عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
طلعة قمـر

طلعة قمـر

بقلم : د. عزة بدر

تستطيع أن تغمض عينيها قليلا فى المينى باص، وقد جلست بجوار النافذة.



تستطيع أن تحيل الليل إلى نهار، والنهار إلى ليل بمجرد أن تغمض عينيها، ولا تفتحهما إلا على طلعة قمر.

الرجل الجالس بجانبها يتحدث فى الموبايل طوال الوقت، ارتاحت لذلك فهى لن تضطر إلى الدخول فى أى حوار معه، هو مشغول بهاتفه، وهى آمنة فى وحدتها وصمتها.

فى الصباح ألقت إحداهن بجسدها كله عليها بحجة الزحام، فى الصباح أيضا جَرَّ رجل ما شعرها المسدل مع حقيبته (السامسونيت)! واعتذر ورغم ذلك فقد ارتفع صوتها، وصوت شعرها يحذرانه وحقيبته!

.. ارتاحت للرجل الجالس بجانبها فهو مشغول بصفقاته الهاتفية يتحدث عن عقود يود إبرامها، وسفائن سيسافر عليها، وشحنات بضائع سيتم إنزالها على أرصفة انتظار لهفى.

.. تسافر مع صوته، ترتحل إلى شواطئ لا تعرفها، تتخيل السفائن وهى ترسو، الهلب الكبير الضخم الذى يتمركز فى القاع، تكتب بنفسها الكلمات التى ستنقشها على ضلوع السفن الضخمة:

(العين صابتنى ورب العرش نجَّانى)، (القلب يعشق كل جميل)، (الصبر طيب)، (الصبر أمر من المُر) (الصبر حََرَقَ الدكان)!!.

وضعت اللمسات الأخيرة على آخر مركب يرسو على شاطئ صوته :

(يا نيل.. أنا واللى أحبه نشبهك فى صفاك).

الرجل لا يزال مشغولا بصفقاته ومراكبه وعقوده.

وهى فى الداخل الحميم إلى جوار النافذة تحلم.. تغمض عينيها وتكتفى بالسفر مع صوته، شىء ما دفعها إلى قياس المسافة بين ذراعها وذراعه، عيناها تقيسان المسافات بين كل راكب والجالس بجواره، ثمة صديقان يتحاضنان، ذراعاهما تتواشجان، ثمة مسافات حقيقية بين الركاب خاصة إذا كان الجالسان رجلا وامرأة.

نظرت إلى ذراعه التى  تهيمن على مقعدها، السنتيمتر الذى لا يدعه ينفرج بين ذراعها وذراعه!، امتدت إشارتها لتنبهه بأن يبتعد قليلا، ربما لم ينتبه لإشارتها، كان صوته الفخم الضخم العريض لا يزال يرسل أوامره إلى المراكب، يتساءل عن (بوليصة) الشحن، وعبوات البن البرازيلى القادمة، وعلب التونة المبحرة من مواطنها الأصلية إلى شواطئه.

ربما لا يشعر أن هلب ذراعه مغروسة عن آخرها فى ذراعها، وأن شاطئها يؤلمها، تلمس ذراعه لكى يلتقط من يدها النقود ويرسلها إلى الكمسارى، فى هذه اللحظة فقط ابتعدت ذراعه قليلا، ابتسمت لأنها نجحت أخيرا فى إقصائها عنها، لكنه عاد يهيمن على المقعد، وعاد السنتيمتر ليلتئم من جديد.. كانت ذراعه مفتولة، وصدره عريضا، أنفاسه تنبض إلى جوارها.. المركب الأخيرة تكاد أن تلقى هلبها لترسو على شاطئها، صفوف  متجاورة من آنية الزبد مرصوصة بمهارة على الرصيف بأختامها، كوعه ينغرس فى آنية الزبد فتسيل، يعيد تفقد الأسمان فى أوانيها ، والأعسال بشمعها الناصع البياض.

انسحب صوتها أمام أحمال العمال، وانحناء ظهورهم، وحنانهم على ما يحملون، وعرقهم وهو يفوح برائحة التعب.

كانت أوامر الرجل لها سطوة تشبه سطوة ذراعه، رأت الميناء واسعة والفنار يضوء من بعيد.. أغمضت عينيها من جديد، تود أن ترى الطلعة.. طلعة قمر!

 لكزتها ذراعه وهو يمد يده إليها بالتذكرة وكأنها إحدى رعاياه على رصيف الميناء محنية الظهر بحنانها على أحمالها، أنهى المكالمة وانتبهت إلى أن المجال المغناطيسى لذراعه تلك قد تجمد فجأة، ثمة من نزع الفتيل، وشال  القطب الموجب من السالب.. انقطع التيار الدافئ السارى بينهما، انقطع الاتصال بينه وبين  عمال الميناء، نظرت إلى أكمام قميصه التى شمرها وهو يكاد يبتعد عنها، شحنات البضائع على الأرصفة فى انتظار أوامره، الأسمان والأعسال فى أوانيها، على ذراعه وشم أخضر قديم لأسد يحمل سيفا، ومن تحته اسم امرأة ما، حاولت أن تتبينه فلم تستطع كان مموها بأطواق من الزهر المنقوش بماء النار.. تود أن تكتب بدموعها على ذراعها : (لا توقظوا امرأة  تحلم)، امرأة فى الداخل الحميم، بجوار النافذة.  تسافر الآن فى مراكب  حلت قلوعها، تكتب ما تشاء على ضلوعها، تغادر الشطآن، حاولت أن تجد معنى لكل الذى جرى، لهذه السطوة التى كانت لذراعه، والهيمنة التى فرضها صوته على حلمها كحلقات لا تنفك من السحر.

وفى اللحظة التى انتبهت فيها إلى الفراغ بجانبها، ومقعده الخالى بجوارها، فى اللحظة التى فتحت عينيها عن آخرهما لتبصره وتتبين ملامحه، ملامح التاجر، والصيرفى، والصياد، والمراكبى، والحَمَّال، والتبَّاع، والبحَّار، والحرامى، وسارق المتعة كان قد مر  مرور البرق فى ردهة الباص المزدحمة وانسل وهو يرمقها بنظرة لاذعة شامتة كلدغة قنديل بحر، كاو إلى حد المتعة، وحارق إلى حد العذاب.

التمعت فى عينيها دمعة وهى تفكر فى التكوين الحقيقى لذراعه تلك، لعين الماء الكبريتية التى اغتسلت فيها منذ قليل، تفكر بطبقات الماء، والنار، والبازلت، والفوسفات، والمنجنيز التى تتابعت فى المثول على ذراعها طبقة بعد أخرى لتترك هذا الوشم الفريد على ذراعها كمدن مسحورة من نحاس، على جدرانها طلاسم، وشفرات، وذنوب لم تمح، وصكوك غفران، وقماقم مختومة بالرصاص، وأعشاش طيور بلا أجنحة، ونساء نصفهن من لحم ودم، ونصفهن الآخر من مرمر، وكن مثلها يغمضن أعينهن، وهن يواصلن الحلم، يحلن النهار إلى ليل، والليل إلى نهار، يهدبن، ويهدلن ويكتحلن بالدمع، عاريات إلا من شوقهن، مرتجفات بانتظار العذاب والمتعة مع كل طلعة قمر !..

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز