عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
من الكتاتيب إلي المدارس الإبتدائية

من الكتاتيب إلي المدارس الإبتدائية

بقلم : د. أحمد الديب

في زيارة قصيرة لأحد شيوخ التعليم في مصر ،والذي كان معلماً ، ثم موجهاً تعليمياً ، ثم مديراً عاماً حتي وصل إلي سن التقاعد وكان مشهوراً بشدته المختلطة بإخلاصه الشديد لمهنته وكفاءته الفنية التي لا يختلف عليها أحد . ما أن جلسنا حتي بادرت بطرح سؤال طالما شغل الذهن ، آثرت أن يكون السؤال مباشراً وبسيطاً فقلت " في رأيك يا أستاذنا ، ليه التعليم في ما مضي كان أحسن حالاً من التعليم في وقتنا هذا " ...لم يطل الرجل التفكير ولم يتردد ولم يسرد أويفند وقذف في وجوهنا بإجابته المدوية والتي لم نتوقعها علي الإطلاق فقال بلغة عامية " التعليم باظ علشان منعوا الضرب في المدارس!" .. بنوبة ضحك تنتاب الحضور لمعرفتنا بخفة ظله فظننا أنها واحدة من إجاباته الساخرة خفيفة الظل ، فما لبث أن رمقنا بنظرة حادة وجادة وقال... "أنا بتكلم جد مش بهزر ، المعلم فقد هيبته بمجرد أن نزعوا عنه وسائل العقاب التي تجعله ليس فقط معلماً يقوم بتدريس المواد الدراسية ، وإنما يتعدي هذا الدور ليصير مربياً ، التربية لا تكون إلا ببعض الشدة ، ببعض العقاب ، ببعض التأديب . فقدنا هيبة المعلم في المدرسة ففقدنا دوره في التربية والتعليم".



انتهي كلام الرجل وبقي أثره ، وبدأت الحيرة . لست هنا في مضمار التصديق علي رأيه أو الاعتراض عليه . هذا الرجل ليس مُنَظراً يُنَظر في موضوع أسباب تراجع مستوي التعليم ، هو إبن هذه المهنة التي قضي فيها ما يقرب من ربع قرن ، هو أقرب إلي الواقع من أساتذة كليات التربية الأكاديميين ، ومن الكتاب الصحفيين .

لا شك أن إرجاع أسباب إنخفاض مستوي التعليم لمنع الضرب في المدارس لا يرضي قطاع كبير من أولياء الأمور من جيلنا الذين يتذمرون لمجرد أن تنظر المعلمة أو ينظر المعلم إلي أبنائهم نظرة فيها تخويف أو تقريع أو إمتعاض . حدث بالفعل أن شكي أحد التلاميذ لأبويه أن المعلمة في أحد المدارس العالمية قالت له معنفة "you are naughty" وترجمتها بالعربية "إنت شقي " فأصرت الأسرة علي تقديم شكوي رسمية في المعلمة وفي المدرسة ونقله إلي مدرسة أخري نظراً لأن كلمة بهذا المعني قد تؤدي إلي عقد نفسية شخصانية وتؤثر علي شخصية الطفل الموازية  مما يؤدي إلي انبعاج في البعد البؤري في النفس الإنسانية وانتقال التأثير السلبي من حواشي الشعور إلي مراكز الشعور وغير ذلك من الكلام الذي تكاد أن تستوعب منه شيئاً !.

في الكُتَّاب وقبل مرحلة المدرسة الإبتدائية ، كنا نحفظ القرآن الكريم وحروف الهجاء علي يد الشيخ المرحوم أحمد حسين الأفندي ، في بلدتنا ساقلتة ، محافظة سوهاج بمقابل زهيد لا يتجاوز الخمسين قرشاً في الشهر . كان المرحوم الشيخ يَحفظ القرآن عن ظهر قلب فلا تفارقه آياته ، كما لم تكن تفارقه نشاشته المصنوعة من الليف والتي كان يستخدمها في نش الذباب وفي اللسع علي أي مكان علي الجسم ، وله فيها مآرب أخري . أتذكر أني كنت أتعثر في آية في سورة النجم .." تلك إذاً قسمة ضيزي " فأنسي كلمة "ضيزي" لصعوبة لفظها علي طفل لم يتجاوز الخامسة وفي كل مرة يذكرني بها بينما نشاشته تلسع اليد ويقول " ضيزي، واللسعة دي علشان متنساهاش المرة الجاية " . ألجأ إلي أبي شاكياً فيقول " ما هو إنت لو حفظت كويس بدل ما تلعب كورة في الشارع مكنش عاقبك ، خليه يشد عليك علشان تحفظ كويس وتطلع راجل " . لقي الشيخ ربه بسيطاً ، بينما صار من تلاميذه الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة والقاضي والمعلم . وصرت أحفظ " تلك إذاً قسمة ضيزي" عن ظهر قلب !.

لا تختلف المدارس الإبتدائية عن الكتاتيب في مواضع وموارد العقاب . عليك أن تتخيل كيف يكون العقاب باستخدام غصن شجرة خضراء في صباح الشتاء ، كما سيكون عليك أن تتخيل كيف كان المعلمون حريصين علي استيعابك المعلومة بكل الوسائل الممكنة بدوافع الإخلاص لمهنتهم قبل أن تشيع الدروس الخصوصية ويشيع الاسترزاق من مهنة التعليم . لم يحدث علي الإطلاق أن تدخل الآباء ليمنعوا أو يعترضوا علي وسائل العقاب لأنهم وبكل بساطه يعلمون علم اليقين أن ذلك المعلم او تلك المعلمة لا شغل لهم إلا التعليم والتربية ولا يتقاضون في مقابل ذلك إلا رواتبهم اليسيرة والتي بالكاد كانت توفر لهم حياة كريمة.

لم يحدث علي الإطلاق أن تسرب إلي نفوسنا الحقد علي معلم بسبب عقابه لنا . كان المعلم يمتلك هيبة تتجاوز الهيبة التي يبدوا عليها آبائنا في نظرنا كتلاميذ . إذا سلك المعلم طريقاً ، سلكنا طريقاً آخر ، وإذا تواجد في مكان ، لم نكن لنتواجد فيه سواءاً في أيام الدراسة أو في أيام الاجازات .  لقد نقشوا قواعد الللغة العربية في أدمغتنا كالنقش علي الحجر وعلمونا الصلوات والأخلاق والمثابرة والجد بلا مقابل .كان احترامنا لهم هو عماد العلاقة بيننا وبينهم ، وفي المقابل تعلمنا منهم ما يعجز الأبناء عن تعلمه في المدارس (الانترناشيونال) ذات الديكورات المبهجة والفواتير الكئيبة!!.

في كتاتيب بسيطة و مدارس حكومية مجانية تعلم جيلنا ، الغني والفقير تعلما في نفس المكان. لم نشهد هذا التمييز الصارخ وهذه الطبقية البغيضة وهذه الفواتير والتي ربما تعادل في قيمتها في مرحلة واحدة ما أنفقه جيلنا حتي مرحلة الماجستير والدكتوراه . في الحقيقة ليس عندي إحصائيات تقارن مخرجات التعليم في جيلنا والأجيال التي تلت من ضحايا الرأسمالية والإهتمام بالشكليات وإغفال المضمون . قد تغض الأسر الطرف عما تتكبده في تعليم أبنائها في كل عام إذا ما كانت النتائج مناسبة . لكن الحقيقة الغير مستندة إلي بحث ممنهج وتكتفي بتجربتنا الشخصية وبمن نستطلع آرائهم حول هذا الموضوع أن أولياء الأمور لا يرضون عن الفواتير ولا عن مستويات أبنائهم التعليمية .  
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز