عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تسقط الأمم ..

تسقط الأمم ..

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

تسقط الأمم ..



توقفنا سابقا عند استعراض الفوارق الكبيرة بين أفعال الإبداع الإلهية (الإتيان بالجديد) التسعة (التخصصية الدقيقة) والمذكورة في القرآن وهي { الإبراء -  الخلق - الإنشاء - التصوير - الإنشاز - الإحياء - الإماتة - التوفي - الكلء} ، بالإضافة لأفعال الإبداع الشمولية الخمسة وهي { الابتداء والإنهاء والإدخال والإخراج والإعادة} والتي تشتمل في تنفيذها بعضا من أفعال الإبداع التخصصية ، ووصل بنا المطاف عند علم خلق الإنسان المتكامل والواضح في كتاب الله والذي توفقنا فيه بداية عند قول الله تعالى .. {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }لقمان28 ، وهو قرار وبلاغ ممن خلقنا ينبئنا فيه أننا في الأصل نفس واحدة وهو المستقر والمستودع كما يقرر ذلك الخالق المبدع في قوله تعالى .. {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }الأنعام98 ، وهو ما يعني أننا كنا قبل أن نتعرض لعمليات (الخلق - الإنشاء - التصوير) نفسا واحدة من أصل واحد مستقر ، فقسمها الله نفوس عديدة متكاملة ثم قسم كل نفس لشطرين (نفس لذكر + نفس لأنثى) ، وأننا سنعود نفسا متكاملة يوما ما ، فالإنسان ما هو إلا نفس خلقها الله وأبدعها ولا نستطيع أن ندعي أن الله خلق النفس على هيئته سبحانه مثلما يقول سفر التكوين في الكتاب المقدس لأن هذا (زور وبهتان وتجديف بشري متجاوز) والأوقع والمنطقي أن نقر ونعترف بصدق ما يقوله رب العزة عن نفسه سبحانه في القرآن الكريم .. {... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11 ، فلا مثيل ولا شبيه للخالق العظيم ، ولا يجرنا تمييز الله للبشر وتكريمه لهم لجلال مهمتهم التي خلقهم من أجلها والتي استحقوا عليه سجود وحفظ ودعاء واستغفار الملائكة أن نبالغ في التكريم ونرفع أنفسنا لمراتب القدسية الإلهية كما يفعل أهل الصوفية (الإبليسية) منذ عهد نوح وحتى يومنا هذا بالادعاء بحلول الذات العليا في بشر وهو قمة الكفر بقيومية الله والإدعاء بالباطل على الله .

وقبل التوغل في خلق الانسان (النفس البشرية) يجب أن نتوقف قليلا عند الغرض من الخلق باستعراض قول الله تعالى {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }الأنعام133 ، فلسنا أول مخلوق مستخلف على الأرض لإعمارها كخليفة لله عليها ، بل إن الله (أنشأنا) من ذرية آخرين كانوا مكلفين بنفس المهمة ، ولكننا نختلف عنهم بالطبع في بعض مواصفات (المطية) أو المعدة المادية التي نستخدمها خلال رحلة الحياة على الأرض وهي الجسد الممنوح لنا ، ولكننا لا نختلف عنهم في أصول النفس ونوازعها وصفاتها وحركاتها ، حتى أن الله يهددنا تذكيرا بما هو أكبر من ذلك وهو الاستبدال بخلق جديد في قوله تعالى المكرر مرتين في كتاب الله ، مرة بقوله تعالى .. {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }فاطر16 ، ومرة بقوله تعالى  {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }إبراهيم19 ، ويختتم الآيتين بقوله تعالى {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } .

وبداية لابد وأن نعرف أن الخالق العظيم في كتابه الكريم قد عرف مكونات الإنسان البشري على أنها ثلاثة مجتمعة في نشأة فريدة هي (النفس - الجسد - الروح) في آيات بلغ عددها تجاوز (330) آية ، تحدث فيها عن (الروح) في خلق الإنسان في خمس آيات أشهرها قوله تعالى .. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85 ، وعن خلقه سبحانه الإنسان من التراب في ستة آيات أشهرها قوله تعالى .. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }الروم20 ، ومن الماء في ستة أشهرها قوله تعالى .. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً }الفرقان54 ، ومن الطين في سبع آيات أشهرها .. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ }المؤمنون12 ، ولكن عند حديثه سبحانه عن خلق الإنسان من (نفس) ، ذكرها سبحانه في أكثر من (300) ثلاثمائة آية أشهرها قوله تعالى .. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1 ، ، ثم دقق المكونات وعلاقاتها ببعضها فأخبرنا أن الإنسان هو (نفس) فقط ، يمنحها الله جسدا حيا مكونا من مادة الأرض التي تحييها (الروح) ، فالروح هي سر إحياء أي جماد ، وهي موجودة في كل شيء حي ، وبالتالي فلا علاقة للنفس بالروح مطلقا ، إلا في حالتين ، الأولى غير مباشرة وهي استخدام النفس للجسد الحي (لوجود الروح فيه) ، والثانية هي أن تذوق النفس (ألم) خروج هذه الروح من الجسد عندما يحين أجل رحيل النفس عن الدنيا ، فتفقد النفس مطيتها (وسيلتها) للتعامل مع الحياة على الأرض ، ثم ينشئ الله هذه النفس بعدها في نشأة جديدة (أخرى) ، شاء الله أن لا نعلم عنها شيئا ونحن أحياء وشبهها الله لنا بالنشأة الأولى التي نعرفها وربما نتذكرها كما يقول لنا الخلاق العظيم في سورة الواقعة .. { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } الواقعة{60 :62} ، فالحياة على الأرض رحلة نفوس ممتطية (تركب) أجسادا حية لتستخدمها ، حتى إذا انتهت الرحلة تغادر النفس هذا الجسد ولا تعود إليه ، ويسترد الله سر الإحياء (الروح) ويعود الجسد لأصله (تراب الأرض) ، وأما النفس والتي هي الإنسان (كمسمى نعرفه بهذا الاسم على الأرض) فسوف ينشأها الله في نشأة أخرى في مكان وزمان آخر ومختلف تبعا لنتائج حساب هذه النفس عن رحلته السابقة على الأرض ، وقد تعود النفس في نشأتها الجديدة للحياة على الأرض ولكن بشروط محددة ذكرها المولى سبحانه في نفس السورة (الواقعة) بقوله تعالى .. { فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ، تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }{86 ،87} ، وهو ما يعني أن الإنسان قد يعود للحياة في الدنيا بشرطين ، الأول أن يكون قد خرج من الدنيا وعليه ديون لابد من ردها ، والثاني أن يكون صادقا عند حسابه بمجرد خروجه ومعترفا بالديون التي عليه ، وبالطبع سيعود في المرة التالية بنفس الوسيلة التي دخل فيها الدنيا في المرة السابقة ، بأن يدخل بجسد مختلف وميلاد جديد ومؤكد من والدين مختلفين في كل شيء عن سابقه ، ليتعرض لنفس ظروف ديونه السابقة فيتم القصاص منه ، فترى مثلا طفل أو شاب أو طفلة صغيرة تموت في حادث مؤلم وهي لم تحظى بفرصة الحياة ، فنعترض جاهلين أنها نفوس ربما جاءت الدنيا لتدفع ديونا لحياة سابقة .. فلله في خلقه شئون .

ولابد أن ننتبه .. لعدم الخلط بين تدرج خلق الإنسان وإيجاده على الأرض لفترة زمنية محددة مسبقا (أجل مسمى) ، والذي بدأ منذ زمن بعيد بخلق النفوس ، وبين تدرج دخول هذه النفوس تباعا للحياة على الأرض بعد اكتمال خلق الجسد الذي سوف يستخدمه من مادة الأرض بتسلسل معروف حتى يكتمل الجسد ، ويصبح جاهزا لاستقبال النفس ، وتلك عملية خلق متدرجة بداية من نطفة (حيوان منوي باحث عن بويضة ليلقحها) ثم علقة (بويضة ملقحة وعالقة في الرحم) ثم مضغة ثم عظاما ثم خلقا كاملا بعد أربعة أشهر ، وعندها يأذن الله للنفس أن تدخل هذا الجسد للتدريب على استخدامه وهي عملية (الإنشاء) ، والتي شرحها الله تفصيلا في سورة المؤمنون بقوله تعالى .. { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } المؤمنون (12 :14) ، وتلك هي النشأة التي يتحول بها الخلق إلى خلق جديد مختلف (آخر) والتي عندها نعرف أن الجنين قد بدأ الحركة (التواجد) ، والذي كثيرا ما يهرب منه لفترات لو تعرض لما يزعجه كوقوع أو حادث للأم الحامل ، ويظل المخلوق البشري الجديد في رعاية كاملة لخمسة شهور كاملة ، ثم رعاية لصيقة بأمه بعد ولادته لعامين أو أكثر معتمدا كلية عليها ، ويستمر بنموه تباعده واعتماده على نفسه حتى البلوغ (التكليف) ، والذي يستمر بنموه تزايد توافقه (كنفس) مع جسده حتى يبلغ الرشد من عمره (سن الأربعين) وهو سن التوافق الكامل للنفس بنوازعها ورغباتها وشهواتها مع قدرات الجسد المحدودة ، وهو السن الذي لا يكلف نبي ولا رسول قبل بلوغه ، وهو سن الأربعين (40) الذي يصبح الإنسان عنده (افتراضا) في قمة فهمه لناموس الخالق وحكمته في الدنيا وبالتالي يصبح محاسبا بدقة على كل ما ينتويه ويقوله ويفعله ، وهو ما يعلمنا إياه رب العزة في إبداع بليغ ودقيق بقوله تعالى .. {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }الأحقاف15 ، وما بين ولادة الإنسان ولحظة وفاته (مغادرته الجسد بلا عودة له) يظل ابن آدم (وهو غافلا) يسعى في الدنيا كنفس مسجونة في جسد بشري ، تحتله وتستخدمه وتخرج منه وتعود إليه ، ومسئولة عنه بواجبات ومعتمدة عليه في تحقيق رغباتها وشهواتها ونواياها ، وهو ما قد يصيب النفس بأعراض وعوارض وأمراض تبعا لأنواع وأحوال النفوس .. وهو ما سوف نتعرض له لاحقا ..

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز