عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
بدوى والمشخصات الأخلاقية

بدوى والمشخصات الأخلاقية

بقلم : د. عصمت نصار

2- ليست الحرية في الإباحية



لم يختلف بدوي عن سابقيه من المجددين والمستنيرين في وضع قضية الأصالة والمعاصرة أو القديم والجديد على رأس برنامجه الإصلاحي. فنألفه يناقش هذه القضية في سياق روايته وعلى لسان أبطالها بأسلوب أقرب إلى الوعظ المستتر منه إلى التوجيه المباشر. ويبدو ذلك في حديثه عن المواخير والمراقص وبنات الهوى وموسيقى الجاز وذلك على نحو استقرائي، الأمر الذي يضفي على حديثه مسحة علمية ليست وليدة حكمة القدماء بل هي نتاج التجربة والممارسة الوجودية. كما يحاول مفكرنا الربط بين النقد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي في سياق واحد وذلك بنسيج حريري من صنع الأحداث والحوارات التي تدور بين أبطال الرواية، وذلك ليثبت أن الحرية التي ينشدها لا تعني جحود قناعات الهوية، حتى لو كانت مستمدة من القيم التليدة، وأن التقليد غير الواعي يعد كذلك خيانة لهذه الحرية وتضحية بتفرد الهوية، حتى لو كان هذا التقليد للفلاسفة الوجوديين الأوربيين. فها هو يقارن بين أذواق الشيوخ وميول الشباب، وذلك عند حديثة عن (موسيقى الجاز) تلك التي ذاعت في هذه الحقبة ولاسيما في المراقص ودور اللهو. والغريب أن نجد بدوي ينتصر للموسيقى الكلاسيكية والألحان السيمفونية والموسيقى الآلية التعبيرية التي تحوي ألحانها نغمات تحفز على التأمل وتعمل على تهدئة الأعصاب، والخفيف منها يفتح الآفاق أمام العقل للتخيل والإبداع. ذلك على الرغم من أن الموسيقى الصاخبة ذات الطبول العالية والأصوات النحاسية الحادة والنغمات المثيرة التي تصدرها الأبواق كانت مفضلة عند شبيبة الوجوديين في أمريكا وأوروبا ثم انتقلت لتغزو مزاج الشباب المصري ، غير أن مفكرنا وعلى غير المتوقع يذمها ويصرح بأنه يصعب عليه تذوقها لأنها مجرد إيقاعات منغمة تخاطب البدن وتثير الشهوات وتحفز على العنف وكل ذلك لا يتفق مع السمات الأساسية للموسيقى المتمثلة في الفلسفة التجريدية التأملية. ويقول في ذلك على لسان بطل القصة الذي زار المراقص لأول مرة: "وأقبل الراقصون أزواجا أزواجا يرتعدون من حمى هذه الموسيقى: أما كثرتهم فقد دُفعت إلى الرقص تحقيقا لشهوة المخاصرة والالتصاق بين الأبدان الناعمة والخشنة ، فلا هم لكل منهم إلا أن يضغط على مراقصته بكل ما في جسمه من خلايا وأن يضم نهودها البارزة إلى صدره المبهور الأنفاس عله يستريح إلى ذلك الشاطئ الزاخر بالشبق المتحدي ، فتراه مشعث الشعر مستهل العرق الدافئ قد لعب الدوار بكل كيانه كأنه درويش يدير رأسه باستمرار ، وفريق قليل استبدت به النشوة الحيوانية فبسط ذراعيه ولم يعد يمسك من مراقصته إلا بأطراف الأنامل وكلاهما في دوامة من الأبخرة الشهوانية تتصاعد من كل خلية في أبدانهم".

وقد راعه كذلك تلك الحركات الجنسية الرخيصة التي يمارسها راقصو التنجو ليطفئوا شهوة العشق المنبعثة من أجسادهم ، ذلك فضلا عن إغراءات بنات الهوى في المواخير والبارات. ويربط بدوي بين سلوك الغانيات اللواتي يلقين بشرفهن لمن يدفع الثمن وأولئك الذين يخونون أوطانهم ويبيعون أهاليهم وبنى جلدتهم  للساسة المستبدين الذين بطبيعة الحال سوف يمنحونهم الجاه والمال وبعض السلطات ويقول: "بدوي أنا أعرف مِن هؤلاء الرجال لا يرتكب كل يوم تقريبا نفس الإثم الذي يقترفون به تلك الأثمة الملعونة فيما يظنون؟ تقولون إنها تتملق شهوات الرجال كيما تستولي على ما في أيديهم وأنا أقول لكم وهل تفعلون أنتم غير هذا حينما يتملق كل منكم هوى كل من بيده سلطان أو مال أو جاه أو أية منفعة من المنافع التي تتطلعون إليها في كل آن" .... فلست أدري لماذا يسمح الناس للممولين والسماسرة وأساطين الصناعة والزراعة والتجارة أن يستغلوا المستهلكين والعمال أسوأ استغلال دون أن يؤدوا في مقابل هذا عمل يذكر أو يحققوا لهم فائدة تتكافأ والجهد الذي يبذله هؤلاء" ... "وليست الدعارة مقصورة على الناحية الجنسية في مظهرها الخارجي بل تمتد إلى النواحي الخلقية والأدبية والسياسية وكل مرفق من مرافق الحياة".

ويرفض بدوي ربط المناصب العليا وفرصة التفوق بالمكانة الاجتماعية وما يتبعها من جاه وسلطان مبينا أن المجتمعات الصالحة هي التي تساوي بين الشباب في المعاملات وتجعل معيار التفوق هو الكفاءة والخبرة وليس الحسب والنسب أو الشكل البدني ورشاقة النساء. وفي الوقت نفسه يرفض المساواة بين الجنسين في خرق التقاليد والاختلاط غير المبرر وتعلم ما لا فائدة منه مثل الرقص والمخاصرة وخروج النساء ليلا ومصادقة الرجال –وهو يتفق في ذلك مع معظم المستنيرين المحافظين فقد ذم الطهطاوي ومصطفى عبدالرازق المراقص الغربية في حين أعلى من شأنها معظم العلمانيين والمستغربين وعلى رأسهم سلامة موسى-. ويحذر بدوي من بنات الهوى المتمثلة في إحدى بطلاته وهي تلك الفتاة الماجنة التي أطاحت بكل الأعراف والتقاليد وأرادت أن تسوق غيرها إلى نفس المصير فتجذبوهن وتغريهن لممارسة كل أشكال الرذائل في المراقص والبارات وغير ذلك إلى وحل فض البكارة والممارسات الجنسية الشاذة. ويعلق بدوي على انحراف الشباب من الجنسين بأن العفة ليست مطلوبة من الفتيات فحسب بل من الشبان أيضا، ويقول على لسان إحدى الساقطات من بنات الهوى: " لماذا يفرض العفاف على الفتاة ولا يطلب من الفتى؟ ولماذا يكون في دخول باب الفسوق خروج للمرأة عن طبيعتها ولا يكون فيه خروج للرجل عن طبيعته هو الأخر مادامت الطبيعتان متساويتان في هذا الصدد؟" "إذا كان الزواج ائتلافا بين القلوب فمن يدريكم أن قلبين سيتآلفان ولما يتعارفا؟". ويبرر بدوي انحرافات بعض البنات الريفيات عند التقاءهن بمجتمع المدينة لأول مرة بذلك التغير المفاجئ في المأكل والملبس ذلك فضلا عن حياتهن السابقة ولاسيما في البيوت التي مات عائلها فقتل الجوع صغارها وأذلت الحاجة أعناق كبارها وأفقد بناتها حصن الحماية ويد الرعاية، الأمر الذي يدفع بعضهن إلى ممارسة الرذيلة طلبا للمال لسد الأفواه الجائعة -وذلك تحت ضغط رفيقات السوء وعدم جدوى التراجع عن ممارسة البغاء بعد الغلطة الأولى واستحالة إيجاد شريك أو زوج ينتشلها من الانحطاط والوحل الذي وقعت فيه- وتنكر من أخذ حاجته منها ودفع الثمن أول مرة بحجة أنها كانت نزوة ذهبت إلى حال سبيلها، وطردها من أي مهنة شريفة لم تخضع فيها لصاحب العمل لكي ينال منها ما عزمت الانتهاء عنه. ويقول على لسان إحدى العاهرات النادمات على سلوكهن عقب ليلة حمراء في عيد رأس السنة: "أهذا احتفال بعيد ديني لميلاد الإله ومخلص البشر فيما يعتقدون أم هو احتفال عيد ميلاد باخوس أو أفروديت في جزيرة بافوس" إله الخمر والعرى فى الأساطير اليونانية" أم طقوس تقام لعبادة أنفلوس؟ لم يبقى من هذا الأصل الديني إلا مجرد الاسم أما ما عداه فوثني من ألفه إلى ياءه".

ويشبه بدوي سلوك الرجال الطامعين في الغواني من الفتيات الصغار بموقف أوروبا من الشعوب المغلوبة على أمرها أو الأمم الضعيفة خلال الحرب العالمية الثانية ويقول على لسان أحد الضباط الموجودين في الحانة: "لقد شاركت في الحرب الماضية وكنا شبابا نهتف بأغاريد الحرية والنعيم لعالم الغد الذي سنبنيه ، وكانت الغايات التي رسمتها لنا الدعاية ويل للناس من هذا التنين الرهيب والمارد العجيب ، تشيع في نفوسنا حماسة فياضة سخية لا تكترث لشيء ، وكان شباب المعسكر الأخر يجيبنا على حماستنا لمثلنا في الحرية بمثله في الثقافة الرفيعة والحضارة الممتازة (الكلتور) المشهورة ، حتى لقد كان يخيل إلينا أن هذه حرب صليبية أخرى فكنا نستعذب لذة الجهاد. وكانت الشبيبة في البلاد الصغيرة ترنو بعيونها الكليلة إلى ألواح موسى العصر ودور ولسون ، وتظن أن في جملتها هدى ورحمة لهم من ظلم الغاضبين المستبدين من حماة ومنتدبين ومستعمرين ، إلى أخر هذه الكلمات المجرمة التي ندجل بها على الشعوب الصغيرة والمغلوبة على أمرها ، ونحن معشر الدول الكبرى لا نضمر لها إلى أبشع أنواع الاستعباد والاغتيال حتى إني أود من صميم قلبي أن أبعث مرة أخرى بعد ألف سنة مثلا حتى أنظر في صفحات التاريخ آنذاك وفيما سيقوله عن الدجل الأكبر الذي لم يكن له من قبل في التاريخ مثيل الدجل بكلمات الحرية وإيجاد عالم أحسن وإشاعة القيم النبيلة وتحرير الشعوب من أسر الخوف والفقر".

ويختتم بدوي حديثه عن المآل -الذي ينتظر العابثات والماجنات والمستهترات من الفتيات اللواتي نبذن العادات والتقاليد والقيم الراقية باسم الحرية ووقعن في وحل الرذيلة- بإيراد حديث لإحداهن مع نفسها: "آه لو عرفت كل فتاه ماذا سيؤول إليه أمرها حينما تغريها الحياة باقتطاف الثمرة المحرمة وهي في مطلع الشباب الغافل ، إذاً لما بذلت نفسها لكائن من كان ومهما يكن الثمن ... وما أدري بعد هذا من ألوم: أألوم نفسي على أنني لم أحسب للواقع حسابا فسعيت وراء آمال أقمتها على أساس قيم أنا التي وضعتها دون أن أستشير واقع الحياة فيها أو على الأقل أراجعه أم ألوم المجتمع والحياة على أنهما لم يستمعا لي ولم يحفلا بمبادئي وقد كنا خليقين بأن يجدا فيهما شيئا مما عساه أن يصلح من أمرهما؟".

وللحديث بقية

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز