عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
مظاهرة غيرت مسار حياة نجيب محفوظ

مظاهرة غيرت مسار حياة نجيب محفوظ

بقلم : د. عزة بدر

قراءة فى قصص نجيب محفوظ المجهولة.. «2»



مظاهرة أدبية غيَّرت مسار حياة نجيب محفوظ !، شخصيات روائية أقنعته , أن يسير معها فى رحلة  لاتنتهى هى رحلة الأدب , وكان محفوظ قد تخرج فى كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1934 , وكان قد قرر تسجيل موضوع الدراسة لنيل درجة الماجستير عن ( مفهوم الجمال فى الفلسفة الإسلامية ) تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق , لكنه حسم أمره بعد كتابات ومقالات عديدة عن الفلسفة نشرها فى المجلات الأدبية منذ ثلاثينيات القرن الماضى، حسم أمره بالسير فى المظاهرة الأدبية التى غيَّرت مسار حياته، تلك المظاهرة التى عبر عنها بقوله : (وجدت نفسى فى صراع بينهما (بين الفلسفة والأدب)، صراع لا يمكن تصوره إلا لمن عاش فيه، وكان عليَّ أن أقرر شيئا أو أجن، كانت فى ذهنى تظاهرة من أبطال (أهل الكهف) الذين يصورهم توفيق الحكيم، والبوسطجى الذى رسمه يحيى حقى، أو الفلاح الصغير الذى لا يعرف من الدنيا أبعد من حدود عيدان القصب المنتصبة على حافة الترعة فى رواية (الأيام) لطه حسين، وأشخاص كثيرين من أبطال قصص محمود تيمور كلهم كانوا يسيرون فى مظاهرة واحدة، وقررت أن أهجر الفلسفة، وأسير معهم)!

 (وقد سجل يوسف الشارونى هذا الاعتراف فى كتابه (رحلة عمر مع نجيب محفوظ).

 وقد صَوَّرت قصصه المجهولة أيضا عشقه للأدب، ورصدت أولى خُطاه فى عالمه الأثير، بل ربما صوَّر نجيب محفوظ صوت نفسه، وأصداء ذاته، ووصف مشاعره تجاه عالم الأدب من خلال قصته (حكمة الحموى) والتى نشرها فى مجلة (المجلة الجديدة الأسبوعية) فى 18 مارس 1936، وهى ضمن القصص التى أشار لها عبدالمحسن طه بدر فى كتابه (نجيب محفوظ الرؤية والأداة)، وجمعها محمود على فى كتابه: (قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر)، ص 87
• (حكمة الحموى)
ولعل قصته (حكمة الحموى) هى أكثر قصص البدايات تمثيلا لنجيب محفوظ نفسه، والأكثر تعبيرا عن رؤاه ووجهة نظره فى الأدب.. ماهيته؟.. كيفية الوصول إلى جوهره؟، قربه أو بعده عن الحقيقة وأوهام الخيال، بل إن المشاعر الداخلية التى عبرت عنها هذه القصة هى أقربها اتصالا بالعالم الداخلى للنفس القلقة المبدعة لنجيب محفوظ، فهو على لسان بطله الأديب (فاضل الحموى) يعبر عن هذا القلق الإبداعى الذى ساوره كمبدع، وظل يوتره ويحفزه ويؤرقه طوال رحلته الإبداعية وهو ما يفسر أيضا لماذا لم يكن نجيب محفوظ راضيا عن نشر الكثير من أعماله القصصية بل مزق بعضها. فيقول بطله فاضل الحموى: (كنت أظن يا صديقى أن ما كتبت من نحو عشرين عاما ينفع أن يكون مقدمة جميلة لعملى الفنى الذى أحلم به ولكن واأسفاه أرى الآن أن أهمل هذا الأثر الذى خلفته حياة الشباب لأنه ما عاد يصلح فى نظرى لأن أضمنه فى مؤلف أدبى أزعم له الكمال). ص90

ونرى أصداء هذه المشاعر القلقة التى استمرت تصطرع فى نفس محفوظ منذ بدايات رحلته الأدبية، وظلت تؤرقه طوال الوقت حتى فى أحلام فترة نقاهته والتى سجلها فى كتاب بعنوان : (أحلام فترة النقاهة) والذى صدر عام 2004 فى طبعته الأولى عن دار الشروق فيقول محفوظ فى:
حلم 2002:

(تأبطت الجميلة الشابة ذراعى، ووقفنا أمام بياع الكتب الذى يفرش الأرض بكتبه، ورأيت كتبى التى تشغل مساحة كبيرة، وتناولت كتابا، وقلًّبت غلافه ففوجئت بأنى لم أجد سوى ورق أبيض فتناولت كتابا آخر، وهكذا جميع الكتب لم يبق منها شىء، واسترقت النظر إلى فتاتى فرأيتها تنظر إليَّ برثاء)ص117

• البحث عن الكمال !
ولقد ظلت هذه الفكرة المثالية (البحث عن الكمال) تؤرق أديب نوبل منذ بداياته أيضا وهى النقطة التى دار حولها الحوار بين بطليه (فاضل الحموى) الكاتب الأديب، ومحمد الحارث الشاعر الذى يعيش بإحساسه الوقتى ويكتب أشعاره بنت لحظتها! بينما يعكف الحموى على تأمل أعماله وتمحيصها وتدقيقها ولا يكاد يقبل نشرها بل يتركها لكى تختمر وتترسخ.

فيقول له الشاعر: (لعلك بلغت قمة الحكمة وتكشفت لك خفايا الحقيقة بعد إفناء هذا العمر الطويل فى البحث والاطلاع، وما عليك الآن إلا أن تنظم جواهر أفكارك وتعرضها على الناس فحرام عليك أن تبخس نفسك نصيبها وأن تهضم الناس حقوقها فما قولك ؟

فابتسم الآخر ابتسامة هادئة ساخرة وقال: (ينقصنى أن أومن بأن ما كتبت حكمة تستحق الذيوع والحفظ من الاندثار لكى أنشرها على الناس).
فدهش الآخر وقال متسائلا:

(ولكن لم يبق فى العمر ما لعله يصحح فلسفتك وينتج الكمال الذى تروم ؟)

 فيجيب فاضل الحموى: (وهذا ما يزيدنى أسى وحزنا على عمر ضاع هباء، وآمال، تكشف عن أوهام)

 لقد ظل محفوظ مؤرقا بين جنته وجحيمه.. الحقيقة التى رغب بها رغبة العابدين والحب الذى رآه غاية القلوب، والخير الذى هو أحد قيم الحق والجمال الذى تنادى به الفلاسفة، فشقى باكتشافه أن كل ذلك لم يتحقق وكأنه يطارد سرابا، وهو ما يذكره بطله (فاضل الحموى) : (سلكت ما أعلم ويعلم الناس أنه السبيل إليها ثم تأملت نفسى لأرى أى حد بلغت فألفيتنى على بعد لم يتغير منها، ومثله لم يبعد عن الجهل فكأنما كنت أدور فى محيط هى مركزه الثابت فلو أنى تشككت فى الحقيقة ذاتها لما كنت متشائما ولا مبالغا، وقد رغبت فى ذلك الخير وتوخيت سبيله وآمنت به ولكنى أشك فى أنه ليس أكثر من وهم كالحب المجنون سواء بسواء فالناس مختلفون فى سلوكهم ومثلهم العليا، وهم على اختلافهم هذا لا يهتدون بهدى ما به يؤمنون، وإنى الآن أتأمل فلا أظفر بالإيمان، ولا أجد فى قلبى واأسفاه إلا السخرية والضحك من كل شىء كأنما داخلنى خبل أو مسنى جنون)
وهنا صفق الحارث بيديه الهزيلتين وصاح: (أحسنت، وانتهيت إلى ما بدأت به ووجدته ممتعا لذيذا فعليك بهذا، واكتب ساخرا مما كتبت وأنت به مؤمن، واجمعه فيكون لديك أدب ثمين ممتع لا ريب فيه) ص92

وفى ظنى أن نجيب محفوظ كان يعبر عن نفسه من خلال بطله (فاضل الحموى) الذى يبحث عن إيمان حياته، عن جنته وفردوسه المفقود تماما كما الكاتب الروسى تشيكوف الذى كتب محفوظ مقالة مهمة عن حياته، ونشرها فى مجلة (السياسة الأسبوعية)، وقد قسم حياته إلى فترتين، الأولى كانت جحيم الكاتب لأنه لم يكن متفرغا لفنه، وفاقدا فيها لإيمانه، أما الفترة الثانية فكانت جنته لأنه تفرغ للفن، وعاد إليه نوع من الإيمان، ورأى أن فترة النعيم فى حياة تشيكوف هى الفترة التى نبذ فيها الأمور التافهة فى الحياة والمشكلات الشخصية وعاش خالصا لوجه الفن، شاهدا نزيها فقط، ليس حرا، ولا محافظا، ولا مصلحا لكن فنانا فقط، وفى النهاية اهتدى تشيكوف إلى الإيمان، وكان إيمانه بالإنسان).

وقد أورد عبدالمحسن طه بدر مقاطع من هذه المقالة المهمة فى كتابه (نجيب محفوظ - الرؤية والأداة)

وهذا الإيمان بالإنسان هو الفكرة الأساسية التى دار من حولها أدب محفوظ، وهو اليقين الذى تمسك به بطله (فاضل الحموى)، ورآه يمثل قوة البصيرة والنفاذ إلى حقائق الكون وخفايا النفس البشرية فيقول لصديقه الحارث (الشاعر): (جوهر الحياة وأسمى ما فيها هو العقل، والفكر هو الذى ينفذ إلى حقائق الأشياء، ويبدع أسمى المعانى، وهو أساس التدبير العملى فى حياة الإنسان العملية، فليهبنى الله من عنده قوة بصيرة ونفاذ رأى لأستجلى حقائق الكون، وخفايا النفس وقواعد السلوك، وهذا هو الجدير بالتسطير ثم النشر، وهو ما يعزينى عما ضيعت من عمر وعمل، ولا ضياع أو خسران مادمنا نتعلم الحكمة، ونزداد صبرا لسبر غور العرفان والتجارب).

وهذا الطرح هو ما يؤمن به نجيب محفوظ نفسه عندما يقول: (عندما اخترت الأدب كان اختيارى حتميا، كان اختيار حياة، ولم يكن ثمة تردد، وكان لابد من الاستمرار والمثابرة أيا كانت النتائج وقد أقدمت على العمل الأدبى، وآمالى فيه ليست كبيرة مثل عادل كامل لذلك لم تكن الخيبة حادة بالنسبة إليَّ، كانت علاقتى بالفن علاقة حب، وحياة أشبه بالتصوف، وإذا أردت أن تضيف إلى هذين السببين سببا ثالثا فهو أننى كنت تلميذا مجتهدا، وأنك تستطيع أن تنسبنى للعمال الذين بنوا الأهرام، وليس للمهندسين الذين اجتنوا الثمار).

وهى الشهادة التى أدلى بها محفوظ لصبرى حافظ عن مصادر تجربته الإبداعية ومقوماتها، ونشرها بمجلة (الآداب) عام 1973 وقد أوردها عبدالمحسن طه بدر فى كتابه (الرؤية والأداة)

• الحلم بالأدب الكامل !
وقد ظلت فكرة الوصول إلى الكمال معبرة عن ذات الفنان بداخل نجيب محفوظ الذى يبحث عن الصدق، والكشف عن حقيقة الإنسان وجوهره وقد صوَّر كاتبنا هذه الطبيعة القلقة، والمتوثبة فى نفس بطله (فاضل الحموى) فجعله يخشى جمع أعماله الأدبية لأنه يحلم بإنتاج الأدب الكامل ويعبّر عن هذا القلق الروحى، ومشقة البحث عن أسمى المعانى، ورحلة السعى نحو جوهر الأدب وماهيته عند الفنان، فيصف بطله (فاضل الحموى) وما يصطرع داخل نفسه من أفكار : (استأنف حياته الأدبية بالاطلاع على تحف الأدب الغربى فاتسعت آفاقه، وصقل ذوقه، وأرهفت بداهته، وعاودته ذكرى تلك الأوراق القديمة التى تحفظ له أبهج ما زان حياة الشباب المنطوى فلج به الشوق إليها ونشرها بين يديه بعد عشرين عاما، وجرى بصره بين سطورها فأيقظت فى قلبه حلو الذكريات، واهتزت نفسه بعاطفة حنين وسرور حزين تخفق به قلوبنا كلما لاحت لها ذكرى من ذكريات العمر المنقضى وبعد أن ارتوى منها عقله وغلبه تذكر مثله الأعلى أن يجعل من العمر كله موضوعا فنيا رائعا كاملا يصحح بعضه البعض الآخر، ويسمو آخره بأوله، وطرح على نفسه هذا السؤال.. هل يتم ما بدأه ؟! لكنه ألفى نفسه غير راضٍ عن مؤلفه الأول رغم ما يحفظ له من عطف وود، ولعله عطف عليه كما نعطف نحن على عبث طفولتنا، وأهوائنا الخرقاء بها من غير أن يعدو عطفنا إلى الإعجاب أو الإيمان، ورأى أن العمل المجيد الكامل يجب ألا يحوى أوهام الحب وجنون الشهوة وأُلهيات المرأة التى تثير فيه الابتسام على سذاجته حين ذاك، وجنون أخيلته).

وربما يفسر هذا الطرح عدم رضا محفوظ عن جمع قصص البدايات فى كتاب، وتمزيق بعضها، وإهمال الكثير منها، فقد كان يبحث عن نقطة الكمال، وقد ظل هذا يؤرقه فكتب ما استطاع، وكان إبداعه غزيرا، ولعله ما بلغ أفقا حتى جاوزه ليبلغ آخر وما تسلق ذروة إلا تطلع إلى سواها، وما أمسكت يده بكوكب حتى مضى يطارد كواكب أخرى، ونجوما أشد التماعا وبريقا، ولعل ذاك هو طريق الأدب كما صوًّره واجتلاه بل إن رأيه جاء صريحا فى ختام قصته (حكمة الحموى) معلقا على فلسفة بطله (فاضل) الذى يخشى جمع أعماله الادبية لأنه يحلم بإنتاج الأدب الكامل فيقول محفوظ منهيا القصة بحكمته هو:

(وهكذا لم نعرف من حكمة فاضل إلا أنه لم يؤمن بالحكمة)! ص93

وكأنه أراد أن يؤكد المثل القائل: (ترك الحكمة أحكم)!

الأمر الذى دفعه إلى المزيد من الكتابة وهو يأمل أن يصل إلى حلمه المستحيل، وفى بلاغة وفطنة يؤكد هذا المعنى فى مقولة بطله الحارث الناصح الأمين لصديقه الكاتب: (كأنه يسجل الصوت الداخلى لنجيب محفوظ الحاضر فى القصة):

(اكتب ساخرا مما كتبت وأنت به مؤمن، واجمعه فيكون لديك أدب ثمين ممتع لا ريب فيه): ص 92
فكما أدرك كاتبنا فى دخيلة نفسه أن إدراك الكمال فى الفن أمر مستحيل لكن السعى إلى إدراكه وتحقيقه هو غاية الأديب والفنان، حيث المتعة فى طريق الرحلة، وسبل الصعود، والوصول إلى الذُرى، وهى الفكرة التى سجلها محفوظ فى كتابه (أصداء السيرة الذاتية) حين يقول:

• الكمال
قال الشيخ عبدربه التائه: الكمال حلم يعيش فى الخيال، ولو تحقق فى الوجود ما طابت الحياة لحى : ص 138
قصص نجيب محفوظ المجهولة، تلك التى لم يتحمس لجمعها فى كتاب فى رحلة بحثه عن الكمال أو الأدب الكامل الذى كان ينشده، ويبتغيه، هذه القصص هى ثروة أدبية لدراسة تطور فكر وفن نجيب محفوظ (رغم أن الكثير من النقاد على حد تعبير د. حمدى السَّكُوت لا يعترفون سوى بالمرحلة التاريخية لنشره الروايات الثلاث، فى حين أن نجيب محفوظ نشر أكثر من سبعين قصة قصيرة شملت موضوعات مختلفة لو أنها جمعت فى كتب لصدرت فى ثلاث أو أربع مجموعات قصصية)
(محمود على: قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر) ص 13

• فى سحر المنابع الأولى
إن قراءة جديدة لهذه القصص من شأنها أن تكشف أسرارًا فنية جديدة فى كتابات نجيب محفوظ، حيث تكونت فى سحر منابعها الأولى، وتوهجت بذورها وجذورها على مهل، وتبقى كوثائق أدبية تؤرخ لحياة وفن نجيب محفوظ، بل هى وثائق لدراسة تاريخ فن القصة الذى حفظته لنا المجلات الأدبية ثروة من كلمات، ومعان، ورؤى وإبداعات لكبار كتابنا فأسهمت فى التأريخ للأدب والأدباء.. وإلى حلقة قادمة، وقراءة جديدة فى قصص نجيب محفوظ المجهولة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز