عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
أزمة الضمير...وأكل لحم الحمير.!

أزمة الضمير...وأكل لحم الحمير.!

بقلم : د. أحمد الديب

تناول لتوه وجبة غذاء دسمة شهية تتجلي فيها أنفاس أم أشرف زوجته اللهلوبة التي  تشتهر بين الأصدقاء والجيران بطاجن البامية باللحمة الذي قلما يجود الزمان بمثله . يتجه إلي شرفته مهرولاً  علي إثر هرج ومرج ينبعثان من الشارع مرتدياً فانلته الحمالات البيضاء وبين يديه  كوب شاي ليبتوني نعناعي شديد الحرارة لزوم عملية الهضم . تقع عيناه أول ما تقع علي رجال الشرطة وهم يرفعون جزاره المفضل من قفاه إلي عربة الشرطة نصف المكشوفة . يتردد السؤال في نفسه " يا لها من ممارسات لا تنتهي ، ماذا فعل هذا الرجل الشريف الأمين حتي يُفعل به هكذا؟! " . يقطع حبل أفكاره أصوات متداخلة ، فإذا برجال شرطة آخرين يخروجون من المخزن الخلفي لدكان الجزارة وفي صحبتهم ثلاثة أزواج من الحمير الكندوز .الآن والآن فقط اكتشف أن الجزار ذا الثقة والذي يقع دكان جزارته "جزارة الأمانة " أمام منزله ، يذبح الحمير منذ مدة تقارب العشر سنوات.




يبدأ شريط حياته في المرور أمامه وكأنه في سينما صيفي هو مشاهدها الوحيد . يتذكر أول مرة قام فيها بشراء لحمته من جزاره الشهير والتي كانت منذ تسع سنوات !، حاول أن يتذكر التفاصيل ، وكيف كان الرجل كريماً معه حين قطع له من الموزة التي يعشقها هو والعيال بدون شغت يذكر أو عظام وهو لا يطغي في الميزان . تحسس كتفه التي هي من خير جزاره الامين المفضل ، ثم رقبته فكرشه . الآن ، والآن فقط  عرف سر شهرة طاجن بامية المدام.


الآن والآن فقط ، أدرك السبب وراء شكوي أولاده الدائمة من شخيره الصاخب والذي يصفونه بأنه من أنكر الأصوات . ثم تَذكَر خيبة أمله في أولاده الذين لا يستوعبون شيئاً في الحصص المدرسية فقرر اللجوء للدروس الخصوصية والتي لم تكسبهم إلا البلادة فوق البلادة . كانت لحظة اكتشاف حقيقة جزاره الأمين لحظت فارقة في سيناريو حياته ، لقد أجاب عن معظم الاسئلة التي ظلت تدور بخلده منذ سنوات .


لا شك أنك تشمئز الآن ، ومع اشمئزازك وأسفك علي بطل القصة سالفة الذكر ، تثق كل الثقة  أن ما أصاب أبا أشرف ما كان ليصيبك ، لأن جزاري الكون جميعهم في كوم وجزارك أنت في كوم آخر . كل  أولادك متفوقون والحمد لله  ، كما لم يذكر أحد أمامك أنك دائم الشخير لا بأنكر الأصوت ولا حتي بصوت صفير البلبل . إياك أن تشك في صينية البطاطس الأسطورية التي تميز مطبخ المدام ، لا بد أن تثق في جزارك الأمين ثقتك في  وعود وزارة التموين .


أنت تثق في الآخرين دائماً ، لا يجد الشك إلي نفسك طريق ، إنها نعمة كبيرة أن تغلق عليك بيتك ولا يضيرك أن يطفح الشعب كله لحوم الحمير بينما تنعم أنت وأسرتك بأحلي كيس لحمة مضمونة تم ذبحها طبقا للشريعة الإسلامية وتحت إشراف مدير إدارة الطب البيطري والذي خرج من السجن لتوه لحسن سيره وسلوكه بعد أن قضي في السجن بضع سنين لتناوله الرشوة جراء موافقته علي ذبح عجل بلدي مات وشبع موت !.


كما في الزواج ، حين يثق المقبل علي الزواج أن حظه حتماً سيكون مختلفاً عن حظ الجميع وأن كل الروايات المتواترة بالبهدلة والمرمطة لا تعنيه لأن كل أبطال الرويات ليسوا "هو" وأن كل بطلات الروايات لسن "هي" ، يثق آكلو اللحوم المحترفون أن حظوظهم لا شك مختلفة وأنهم يعرفون نوعية اللحوم بمجرد النظر إلي عيني الجزار أو بمجرد أن يفحص عرق الفليتو بين السبابة والإبهام . هؤلاء وفي أغلب الاحيان هم أكثر الناس تناولاً للحوم الحمير وأكثرهم تذوقاَ واستمتاعاً بها  وهم لا يشعرون .


 تكاد تعرفهم من صوتهم الجهوري ، فلما تَلفت نظره لإزعاج صوته ، تجده ينكر إنكاراً شديدا ويؤكد أنه يهمس همساً . تجده عريض المنكبين ، جاحظ المقلتين ، مسدود الانف والأذن والحنجرة . وإحقاقاً للحق وإعمالاً للشفافية ، تجده لا يخلو من الفوائد خصوصاً لو أسعفك الحظ وعملت معه في مكان واحد فتستطيع أن تلقي إليه عملك ويستطيع الجميع أن يصرفوا إليه أعمالهم لينجزها  فهو البطل الفخور بنفسه المختال بعمله الذي يردد عبارته الشهيرة مبتسماً.. " محدش في الدنيا يشتغل شغلي ، أنا حمار شغل !" .


في قديم الزمان ، تعرضت امبراطورية "إسهاليا" القديمة لأزمة عاصفة في ضمائر التجار والذين كانوا يذبحون الحمير ويقدمونها للناس علي أنها بتلو بلدي . فلما تفاقمت الأزمة ، دعا الإمبراطور  وزرائه ومعاونيه لإجتماع طاريء للوقوف علي الأسباب الجذرية وراء هذه الأزمة , كان وزرائه ومعاونوه قليلي الخبرة متواضعي الكفاءة فلم يصلوا لا إلي الأسباب الجذرية ولا إلي حلول مطروحة لحل الأزمة حتي برز منهم وزير ألمعي  والذي أكد علي أهمية أن تستغل الحكومة هذه الظاهرة لمصلحة الدولة والشعب .


قال الوزير الالمعي في خطبة عصماء أمام برلمان الامبراطورية...." إنها فرصة سانحة لوضع قواعد جديدة في الأمن الغذائي الإمبراطوري  ، لا أعتقد أن الإمبراطورية قد تخلت عن ميراثها من الميكافيللية ، الموضوع بس ما جاش في بال حد . وما دام الأمر هكذا فلماذا لا يُعمم أكل لحوم الحمير من أجل دفعة او رفسة للاقتصاد الغذائي الامبراطوري . لا شك أن الموضوع سينال مقاومة واشمئزاز أطياف الرعية ثم لا يلبث أن يتم الاعتياد عليه كما تم الإعتياد علي نشارة الخشب كبديل للشاي في زمان البهظ بيه قديماً . ثمة إجراءات ضرورية لا بد من اتباعها من أجل تهيئة السواد الأعظم من الشعب لإضافة لحم الحمير علي الهرم الغذائي الأُ’سري الامبراطوري ".


 لخص الوزير الألمعي خطته في عدة إجراءات . أول هذه الإجراءات هو أن يقوم رجال الدين في المعبد الامبراطوري بالتسويق للخطة . حملة ممنهجة في المعابد، يؤكد فيها الكهنة أن الامبراطورية في زمن الاضطرار وأنه رُوِيَ في الأثر أن الجنود كانوا يأكلون لحم جيادهم في الحروب  . و أنه لا دليل علي ورود تحريم لحوم الحمير في الدين المقدس ثم يذكر محاسن الحمار من حيث القوة والجلد وقدرته علي العمل في أصعب الظروف ، ناهيك عن قدرته الجنسية التي لا تخفي علي كل ذي عين ! .


ثاني الإجراءات هي إجراءات دعائية ، يبث فيها من خلال التليفزيون الرسمي الإمبراطوري فعاليات حوار مجتمعي جاد و اجتماعات مائدة مستديرة حول " لماذا لا تُستغل الثروة الحميرية خير استغلال " . في اثناء هذه الفعاليات يخرج الأطباء البيطريون للتاكيد علي أنه إذا ما صحت الإجراءات وتم الذبح داخل المسلخ وتم ختم الحمار بالختم الاحمر فلا مشاكل صحية من لحم الحمير علي الإطلاق . ثم تنطلق الإعلانات ذات الجودة العالية لتعلن عن منتجات جديدة في السوق الامبراطوري ، تتولاها شركة " يوجين و يوشين جودة ميختلفش عليها اتنين "  لانتاج اللحوم من عينة " دونكي برجر " ، " دونكي ستيك " . ثم منتجات الالبان 
و " دونكي تشيز قابلة للفرد علي الساندويتش" .


لقد نجحت الحملة الممنهجة نجاحاً منقطع النظير ، و استطاعت حكومية "إسهاليا" أن تمنح قبلة الحياة للإقتصاد ووفرت احتياجات شعبها من اللحوم الطازجة وتم تصدير الفائض الي الدول التي ليس عند شعوبها ذات القدر من التماحيك فتأكل كل ما مشي علي الأرض من ضفادع وصراصير وأم اربع وأربعين وخلافه . وما أن تشبعت الدماء بالغذاء الجديد وبمكوناته الغذائية الفريدة وتسلطن المخ ونمت العضلات . لم يجد شعب الامبراطورية وقتاً إلا للعمل والبناء فنشطت الصناعات وانتعشت الحرف ورُصفت الطرقات وبنيت الكباري وأُستغلت طاقات الشباب الجبارة فيما هو مفيد من العمل وابتهجت الحياة الزوجية بجرعة واحدة من ساندويتشات الكفتة علي الفحم!.


ولأن علوم الإدارة لا تعترف بالنجاح المطلق ودائما ما تلتفت إلي الآثار الجانبية لأي قرار جريء إصلاحي ، نود أن نؤكد علي أن الأمر لم يكن هيناً فقد أثيرت العديد من الاعتراضات مصدرها تجار الأسماك العتاولة وتجار الفول الكبار ومافيا الكبدة المجمدة المستوردة .
غير أن إمبراطورية "إسهاليا" استغلت  ذلك لصالحها .فلما استمرأ الشعب الغذاء الجديد وأدمنه ، زاد الطلب عليه ووصل سعر الكيلو منه إلي 300 جنيها للمشفي و 250 جنيها لذي العظم ، وأصبحت فرصة سانحة للإبداع والتطوير والاطلاع علي تجارب الشعوب الاخري التي تأكل كل شيء وجلب الخبراء منها للتشاور حول منتج جديد متاح في الأرض الطيبة المليئة بالخيرات  للتركيز عليه وترويجه وتسويقه بنفس المنهجيات السابقة حتي يتم اقناع الشعب بها فيألفون طعمه وسعره، فإذا حدثت أزمة مشابهة يتم الترويج عن منتج آخر من مخلوقات الله التي تمشي علي رجلين او التي تمشي علي اربع او الزواحف علي بطونها ، وهكذا يعشق الشعب حكومته التي أبدعت وطورت لتوفر له حياة كريمة يستحقها ويعيش الجميع في سبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات !.
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز