بالإضافة إلى وجود عالم أخروي لا يعلم ساعته إلا الله يسبقه عودة المسيح ، بينما جاء في رؤية يوحنا الإصحاح الثاني والعشرون : 13 على لسان المسيح ((أنا الألف والياء ، البداية والنهاية ، الأول والآخر)).  ولم تحافظ الكتابات المقدسة في حديثها عن قصة وجود الزمان والمكان على تلازمهما بل جعلت أسبقية للزمان في حين أن العهد القديم تحدث عن الخضم المائي وخلق الله للعالم ثم الاستواء على العرش ثم تأتي لحظة الخلاص على يد المسيح وتعطي بعدا زمنيا آخر للبداية ولاسيما أن الكلمة التي عبرت عن البدء في العهد الجديد كانت تعني المسيح. ويبدو أن الشراح قد خلطوا في تأويلاتهم بين الزمان الميتافيزيقي الذي يعد بداية الكون والزمان الذي أتى فيه المسيح وهو الزمان الفيزيقي ، الأمر الذي انعكس بالسلب على كتابات القديس "أوغسطين" و"توما الأكويني". -ويبدو ذلك في إقرارهما بعجز العقل عن تصور الزمان والمكان بمنأى عن الواقع- ، ذلك فضلا عن فكرتي القدر والخلاص اللتان ارتبطتا بمفهوم الزمن إذ جعلا مصطلح الزمان نسبيا من جهة وذاتيا إنسانيا من جهة أخرى وقد انعكس هذان المفهومان على كتابات القديس "امبرواز" (337 – 397 م) عن الحياة الروحية والفيلسوف الألماني "إكهرت" (1260 – 1328 م) عن الثيوصوفية فكلاهما فرق بين الزمان الطبيعي والزمان الصوفي في العالم الإلهي ، وكتابات "باول تيليش" و"كيركجارد"  و"برديائيف" عن الزمان الذاتي الوجودي الشعوري.

ويفرق القرآن بين الزمان الكوني والزمان الطبيعي والزمان النفسي المرتبط بالوعي وكذا المكان ، وقد تأثر بذلك التقسيم معظم متكلمي وفلاسفة وصوفية الإسلام.

ويمكننا أن نلاحظ في السياق الأسطوري والديني أن تصور الذهن الإنساني عن الزمان والمكان يُرد إلى عاملين: أولهما المعتقد الديني والموروث الشعبي السائد وثانيهما الخبرة الحسية والإدراك العقلي. وإذا كان السياق الأسطوري يشوبه بعض الاضطراب فإن النسق الفلسفي قد حاول واضعوه تجنب النكوص أو التناقض في حديثهم عن الزمان والمكان خلال شرح تصوراتهم أو نظرياتهم للكون.

فها هو "هيرقليطس" (535-475 ق.م) قد تأثر بالسياق الأسطوري والتصورات الفلسفية السابقة عليه عند الطبيعيين الأوائل تلك التي تحدثت عن الزمان والمكان القبليان وحركة الوجود وتشكيل الكائنات من العناصر الأربعة ، إذ أكد على صيرورة الزمان والمكان وذلك في مقولته الشهيرة ((إنك لا تستطيع أن تهبط النهر مرتين)) وقد انتهى إلى ذلك "أينشتين" (1879 – 1955 م)  في حديثه عن نسبية الزمان والمكان وإن اختلفت الانطلاقات. وأعتقد أن هناك بعدا نفسيا قد انتبه إليه هيرقليطس للزمان والمكان ويبدو ذلك في مقولته ((مع أن اللوجوس مشترك بيننا إلا أن لكل منا عالمه الخاص)) وهذا هو عين ما انتهى إليه "بيرجسون" فيما بعد ويعني ذلك أن هيرقليطس قد فرق بين الزمان والمكان الطبيعيين والزمان النفسي الذاتي ، غير أنه لم يستطع التخلص من البعد الميتافيزيقي للزمان ((اللوجوس هو البداية والنهاية)) وكذا حديثه عن التغير باعتباره حركة ترتبط بالزمان الطبيعي المفارق بطبيعة الحال للزمان الممتد وحركة الأفلاك الدائرية التي تحدث عنها "هوميروس" (نحو 850 ق.م) و"هسيود" (نحو 846 – 777 ق.م) و"فيثاغورس" (570 – 495 ق.م). ونجد عند "أفلاطون" (427 – 347 ق.م) أن الإله الصانع الموجود الأول مثال المثل قد أدرك الزمان والمكان معا دون أن يسبق أحدهما الآخر وهو في ذلك متأثراً بنظريتين أسطوريتين هما المصرية والهندية معا ، وجعل أفلاطون للزمان حركتين (حركة دائرية فلكية ، وحركة أخرى طبيعية تقاس بالساعات والأيام والشهور) ، والزمان المحسوس معلول بطبيعة الحال للزمان الكوني المثالي أو للنفس الكلية وهي التي منحت الصورة للموجودات والحركة التي تقطع الأماكن وتشغلها في الزمان وحركتها تختلف عن عالم المثل الذي هو في الأصل ثابت وحركة كواكبه دائرية كاملة خالدة ، أما الواحد الصانع هو الذي أوجد ذاته ونظم المادة الأزلية وكذا الحركة الأزلية وهو على قمة عالم المثل ، ولم يصرح أفلاطون بأن الواحد قد خلق الزمان والمكان والحركة والمادة بل ذهب إلى أن الإله منظمها جميعا وأن ليست هناك ثمة فرق زمني بين وجوده ووجودها بل أن وجوده أسمى لأنه هو الذي أوجد ذاته وأنه هو متقدم عنهم جميعا بالوجود. وقد أثر تصور أفلاطون للزمان والمكان في جل الفلاسفة اللاحقين عليه ولاسيما القائلين بنظرية الخلق من أمثال أوغسطين في المسيحية "والكندي" (801 – 873 م) و"الغزالي" ( 1058 – 1111 م) في الإسلام ومعظم التيارات المثالية والوجودية المؤلهة وذلك بعد تطويعها لتتوافق مع الموروث العقدي. أما "أرسطو" (385 -333 ق.م) فذهب إلى أن الزمان والمكان والحركة والمادة لا يمكن الفصل بينها من ناحية الوجود أو التلازم وذلك على العكس من أفلاطون الذي جعل وجود الزمان لاحق على وجود الإله الصانع المنظم المهندس. فإله أرسطو غير معني بما يدور في العالم فطابعه السكون والثبات ولا يتحرك ولا يتحول أو يتبدل كما هو الحال في الزمان النسبي في العالم المحسوس أو حركة الأفلاك الدائرية ، وقد أراد أرسطو بذلك الحفاظ على تصوره للكون فالموجودات كلها كامنة في الهيولا المادة الأولى غير المحددة ويقابلها الصورة الخالصة وهي الإله وقد انطلقت الموجودات وتشكلت بموجب انطلاقها من الهيولا عشقا إلى الصورة الخالصة ، الأمر الذي جعلها تحتاج إلى حركة في مكان وزمان أما الأفلاك كما ذكرنا أو عالم ما فوق القمر فهو في حركة دائرية خالدة وزمان خالد أزلي يختلف عن الزمان الأرضي المتغير المتعدد المرتبط بالحركة (الماضي – الحاضر – المستقبل) والوحدة الزمنية هي (الآن) ، ولم يهمل أرسطو الزمن الذاتي الشعوري الذي يدركه الإنسان فالأيقاظ عنده وحدهم هم الذين يدركون الزمان وتغيراته وحركته أما القابعين في الكهوف والمعزولين عن الحياة والموتى فهم لا يدركون شيئا ويعتقدون أن الزمن ثابت مثل عقولهم. وقد حاول أرسطو التخلص من السياق الأسطوري إذ جعل وجود الهيولا وخروج الموجودات منها بحركة القوة إلى الفعل تلقائية وأن العناصر الأربعة المكونة للموجودات لم تحدث في زمان ، أما عالم الآلهة الذي يحوي الإله والعقول المفارقة للمادة فقد وُجد من صور خالصة مجردة ثابتة ومن ثم لا زمان فيها ، أما وجود الإله (المحرك الأول) فهو سابق عن الزمان والمكان لا بزمن بل بضرورة منطقية تحتم وجوده قبل وجودهما. وقد تأثر كل الفلاسفة المشائين –في الإسلام والمسيحية- بهذا التصور ، الأمر الذي شكل معضلة فلسفية في نسقهم حالت بين الإيمان بوجود الله الخالق من عدم ووجود الزمان والمكان والعالم على النحو الأرسطي.

وعلى الرغم من ذلك لم يستطع أرسطو التخلص تماما من السياق الأسطوري ويبدو ذلك في عجزه عن تبرير وجود الإله في اللازمان وكذا حركة الأفلاك الدائرية وكيفية انتقال الموجودات الحسية من الهيولا إلى الصورة بلا زمان أيضا.

وللحديث بقية 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز