عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
جنة نجيب محفوظ وجحيمه

جنة نجيب محفوظ وجحيمه

بقلم : د. عزة بدر

قراءة فى قصص نجيب محفوظ المجهولة.. «1»



 

أسرار عديدة حول كتابات نجيب محفوظ مازالت تؤرق الباحثين والدارسين لأدبه بل تدفع بالمزيد من الغموض، وتثير الأسئلة حول رحلته فى الكتابة، ومشواره الأدبى..من أهم تلك الأسئلة: لماذا حَوَّل نجيب محفوظ بعض رواياته إلى قصص قصيرة تنشر فى المجلات الأدبية الشهيرة .. لكنه لم يفكر فى جمعها فى كتاب؟ ألم يعترف أديب نوبل بكتاباته الأولى فى القصة القصيرة؟ وحتى عندما صدرت مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» لم يكن هو الذى انتخب قصصها أو اختارها للنشر لكنه ترك الاختيار للناشر والأديب عبدالحميد جودة السحار ليقوم بذلك.

ألا تمثل كتابات محفوظ الأولى بنية أفكاره وفلسفته ورؤاه حول قضايا الإنسان والوجود؟ فهل تغيرت تلك البنية الفكرية خلال تطور مشوار حياته الأدبى، لا يزال البحث عن الجذور والمنابع الأولى لأديب نوبل يشغل الباحثين والدارسين بل القراء والمحبين لأدبه.

• فيض قصصه القصيرة

وبصدور الطبعة الأولى من كتاب «قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر» للكاتب محمود على، التى صدرت حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تتجدد الأسئلة حول رحلة أديب نوبل الأدبية.

وقد جمع محمود على القصص التى كتبها محفوظ فى المجلات الأدبية فى بداية مشواره الإبداعى فى الفترة من «1932- 1946»، وقد نشرت فى مجلات: «المجلة الجديدة الأسبوعية»، ومجلة «الرواية»، ومجلة «الرسالة»، و«مجلتى» ومجلة: «الثقافة»، ومجلة «الساعة 12».

وقد سبق أن كتب د.عبدالمحسن طه بدر عن هذه القصص وأشار إلى أمكنة نشرها فى المجلات الأدبية فى دراسته الرائدة: «الرؤية والأداة- نجيب محفوظ».

ويعد جمع هذه القصص المتناثرة والمنشورة فى المجلات الأدبية خطوة مهمة لوضعها بين أيدى الدارسين، وإضاءة نصوص هذه القصص نقديا من شأنه أن يجلو لنا كيف تبلورت أفكار محفوظ وكيف تطور إبداعه مرحلة بعد مرحلة، حيث يبدو رحيق البدايات الأولى معطرا لكتاباته، وحيث المنابع الأولى تضع أيدينا على تطور إبداعه العبقرى ويجلو لنا أسرار تكوينه وتطوره «بل إن دراسة هذا الإنتاج والكشف عن طبيعته يعد كشفا لأهم حلقة من حلقات تطور الإبداع الروائى فى أدبنا العربى الحديث»، كما يقول عبدالمحسن طه بدر فى كتابه «الرؤية والأداة- نجيب محفوظ»، ص6.

بل إن هذا الفيض من الكتابات والقصص التى لم تجمع فى كتب قد لا تزيد الغامض وضوحا من كتابات محفوظ وأسرارها بل على العكس قد تزيد الواضح غموضا! كما يرى محمود أمين فى كتابه: «نجيب محفوظ: الرمز والقيمة»، إذ يرى أن كل قراءة جديدة بقدر ما تفك بعض مغاليق النص، وتفض بعض مستويات الالتباس فى شفراته تلفت الانتباه إلى مغاليق أخرى، وتومئ إلى التباسات مختلفة فتدفع إلى كتابة جديدة عنها، وعلى هذا يظل عالم نجيب محفوظ رغم كثرة ما كتب عنه فى حاجة إلى مزيد من الكشف».

• الرقيب الأول لأعماله!

ويرى محمود على فى كتابه أن محفوظ كان أكثر تشددا فى حرصه على عدم نشر أعماله الأولى، وكان الرقيب الأول فى هذا المنع.

ويكشف عبدالمحسن طه بدر فى كتابه «الرؤية والأداة- نجيب محفوظ» فى فصل بعنوان «القصة القصيرة بين التجريب وهمس الجنون»، أن أديب نوبل قد كتب فى بداياته عددا كبيرا من القصص القصيرة مزق منها خمسين، ونشرت الصحف نحو ثمانين، وأن ما نشر فى كتابه «همس الجنون» ثلاثون قصة وهو الكتاب الذى صدر عام 1947 لأن الطبعة الأولى من روايته «خان الخليلى» ظهرت عام 1946 أى أن نشر روايته سبق نشر مجموعته القصصية الأولى.

ويعترف محفوظ لعبدالمحسن طه بدر فى مقابلة له معه أن عام 1938 هو التاريخ الذى كان ينبغى أن تظهر فيه مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» وإن كان ذلك لم يحدث بالفعل فقد نشرت هذه المجموعة عام 1947 عكس الشائع عن صدورها- فى نهاية الثلاثينيات من القرن الماضى، والدليل على ذلك أن قصة «همس الجنون» نفسها نشرت لأول مرة فى مجلة «الرسالة» لصاحبها أحمد حسن الزيات عام 1945.

• روايات فى قصص قصيرة

كتب نجيب محفوظ المقال، والقصة القصيرة والرواية، وكان الناشرون أكثر ترحيبا بالمقال ثم بالقصة القصيرة، وتأخر كثيرا نشر الرواية.

وكان أديب نوبل قد بدأ تأليف الروايات قبل أن يتخرج فى الجامعة، وكان قد تجمع عنده ثلاث روايات لا أمل فى نشرها- على حد قوله- بعد أن طاف بها على جميع الناشرين، وفى عام 1939 نشر له سلامة موسى أول رواية وهى «عبث الأقدار» عام 1939 وفى سنة 1943 نشر له عبدالحميد جودة السحار الرواية الثانية «رادوبيس» وأثناء هذه السنوات كان قد كتب روايتين هما «كفاح طيبة»، و«القاهرة الجديدة».

ونظرا لرواج نشر القصة القصيرة فى الصحف فقد حَوَّل محفوظ أفكار رواياته إلى قصص قصيرة كما يقول محمود على نقلاًَ عن اعترافات محفوظ لجمال الغيطانى: «سألنى السحار لماذا لا تصدر مجموعة قصصية؟ قلت له: أى مجموعة الآن؟ لقد فات أوانها، أنا لم أكتب القصة القصيرة بهدف كتابتها، أنا كنت أكتب روايات ودرت بها على الناشرين الذين رفضوا نشرها، ولأننى كنت أريد أن أنشر فقد كتبت القصة القصيرة، هذا هو الدافع إلى كتابتها، ولاحظ شيئًا آخر هو أننى أخذت موضوعات بعض هذه القصص من روايات لى، بعض الناس قالوا إن قصصى القصيرة تحولت إلى روايات لكن العكس هو الصحيح» (محمود على: قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر) ص10.

• أزمة نفسية بسبب الحياة السياسية!

وفى هذه المقالة وما سيتلوها من مقالات أقدم قراءة فى هذه القصص المجهولة لنجيب محفوظ عسى ألا تزيد هذه القصص عالم أديب نوبل غموضًا كما يقول الناقد الراحل محمود أمين العالم، فمع كل قراءة جديدة لهذا العطاء الثرى تتجدد إشكاليات، وتتبدى أسرار يحسن أن نبدأها بالسؤال الجوهرى: كيف تعرف نجيب محفوظ على جنته وجحيمه فى عالم الأدب؟ وفى قصص البدايات الأولى كيف تشكلت ملامح هذا العالم الأدبى وأبدؤها بقصصه الفرعونية أو بصيغة أدق بالقصص التى استلهمها من الأدب المصرى القديم وهو العالم الذى شغل نجيب محفوظ أيضًا فى رواياته الأولى: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس».

لقد وضع أديب نوبل عينه الفاحصة على هذا الموروث فى الأدب المصرى القديم ليختار معالجة الاغتراب كقضية أولى شغلته فى مطلع شبابه وشكلت رؤيته لقضايا الإنسان.. مصيره، وحياته، وعواطفه، وتجاربه، وسلوكياته، وأخلاقياته وأخص بالذكر قصتيه: «عفو الملك أوسر كاف» التى نشرها فى مجلة «الرواية» أول ديسمبر عام 1938، وقصته: «عودة سنوهى»، التى نشرها فى مجلة «الثقافة» فى 15 يونيو 1941.

ومن شهادة لمحفوظ نُشرت فى مجلة «الكاتب» عدد يناير 1963 بعنوان: «رحلة الخمسين مع القراءة والكتابة»، وأوردها د.عبدالمحسن طه بدر فى كتابه «الرؤية والأداة» ص33: فيقول محفوظ:

«عادل كامل وزكى مخلوف وأنا كنا نعانى من أزمة نفسية غريبة جدًا طابعها التشاؤم الشديد، والإحساس بعدم قيمة أى شىء فى الدنيا، كنا كأبطال كامى «الأديب الفرنسى الشهير»، قبل أن يكتبهم، ولعل منشأ هذه الحالة راجع إلى تبلور كل هذه الصفات فى حياتنا السياسية وقتذاك فكدنا ننتهى إلى أن كل جهد يُبذل ضائع تمامًا ولا قيمة له، ولن يفيدنا أو يفيد أحدًا من أبناء بلادنا، وزاد من إحساسنا بهذه الأزمة أننا تقدمنا، أنا وعادل كامل بروايتين إلى مسابقة المجمع اللغوى فرفضنا لأسباب أخلاقية، كان السؤال الذى نسأله لأنفسنا دائمًا: لماذا نكتب؟ وكنا مجمعين على أن الكتابة عبث، والنشر عبث،  والرغبة فى الكتابة يجب أن تعالج على أنها مرض، غاية ما فى الأمر أن صديقيَّ اعتبرا أنهما شُفيا ومازالا إلى اليوم يدعوان لى بالشفاء!».

.. كان الاحتلال البريطانى الجاثم فوق صدر البلاد حينذاك هو الذى دفع الكتاب والأدباء وقتها إلى هذا الاحساس بالاغتراب الذى جلاّه محفوظ بقصصه ورواياته، والتى عاد بها إلى الجذور، إلى المنابع الأولى، إلى الأدب المصرى القديم، وأن نظرة متفحصة إلى قصتيه:

«عفو الملك أوسر كاف» و«عودة سنوهى» لتكشفا بصدق عن عمق الأزمة الداخلية التى عانى منها محفوظ وأبناء جيله، وحاول أديب نوبل أن يغالبها بالبحث عن خلاص فى خبرات وعهود التاريخ بالعودة إلى المنابع الأولى واستلهامها والرغبة فى استقراء مجالى التراث خاصة الفرعونى، واستكناه حكمته الأمر الذى بدا فى أعماله القصصية والروائية الأولى.

وفى القصتين نرى ملامح اغتراب بطليها ووطنيتهما وعشقهما لمصر، الأول الملك أوسر كاف «وقد استلهم محفوظ هذه القصة من حكاية الملك أوسر كاف أجل ملوك الأسرة الخامسة وأعظمهم شأنًا وله هرم باسمه فى سقارة»، وقد استلهم محفوظ قصة الصراع على السلطة التى كانت ملمحًا من ملامح عهد هذا الفرعون على الرغم مما تمتعت به البلاد فى عهده من رخاء وعلاقات وطيدة مع جيرانها من البلدان الأخرى، وكان الصراع من داخل الأسرة الملكية نفسها، وفى قصة أديبنا صوَّر هذا الصراع الذى جعل الابن يستولى على السلطة حال سفر أبيه إلى بلاد «بُنت»، وتنكر حاشيته وأعوانه له خضوعًا للسلطة الجديدة أزمة داخلية دفعت بالملك أوسر كاف لمواجهة مصيره حيث تكالبت عليه ظروف خارجة عن إرادته أهمها «فى قصة محفوظ» ما كان من خيانة ولده ووزرائه فى غيبته، وظروف داخلية تمثلت فى ثقته الزائدة فيمن حوله اطمئنانًا لما حققه للناس من عدل كانوا يحلمون به.

وهنا تحققت عوامل هزيمة بطل القصة من عوامل داخلية وأخرى خارجية، وفى القصة رمز واضح لأزمة السلطة وفيها بحث عن معايير الحاكم الرشيد، وملامح البحث عن بطل مُخلِّص، وفى قصة أديبنا إشارة إلى أن تخلى الحاكم لغيره عن مهامه الرئيسية قد يعزله عن حكمه وعن شعبه، ويأتى عفو الملك أوسر كاف عن خصومه- بعد حربه لاستعادة سلطته- عفوا مطلقاً فقد تجلت فى ذاته مثالية البطل التى كانت سببًا فى مأساته وفقد عرشه لترينا الوجه الآخر لهذه المثالية فى نهاية مفتوحة ربما قصدها محفوظ، وأراها قد تكون سببًا يؤدى إلى نفس النتيجة من جديد وإمكانية وقوع الهزيمة مرة أخرى وهو الخطأ الذى حاول أوسر كاف أن يتجاوزه ليحقق انتصاره، وأتى كفاحه وجاءت حربه ليستعيد عرشه ويحرره من أيدى غاصبيه، ويستشرف محفوظ هذه النهاية بصورة غير مباشرة فيفضى إلينا بحديث الملك أوسر كاف إلى نفسه، وآلام الذات التى استوعبت التجربة أو المحنة لكنها لم تبرأ من آثارها العميقة ويأتى الحوار بين أوسر كاف وابنه دالاً ومعبرًا عن محنة الملك مع ابنه الذى يقول له:

- «ماذا جئت تفعل هنا أيها الرجل الذى أعطته الآلهة ملكًا واسعًا فتهاون فى حقه وذهب يلهو فى بلاد بُنت؟!» بل هدد أباه بالنفى إلى النوبة، ويصوَّر محفوظ هنا قسوة الصراع على السلطة بين الابن وأبيه الذى حارب من جديد لاستعادة عرشه، ويبدو هنا أوسر كاف نموذجًا للبطل الذى طعنته الخيانات فى الظهر، وأحاطته الاتهامات الباطلة من كل اتجاه، ويمثل انتصاره من خلال رؤية محفوظ الفنية والجمالية استشرافًا للبطل الذى يمكن أن يحقق الخلاص لأمته، لكن مرارة حديث  الملك أوسر كاف التى يُنهى بها محفوظ قصته تشى بنوع من التسليم للأمر الواقع، وتنتهى ببطل القصة إلى نوع من المثالية فى مواجهة خصومه قد تجدد الصراع من جديد كأنها رؤية استشرافية مُنذرة إذ يُسْأَل الملك أوسر كاف: «أتعفو يا مولاى» عمن اغتصب عرشك، وطردك من مملكتك بلا رحمة؟، أتعفو عنهم يا مولاى ولايزال عالقًا بأيديهم أثر الدم الذى سفكوا فى قتالك؟

فابتسم الملك وقال بتهكم: «من لى بولى عهد جديد أو قائد أبرع من «سمنرى» بل ياليت الملكة «تاى» لم تسرع فى القضاء على نفسها إذا لأجلستها إلى جانبى على هذا العرش مرة أخرى، أما الإخلاص فقد أمسيت أسىء الظن بجميع البشر، وإن جميع الناس ليأووا إلى ظل الشجرة المورقة فإذا عراها جدب الشتاء هجروها غير آسفين، ولن يجدينى قتل هؤلاء فتيلاً، كلا ولن يبدلنى بهم من هم خير منهم!!» وتعكس هذه النهاية من وجهة نظرى تلك النزعة التشاؤمية التى كان يستشعرها محفوظ والمثقفون فى هذه الفترة بسبب الحياة السياسية وما سببته للبلاد من اضطراب، واليأس من التغيير، فحتى مع انتصار أوسر كاف فلا يزال الصراع على السلطة مُهددًا ولايزال الخطر بالبلاد متربصًا وكامنًا.

• عودة سنوهى 

 فإذا انتقلنا إلى القصة  الثانية فى مجموعة القصص المجهولة التى نشرت فى المجلات الأدبية ولم يجمعها محفوظ فى كتاب  وهى ضمن القصص التى جمعها محمود على فى كتابه (قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر) فإننا نرى أزمة الاغتراب تتكرر، وتتردد أصداؤها فى كتابات محفوظ المبكرة وخاصة فى قصته : (عودة سنوهى) ولعله أول مغترب فى تاريخ الإنسانية وقصته شهيرة فى الأدب المصرى القديم، وهى قصة واقعية للأمير سنوهى العاشق لبلاده الذى أخلص لها بصدق، ولكن عندما توفى أبوه الفرعون الحاكم هرب (سنوهى) خوفا من بطش أخيه الذى تولى الحكم بعد أبيه، ورغم وطنية (سنوهى) وما بذله لبلاده فإنه يقع فى أزمة تشابه تماما ما حدث للملك أوسر كاف، فكلاهما تتكالب عليه أزمته الداخلية.. عوامل تفكيره وخياله وإحساسه وطريقة قياسه للأمور، والاستدلال الناقص الذى يفتقر إلى حنكة التجربة وكأن الأزمة تكرر نفسها الثقة الزائدة فى الآخرين.. سبب مأساة الملك أوسر كاف وركونه لمعاونيه ومقلوب الصورة وعكسها فى قصة (سنوهى) فقد دفعته أزمة الثقة فى أخيه، وفى تخيله لمدى تأثير السلطة والمنصب عليه ففر من بلاده خوفا من تسلطه مضحيًا بمكانته ونفوذه، وحبه للأميرة التى أصبحت ملكة البلاد بعد ذلك، وتتردد أنشودة الغربة والحنين إلى الوطن فى نفس (سنوهى) لتمس القلوب بشجنها، وعمقها فى المحبة إذ يقول فى قصة محفوظ : (ابتليت بالغربة، وتقاذفتنى الأهوال والمخاوف وامتحنتنى الشدائد ثم تمتعت بالحب والأبناء وذقت المجد والسعادة ثم أدركنى الكبر والعجز فنزلت عن السلطان لأبنائى، وقفلت إلى خيمتى أنتظر الموت، وفى عزلتى انتابتنى الآلام، واعترتنى الأحزان فذكرت مصر الجميلة، ومراتع الطفولة والشباب فهاجنى الشوق، وغمز الحنين قلبى، وتخايلت لعينى مشاهد النيل والخضرة الناضرة، والسماء الزرقاء والأهرام العالية والمسلات السامقة، وأشفقت أن يلحقنى الموت فأودع أرضا غير أرض مصر فبعثت إلى مولاى رسولا، وشاء عطف الله أن يعفو عنى، ويرحب بى، ولست أطمع فى غير ركن هادئ أقضى به شيخوختى حتى إذا جاء أجل (سنوهى) فليُدفع إلى المحنطين، ويودع تابوته كتاب الأبدية ومرشد الموتى، ولتنح عليه نائحات مصر بسجعهن الشجى.

• الفن حياة لا مهنة

وإذا كان علينا الآن أن نطرح رؤية بعض النقاد لهذا الاتجاه فى الكتابة عند محفوظ فى بداياته من اللجوء إلى التاريخ المصرى القديم فى قصصه ورواياته فإننى أرى أن محفوظ كانت تؤرقه الحياة السياسية فى مصر وأن الاحتلال الجاثم، وموقف السلطة الملكية، والصراعات داخل القصر حينذاك كانت مؤرقة لخياله  جسدها محفوظ من خلال شحصياته فى القصة والرواية، وقد خضع فيها لمقتضيات الفن فى معالجة شخصياته وترك لها التصرف وفق نزعاتها وبنائها النفسى والاجتماعى والظروف المحيطة بها فلم يفرض وجوده أو رأيه مهيمنا عليها إلا بالإشارة البعيدة واللافتة كما فى حديث الملك أوسر كاف إلى نفسه وسائله.

 ولكن بعض الرؤى النقدية ظلمت نجيب محفوظ فقد رآه على سبيل المثال عبدالمحسن طه بدر : فى كتابته لروايات تاريخية مثل رواية (رادوبيس)، لا يعدو أن يكون مقلدا لسلسلة روايات جورجى زيدان، وذكر أنه فى لقاء له مع نجيب محفوظ طرح عليه عجزه عن تبين الدلالة السياسية التى كثر حديث النقاد عنها فى رواياته التاريخية (عبث الأقدار) و(رادوبيس) وبخاصة ما يتصل منها بما يُزعم عن حملته بأسلوب غير مباشر فى رواية (رادوبيس) على الملوك الفاسدين وعلى الملكية، وأن محفوظ وافقه على قوله : (إن هذا الكلام يبدو أشبه بفروض مسبقة فرضها النقاد من خارج الرواية).

ولكن قصص نجيب محفوظ القصيرة ومنها ( عفو الملك أوسر كاف)، وقصة ( سنوهى) هما دليلان جديدان على انشغال نجيب محفوظ منذ بدايات كتاباته الأولى بالحياة السياسية فى مصر، وأنه ظل طوال الوقت يكتب  وعينه على تجليات المشهد السياسى فى مصر، وأنه خضع لحكم الفن فى كتابة شخصياته فأسلمها لحقيقة اغترابها، ولنزعة تشاؤمية أخذت بلبه بسبب فساد الحياة السياسية وقتها فكان بالفعل مثل أبطال (كامو) كما اعترف محفوظ  نفسه، وأنه لم يخضع لمعايير النقاد ولا لتفسيراتهم لرواياته بدليل موافقته على أن هناك رؤى نقدية أشبه بفروض مسبقة فرضها النقاد على أدبه.

ولكن نجيب محفوظ الذى أطلق لشخصياته العنان وحرية  التصرف حسب مقتضيات أحوالها خضوعا لشروط الفن لم يكن مستسلما كأبطال كامو للاغتراب والنزعة التشاؤمية فقد قاوم هذه النزعات بدليل ماقاله فى حوار سجله جمال الغيطانى  فى كتابه : ( نجيب محفوظ يعترف) :

• أتعَلم ما الذى جعلنى أستمر ولا أيأس ؟

 لقد اعتبرت الفن  حياة لا مهنة، فحينما تعتبره مهنة لا تستطيع ألا أن تشغل بالك بانتظار الثمرة، أما أنا فقد حصرت اهتمامى بالإنتاج نفسه وليس بما وراء الإنتاج، كنت أكتب لا على أمل أن ألفت النظر إلى كتاباتى ذات يوم، بل كنت أكتب معتقدا أنى سأظل على هذا الحال دائما).

هذه الشهادة التى أوردها محمود على أيضاً فى كتابه ( قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر)، وهو الكتاب الذى جمع القصص المجهولة التى نشرت فى المجلات الأدبية متناثرة والآن نعيد قراءتها نعيد قراءة ما تأججت به نفس أديبنا، وما توثبت له روحه من معان، وقيم، وما اصطخب فى خياله من أفكار وشخصيات صوَّرها فى قصص هى الآن ثروة بين أيدى الدارسين، ثروة أدبية من شأنها أن تعيد النظر فى قراءة بعض النقاد لأدبه، ومن شأنها أن تقودنا فى عالم نجيب محفوظ وتعرفنا بجنته، وجحيمه!

ما تنعم به من أفكار وتصاوير وأخيلة وما تعكسه من ذات نفسه، وما شقى بتصويره من عذابات وخيالات وبأساء من خلال أبطال قصصه.

إن قراءة جديدة لهذه القصص المجهولة لتكشف أسرارا فى عالم كتابات نجيب محفوظ.

 وإلى حلقة أخرى قادمة

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز