عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
القرد خير من الإنسان المتوحش

القرد خير من الإنسان المتوحش

بقلم : محمد عبد السلام

شهواني بالفطرة



بالأمس القريب، كنت في أحد شوارع مدينة نصر أتجول، لفت أنظاري تظاهرة لبعض البشر، نساء ورجال وأطفال، خُيل إلي أنها نواة ثورة غاضبةٌ، أو أن إحدي سيارات التموين قد وقفت، وقد ظن الناس إنها تحمل لهم حبات السكر، إقتربت قليلاً علني أظفر بأحد تلك الأكياس النادره، ولكنه كالعادة كان ظناً من النوع الأثيم.

"مسقط رأسي من تلك التظاهرة، خبِّئْ مشاعركَ القديمةَ كلها، واكتبْ لمصرَ اليوم كلمات تليق بشعبها، لا صمتَ بعد اليومِ يفرِضُ خزيةُ، فاكتب نقداً لنيل مصر وأهلَها"..لا أعلم لماذا جاءت كلمات شاعرنا هشام الجُخ في مُخيلتي وأنا أري ذلك المشهد العبثي، فخرجت أبياته بتلك الصورة المُزرية، لتعبر بصدق عن ذاك المشهد الأليم.

"إنت حيوان ماشي ورا غرايزة.. لا يمكن تكون إنسان كرمة ربنا".. في اللحظة التي إقتربت فيها من ذلك الحشد لم أسمع سوي تلك الصرخات الأنثوية، لم أتبين صاحبتة، ولكنني أدركتها، صوت غاضب، يوجه إلي شخص ما، تجسد في صورة ذئب بشري، تواري خلف جموع من البشر ظن أنهم إلتفوا حوله ليقتصوا لتلك الأنثي، لكن سرعان ما أدركت أنهم ما تجمعوا إلا ليستمتعوا بذلك المشهد الأخاذ، وقف البعض يحملق فيما يحدث ببلاهة رواد سينما السبكي الفجة، في حين رفع البعض الآخر هاتفة الجوال يوثق هذا الحدث التاريخي، بينما انبري نفر من الرجال والنساء في تهدئة الطرفين المتصارعين.

حقيقة لم يلفت نظري هذا المشهد الخُزعبلي، لم يسترعي انتباهي حتي رده فعل بعض من سموا أنفسهم رجالاً، ففي زمن فقدنا فيه كل معاني الشهامة والمروءة التي قديما ما اشتهرنا به في هذا البلد الأمين، لم يعد هناك معني للإندهاش من تصرفات تلك الكائنات التي تنتشر كالنار في الهشيم، أكثر ما أثار دهشتي هو وصف أغلب الحشد لتصرفات هذا الكائن بالحيوانية، رغم أن أبحاث "الإيثولوجيا" أو علوم سلوك الحيوان لم ترصد أي فعل شاذ كهذا، فكيف لهم يخطئون في حق تلك الحيوانات البريئة.

"هل تعلم أن الحيوانات تأبى التحرش بأناثها لغرض التسلية".. هذا ليس سؤلا يحتاج لإجابة، ولكنه خلاصة ما توصلت إلية أبحاث "الإيثولوجيا"، فمصطلح "تحرش" لا وجود له علي الإطلاق في عرف الحيوان، ولكن هناك بالطبع طقوس غزلية لغرض "التزاوج"، تلك الطقوس التي لا يفهم معاييرها أغلب ذكور البشر، وذكور الحيوانات في مرحلة التزاوج يستعرضون مهاراتهم وجمالهم وقوتهم للفوز بموافقة الأنثى، وربما يتقاتل مع ذكر أخر من نفس الفصيلة، وقد يودي بحياتة من اجل نيل تلك الأنثى التي أحبها.

الثابت في علوم "الإيثولوجيا" أنه من المستحيل أن يواقع الذكر أنثاه بدون موافقتها، فالحيوان لا يفكر بالجنس إلا لغرض التزاوج فقط، لذلك نراهم يتغازلون ويبرزون أجمل ما لديهم للفوز بقلب الأنثى، ولتلبية نداء الطبيعة في أوقات التزاوج، وماعدا هذه الأوقات فالحياة طبيعية فيما بينهم، لذلك لن تجد للتحرش أي معني عند الحيوانات، ولكنه للأسف الشديد أصبح ظاهرة بني البشر، ولو كان لمعشر بني الحيوان إدراك بتلك الصفات التي نطلقها عليهم وصفا للمتحرشين لأعلنوا الحرب علينا.

"فن المغازلة".. زمان ضحكوا علينا بمقولة أن "الإنسان حيوان ناطق" أو أن "الإنسان حيوان مُفكر"، أو أن "الإنسان حيوان يتعلم من تجاربه".. وبمرور الزمن إكتشفنا إن "الإنسان لا يرتقي لأن يكون حيواناً".. ونحن إذ نؤكد أن الحيوانات لا ترتكب جُرم التحرش والاغتصاب، ولا تسعي لامتلاك أنثي لا ترغبه، فهذا لا يعني أن الحيوانات كائنات بلا مشاعر، فمن يراقب السلوكيات الحيوانية لعائلاتهم ستدرك جيدا حجم تلك المشاعر في أحد الفنون التي ندعي نحن معشر البشر أننا أصحابها، وهو فن الغزل والحب دون ممارسة.

الملاحظة الأكثر إثارة في فن مغازلة الحيوانات، أنها في كثير من الأحيان تتبع طرقا معقدة في المغازلة، فالذكور عادة تتنافس على الإناث، وكثيرا ما تكون الذكور أكبر حجما وأكثر ألوانا من الإناث، فالطاووس الذكر يجر ذنبا طويلا من الريش الملون، بمجرد أن يري أنثي تعجبه يقوم بفتحه ليصبح علي شكل مروحة جذابة ليلفت نظرها، بعض الحيوانات الأخرى تستعمل أصواتا مختلفة لإستمالة أزواجها، فالضفادع تنق والعصافير تغرد، وبعض الكائنات الأنثوية تلجأ أحيانا إلى إطلاق روائح خاصة لإجتذاب الذكور، فالروائح التي تطلقها بعض الحشرات تصل إلى مسافات بعيدة تستنشقها الأزواج العتيدة وتسارع إلى تلبية النداء، وهناك من ينتهج "مشية" مختلفة، أو "رقصة" جميلة، أو حتي مبارزة إظهار القوة لتفوز سعيدة الحظ بالفائز، ولدى العناكب وفرس النبي عقيدة تقول أن "يجب أن تتبع أساليب المغازلة الصحيحة حتي لا تخطيء الأنثى وتظن أنك إحدى فرائسها فتأكلك".. وهذا ما نفتقده نحن معشر البشر.

سياسة القطيع

"أنت لو خروف مكنتش عملت كده".. منذ يومين، وحينما كنت في طريقي إلي مكتبي الكائن بشارع الهرم أتياً من مبني الإذاعة والتليفزيون بكورنيش النيل، وقبل ان أقترب من مطلع كوبري 6 أكتوبر، أطلق سائق التاكسي تلك العبارة الغاضبة في وجه سائق ميكروباص قطع علية الطريق وقد اعتقد أنه بذلك يختصر دقائق الإنتظار في صف طويل في تلك الساعة بالغة الذروة.

لوهلة كدت أسأل الرجل عن الأسباب التي دعته لوصف هذا التصرف المُشين بأنه من أفعال الخراف، فأتاني الجواب أكثر صدمة من السؤال نفسه، وقد تؤكد حُسن التوصيف، فسائق التاكسي يعتقد أن هذا الرجل يتبع سياسة القطيع، وأن كل سائقي السيارات في مصر أصبحوا يشكلون قطيعا حيوانياً ينتهجون نفس السلوك، وأن تلك السياسة هي السبب المباشر في بقع التكدس المروري هنا وهناك، في تجني واضع لتلك السياسة التي يلصقها البعض ظلماً وعدوانا لقطعان الحيوانات.

"عمرك شوفت تكدس مروري في الغابة؟.. عمرك سمعت عن اختناقات متكررة في طرق حدائق الحيوانات المفتوحة؟.. عمرك قرأت عن عركة بين حيوانات علي أولوية المرور؟.. نما إلي علمك في يوم من الأيام عن ركنة صف ثاني ولا ثالث لرطل من الزراف أو فرس النهر؟"... مجرد تساؤلات ساخرة قد يؤدي الإجابة عليها بالعدول عن إلصاق سلوكياتنا كبشر بسلوك الحيوانات، وفهمها لسياسة القطيع، فثقافة القطيع في الغابة كانت سببا في تطور ونمو هذا المجتمع واستمراره، بعكس مجتمعنا الذي قام بتأويل تلك الثقافة بالطريقة التي يفهمها أو يريدها.

بصفتي إنساناً يعيش في إحدى قري الريف المصري، كثيرا ما ارتطم بموكبٌ لمعشر الخراف أو الأبقار، يقودها في العادة فتي صغير، وفي المؤخرة يحرسها كلب ضئيل، رغم ذلك يلتزم القطيع قانون المرور، وإذا عدنا لنفس المشهد الرأسي لهذا الموكب، سنجد فناً أخر لثقافة القطيع، فقد تصدرت الكباش المشهد، تبعتها الإناث والحملان، وعلي الأطراف احتل الذكور مواقعها للدفاع عن القطيع، وقد شرحت علوم "الإيثولوجيا" تلك الفلسفة لمجتمع يغيب عنا فهمة.

لوهلة تبدو الفوضى هي النظام الوحيد والمتعارف عليه في الغابة، لا وجود لمؤسسات تنظيمية، ولا لشرطة مرور، ولا لهيئات تشريعية، أو حتي ديواناً للمراسم الرئاسية، أو وزارة تهتم بشؤون العمل والعمال، ولا لأي نوع من أنواع النقابات، لذلك في العادة نطلق كلمتي "نظام الغابة" كوصف نستخدمه عندما تبدو الأشياء غير منتظمة، وتصل المنافسة إلى درجات عالية يأكل، فيها القوي الكائن الأضعف، في تجاهل لواضح كون إننا الكائن الوحيد الذي أقام الحروب للمتعة، ومارس القتل كهواية، والذي لا ينفك يجد المبرر تلو الآخر كي تتوارى خلفه أفعاله المشينة، بينما هذه الكائنات التي يتحدث عن بدائيتها وهمجيتها، فقط لأنها لا تكذب ولا تتجمل.

"الحيوانات الأكثر إحتراما لقواعد المرور".. كانت تلك أكثر ملاحظة مثيرة للانتباه، ففي روسيا لاحظ مراقبي علوم "الإيثولوجيا" سلوك حيوانات غابة "بياوفيجا" الواقعة علي الحدود بين دولتي بولندا وروسيا البيضاء، وقاموا بتصوير مئات المقاطع لحيوانات تلتزم بقواعد المرور أثناء اضطرارها لعبور الطريق، ففي أحد الفيديوهات نرى أحد "الأيائل" وهو تقترب بحذر في البداية من الطريق، ثم تتوقف لدى نقطة عبور المشاة، وتنظر إلى اليسار ثم إلى اليمين، بل وتنتظر السيارة القادمة حتى تتوقف أو ترحل، ثم تبدأ في عبور الطريق، وبعد ذلك تختفي في صمت داخل الغابة، هكذا تحترم الحيوانات قانون سياسة القطيع.

ديوان المظالم الحيوانية

"يا سادة احترموا الحيوان.. فقد أثبت انه أرقي منكم سلوكاً.. ولو كانوا يعلمون ما تدعونه عليهم كذباً.. لأنشأوا ديوانا للمظالم الحيوانية".. الحقيقة أن لغتنا كثيرا ما حملت لنا مقارنات ليست في محلها بين ذلك الإنسان، وتلك الكائنات التي حافظت علي ثقافتها ومجتمعها لملاين السنين، وان كان بعضها صفات ايجابية والبعض الأخر سلبي لا يمت لها بصلة، فهناك من يقول "ماكر كالثعلب"، أو "نشيط كالنحلة"، أو مثلا "قبيح كالخفاش"، أو "جبان كالنعامة"، رغم أن علماء "الإيثولوجيا" أثبتوا في كثير من الأحيان كذب تلك الصفات والادعاءات.

"كيف تجرؤ علي وصفي بالجبن أيها البشري".. هكذا قالت النعامة ولها كل الحق، فهي لا تدفن رأسها في الرمال عندما يتهددها الخطر، بل تستطيع أن تسبق أي عدو من أعدائها الطبيعيين، وعشها في فترة التكاثر يحتوي على قرابة عشرين بيضة تزن كل منها قرابة 1500 جرام، فيصبح بذلك طبقا شهيا ومغريا للأسود والفهود وغيرها من الأعداء، ومن أجل حماية تلك الذرية تلجأ أنثى النعامة إلى عدد من الخدع الذكية، فنراها تقوم بعملية تمويه ماهرة، فبمجرد أن تلمح فهداً أو أسداً جائعاً، تبسط جسمها فوق العش ناشرة جناحيها على الجانبين، وملصقة عنقها الطويل بالأرض، فتبدو كغصن ضخم ساقط بعد أن تغرس رأسها في الرمال ويمر الفهد من أمامها من دون أن يلاحظ النعامة وعشها.

"يتهمونني بأنني أهمل صغاري".. بصوت باكٍ يشكو الغراب تجني البشر علية، وكيف أنهم يدعون أنه يهمل صغاره، فهذه الصفة يوصم بها الوالدان اللذان يهملان أطفالهما أو يسيئان معاملتهم، دون أدني إدراك لحقيقة الحياة العائلية للغراب، وقد أثبت علماء "الإيثولوجيا" أن أنثي الغراب حينما يحين وقت الفقس تعطي فراخها مقداراً مدهشا من معونة الفقس، فجميع الفراخ التي توشك على الفقس، تكون مزودة بنتوء قرني في مناسرها الدقيقة، يطلق عليه اسم سن البيضة، ويحتاج إليه الفرخ كي يشق أخدوداً حول البيضة من الداخل، وبينما تضطر فراخ معظم الطيور الأخرى إلى إنجاز جزء من هذا العمل، على الأقل وهي مقلوبة داخل البيض، نجد أنثى الغراب حريصة على أن تدير البيض باستمرار، كي تتمكن فراخها من النقر وهي في وضع معتدل.

وفي الوقت الذي تكافح فراخ معظم الطيور كي تخرج من البيضة، نجد أن هذا السلوك ينطبق على فراخ الغراب، فما أن ترى الأم أحد فراخها وقد فقست بيضته حتى تسارع إلى رفعه برقة خارج قشرة البيضة، وتنظف جسده تنظيفا دقيقاً، وفي الأيام الباردة تغطي الغربان صغارها بقش كالذي يستخدم في بناء العش، وعندما ترتفع درجة الحرارة تفتح الغربان ثقوبا في أرض العش كي توفر التهوية للصغار، وإذا لم يكفي ذلك فإن أنثى الغراب تطير إلى أحدى الأنهار أو البحار وتغطس فيه ثم تعود لتعطي صغارها حماماً منعشاً بأن تهز جسدها وجناحيها ناثرة ما علق بريشها من ماء، ما يعني أننا نتجنى علي هذا الطائر الذي لم نسعى لفهم سلوكه جيدا

"يرتكبون الموبقات ثم يدعون إنهم ذئاب بشرية.. كيف لهم أن يربطوا الغدر والخيانة والخبث واللؤم والوقاحة بإسمي".. إنه الذئب ذلك الحيوان الذي كان قديما عند العرب رمزا للسرعة والشجاعة والقوة، اليوم أصبح لصيقاً بإنسان غير أدمي ليس له حرفة سوي اغتصاب النساء.

فالذئب يا سادة حيوان يعرف قدر نفسه ويحترمها، حيوان يضع المصلحة العامة للقطيع الذي ينتمي إلية فوق كل شي، حيوان خُلق ليكون آية للناس تبين قدرة الله في الخلق، حيوان به صفات الإنسان المناضل، حينما يعشر الأب بالجوع نراه يتقيأ ما تناوله كي يطعم صغاره وأنثاه، يضحي بإحساس الشبع ويعود لحالة الجوع مقابل أن يرى من يحب سعيداً، فالذئب حيوان يحب بإخلاص، فهناك زوج وزوجة يقاسيان ظروف العيش معاً ولا يفرقهما إلا الموت.

قد يُصيب الغرور الذئب لقوته عندما يواجه خصماً ضعيفاً, ولكنه سرعان ما يدرك أن ذكاءه هو سلاحه الأقوى عندما يواجه خصماً أقوى منه، لذلك نراه يضع الخطط قبل أن يهاجم، بل ويدافع وهو يخطط، ويتحين الفرصة تلو الفرصة حتي لم اضطره ذلك لأن يتأخر عن هدفه، حيوان يتنفس الحرية، لن يرضي بعش يجعله حبيساً سجيناً حتي لو كانت الجنة، يؤمن أن قوته من قوة مجموعته, وقوة مجموعته انعكاس لقوته، يدافع عن أرضه , ويحدد له مساحة لا يسمح للغير بدخولها، فالأرض عنده مقدسة, وكرامته لا تمس، فمن أراد أن يعيش أنسانا كريماً عزيزاً لا تؤثر عليه قوانين البشر المصطنعة، ولا تغيره ظروف الحياة الصعبة, ولا يقلل من قيمته ولا قيمة أهله, ولا يركع لمن تسلط عليه من البشر, من أراد أن يرجع على فطرته السليمة ويتخلص من كل ما قد يأسرنا في هذه الحياة، علية أن يعيش ذئباً كريماً في زمن غلب علية طبع الإنسان

الأخلاق الحيوانية

"القرد خير من الإنسان المتوحش".. مثل شعبي لا أذكر لأي ثقافة شعبية، ولكنني أعتقد أنه المثل الأكثر إنصافاً لبني الحيوان، فتلك حقيقية مؤكده يثبتها التاريخ الإنساني يوما بعد يوم، فبعض البشر للأسف يعتقدون أن الأخلاق نزلت على الإنسان من السماء، غير أن الحقيقة تؤكد أن الأخلاق هي القواعد التي لا غنى عنها في العلاقة مع الأخر، ليس فقط عند الإنسان بل عند الحيوان أيضاً، ووجود الأخلاق عند الحيوانات يؤكد أنها ضرورة في عالم الجماعات المختلفة، بشر أو حيوان، بما لها من قدرة علي خلق انسجام وبيئة حياتية لديها القدرة علي التنافس والبقاء.

"إياك والخديعة فالقردة لا يحبها".. فقد لاحظت "سارة بروسنان" الباحثة في مركز "يركيس" للتجارب علي القرود بمدينة اتلانتا الأمريكية، أن القرد "كابوتشي" يبدأ في قذف الأحجار وكل ما يقع تحت يده عندما يشعر أن حارسة بالحديقة يخدعه، في حين قام القرد الجار من فصيلة مختلفة بالتقاط حبات العنب المقدمة له، حيث أعطت كلا القردين أحجارا صغيرة وعلمتهم أن يبادلوا الأحجار مقابل قضمات من الخيار.

قرود "الكابوتشين" ذكية للغاية، وكلا القردين وافقوا على أن عملية التبادل كانت فكرة رائعة، إذ تمكنهم من تبديل الأحجار الغير نافعة بقضمات من الطعام الطيب، في نهاية يوم التجربة قامت الباحثة، فجأة، بتغيير قواعد عملية التبادل، الآن صارت تعطي لأحد القرود عنقودا من العنب مقابل أحجاره، والقرود تفضل العنب على الخيار، في حين استمرت على إعطاء الخيار للقرد الثاني، وكانت النتيجة حالة من الهياج والغضب للقرد الثاني الذي اعتبر أن عملية التبادل غير عادلة.

من أين لهذا القرد أن يدرك أن العدالة تُعد أحد المفاهيم الأخلاقية؟، قطعا سؤال ساذج، حتى سنوات قريبة كان علماء "الإيثولوجيا" يعتقدون أن الإنسان وحده يستطيع إنتاج قواعد أخلاقية، ولكن مؤخراً ظهرت مجموعة كبيرة من الدلائل تشير إلى أنواع متعددة من عالم الحيوان تملك أسس بدائية للأخلاق، مثل التفضيل، المساعدة، العدالة وحتى اللاانانية، ما يعني أن الأخلاق ليست حكرا على الإنسان، بل هي مرحلة تطور انسيابية تختلف درجاته من النوع الأدنى إلى الأعلى طبقاً لسلم التطور البيولوجى.

يقول المولي عز وجل في سورة الأنعام في الآية 38، "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ".. تلك الآية نزلت قبل أربعة عشر قرناً، في زمن لم يكن أحد على وجه الأرض يتخيل أن الحيوانات والحشرات والطيور هي مجتمعات منظمة تشبه المجتمعات البشرية، ومؤخرا أثبت البروفيسور "فرانس دي وال" أستاذ علم النفس في جامعة "جورجيا" الأمريكية علمياً أن الأخلاق صفة تتمتع بها العديد من الحيوانات، والتي تتميز بقوانين اجتماعية مثل البشر، وهنا نتساءل: أليس هذا ما أكده القرآن في قوله تعالى عن هذه الحيوانات، "إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ".

أبحاث "فرانس دي وال" والتي عرضها في المؤتمر السنوي للجمعية الأمريكية للعلوم المتقدمة "AAAS" جاءت لتؤكد مفهوم العدالة لدي القردة، وكيف أنهم أظهروا شعوراً صارماً بالعدل أو الظلم، فقد طلب من مجموعة من القرود القيام بنفس العمل ولكنه أعطى مكافآت مختلفة لكل منها، فقدم كمية من الطعام أقل أو أكثر، وقد أظهرت القردة التي قُدم لها طعام أقل نوعاً من التذمر واعترضت بشدة على ظلمها وعدم إنصافها، في حين أظهرت القردة التي قُدم لها الطعام شيئاً من التعاطف مع بقية القردة وأعطتها كمية من طعامها، أي آثرتها على نفسها، ما يعني أن القردة تفضل وبشكل طبيعي أن يتم تقديم الطعام والمكافآت بالتساوي ولا تحب أكل طعام غيرها.

أبحاث نفس البروفيسور الأمريكي أظهرت أيضاً أن القردة تتذكر جيداً كل من يساعدها فتكافئه ولو بعد حين،  كما أنها تستطيع التمييز بين الصدق والكذب، وإذا كانت القردة تحب العطاء بل تحب لغيرها ما تحب لنفسها، أليس الأجدر بنا نحن البشر أن نحب لغيرنا ما نحبه لأنفسنا؟، إلا يعد ذلك دليلاً واضحاً أن القرد خير من الإنسان المتوحش، حتي لو كانت مفاهيم الأخلاق عند الإنسان أكثر تعقيدا منها عند القرود، التي بدورها أكثر تعقيدا منها عند بقية الحيوانات، ومع ذلك فالكثير من التصرفات الأخلاقية تطورت عن تصرفات أخلاقية خام لازالت جذورها موجودة في عالم الحيوان، وحتى أرقى المفاهيم الأخلاقية تملك جذورا خام في أساسنا البشري، فالإنسان ليس الحيوان الوحيد الذي يملك مفاهيم العدالة والتضامن والتعاون والتكافل والحرص على المساعدة.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز