عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
بدوي بين التغريب والتقليد

بدوي بين التغريب والتقليد

بقلم : د. عصمت نصار

3) ليبرالي ولكن



ينتقل بدوي في روايته من اللغة الإشارية الإحالية التي تنتحل الرمز أحيانا للتعبير عن القضايا الشائكة -مثل الفساد السياسي والهوس بالجنس عند الشباب وغيبة القدوة بين شيوخ الرأي العام القائد- إلى الحديث المباشر عن المنابر الثقافية التي شكلت عقول الشباب وجعلتهم ينقسمون إلى ثلاثة اتجاهات في مطلع القرن العشرين، أحدها متشيع للغرب وعلى النقيض منه المتعصب للفكر الموروث والثالث نقدي انتقائي ينتخب النافع والأنسب من القديم والجديد ويصنع منهما نسق خاص به لمعالجة مشكلات الواقع. وكان مفكرنا أقرب   -كما بينا- لهذا الاتجاه الأخير ويبدو ذلك في مقابلته بين الشباب الأوربي والشباب العربي المصري ولاسيما في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين وبالتحديد عقب سقوط الدولة العثمانية، فها هو يتساءل على لسان بطل روايته المجهول ماذا عسانا أن نفعل وإلى أي قبلة نتوجه وهل كُتب علينا أن نكون تابعين وحُرم علينا الإبداع والاستقلال الوجودي وإذا كان الأمر غير ذلك فمن أين نبدأ؟ ويقول: "أنبقى في ظل تلك السلطنة الهرمة المهزولة الغاشمة التي سامتنا كل ألوان الذل والهوان طوال أربعة قرون كانت من أسوأ ما عرفه التاريخ؟ أم نسلم إلى سيد جديد يذيقنا ألوانا جديدة من الاستعباد بدأ يعرض علينا بضاعتها المزجاة في النصف الثاني من القرن الماضي وحاول أن ينفذ بها في خلايا (الرجل المريض) حتى تملك منها أجزاء كبيرة وأحشاء باسم كذا وكذا من أسماء الظلم والنفاق والغدر والخيانة؟".

ويناقش بدوي قضية الهوية مبينًا أن انتحال شبابنا للفلسفات الغربية وعادات الأوربيين وتقاليدهم طمعا في التقدم أو الرقي لن يوصلهم إلا إلى سبيل يجهلونه ولا يعلمون عواقب المضي فيه، وذلك لأن المشخصات الأوربية تحمل بين طياتها ثقافتها الخاصة المغايرة بطبيعة الحال لمشخصاتنا التي أهملناها فضعف القوي منها ودُفن تحت ركام الغث، ومن ثم أصبحنا أشباحًا بلا مضمون وأوهامًا بلا حقيقة، الأمر الذي يستوجب منا التنقيب عن النفيس من التليد فنجدده ونطوعه لاحتياجاتنا. وذلك بمنأى عن أوهام المسرح أي أولئك الرجال الذين يتاجرون بالكلم ويرغبون خداعنا ومسخ هويتنا ومحو تاريخنا والقضاء تماما على آمالنا في النهوض من كبوتنا من المستغربين الذين يقصدون تأييسنا ونشر روح التخاذل فينا، وغيرهم من الرجعيين الذين يخيفوننا من كل جديد أو حديث ويوهموننا بأن في التمسك بالقديم نجاتنا وأن في فلسفات أوربا ونظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هلاكنا وأن الحاضر والمستقبل ليس أفضل من الماضي الذي ينبغي علينا أن نفنى فيه ونتعبده، ويقول مصوراً حالة القلق التي كان يحياها الشباب في زمن روايته (هموم الشباب): "فعشنا بعقولنا محن الشباب الأوربي وعانيناها روحيًا، ثم زودناها بتجاربنا الواقعية الأليمة، فتكونت في نفوسنا قنابل هائلة من الثورة والقلق والبلبال الروحي والاضطراب النفسي حتى تولدت لدينا حساسية مرهفة إلى أبعد حد ... وما من رأي جديد لاح في سماء الفكر الأوربي في مختلف مرافق الحياة إلا استهوى نفوسنا فاستجبنا له بالحماسة السخية الحارة المعهودة فينا معشر الشباب المصري العربي، وكنا خصوصا أكثر إعجابا بالأفكار الحادة الخطرة الشاذة التي تتسم بالطرافة والمفارقة والغرابة، تلك التي تؤذي وتجرح".

وبين بدوي أن القليل من الشباب المصري هو الذي رغب عن التقليد فلم تستهويه أحلام الثورة الفرنسية ولا شعارات الماركسية ولا الفلسفات المادية الوضعية ولا روحانية البوذيين ولا التفسير الجنسي عند فرويد أو إباحية وعري روايات وقصص الكاتب الإنجليزي هربرت لورنس أو أحاديث المشايخ عن ملكة الأيمان وتعدد الزوجات والسياسة الفاشية أو الكوكبة التي كان يحلم بها سان سيمون وغير ذلك من ألوان الفكر والسياسة والأدب والفن.

أما الدين فكان يشكل عند الشباب إحدى المعضلات التي لا فكاك منها إذا ما أراد تحديد وجهته أو اختيار مذهبه وذلك لأن هناك من يكفّر ويلعن كل من أخذ بالاستنارة الغربية وفريق ثاني يود الاكتفاء بما جاء في النص المقدس وآراء الفقهاء وفريق ثالث يرغب في الجمع بين هذا وذاك في محاولات توفيقية أو تلفيقية ما زالت قيد المساجلة والنقاش. ويقول: "فريق أمعن في التجديف والإلحاد حتى لم يكد يبقى على شيء متأثرا خصوصا بفولتير وعصر التنوير ثم برينان واشتروس ، وخاضعا لعوامل أجنبية أخرى من ماركسية ووثنية فكرية حضارية. وفريق تمسك بالدين وغالى إلى أبعد حد محاولا العودة إلى الدين في صفائه الأول متأثرا خصوصا بنزعات التجديد التي شغلت العالم العربي في أواخر القرن الماضي ، أو عائدا مباشرة للكتاب والسنة مستمدا منهما كل شيء بلا واسطة من تفسيرات أو مذهب. وفريق توسط بين الطرفين المتباعدين يأخذ بطرف من الحرية الفكرية في الدين مع إيمان بالأصول العامة في العقائد الدينية ، بيد أنه ليس واضح الاتجاه ولهذا فهو فريق لا لون ولا طعم أيضا".

ويضيف مفكرنا عن مساوئ التغريب التشيع للثقافة الأوربية: "حسدنا الشباب الأوربي على وضعه الذي يسمح له بالتعبير عما تكنه نفسه ، وإن كنا أيضا قد رثينا له لأنه انساق وراء مطامع زائفة لا تضيف إلى الإنسانية قيمة نبيلة ولا تسمو درجة في معراج التطور الحي ، وتدفع بالمسكين وراء الدجالين المحترفين ممن يسمونهم الساسة فعبثوا بهم عبثا منكرا بواسطة ألفاظ جوفاء أحيانًا وبالقوة الغاشمة والحمى المخدرة أحيانًا أخرى ، وسواء أكان مسوقا بوهم أو مدفوعا بإيمان صادق. فقد وجد على كل حال ما يشبع رغبة البذل والفيض بنشاطه ، بينما بقينا نحن حيارى متعطلين". 

وأبى عبدالرحمن بدوي إلا أن يصرح بوجهته التي ينتمي إليها رافضًا كل النزاعات الغربية الهدامة ومؤيدًا للروح الإصلاحية التي استمدها من أستاذه الشيخ مصطفى عبدالرازق ويقول على لسان أحد أبطال الرواية وهو بمثابة الشيخ الحكيم والناصح الأمين لمعشر الشباب: "وكنا نسخر ونتهكم من هذه الخرق البالية المهلهلة التي تريد أن تفرض علينا فشلنا في الحياة وإخفاقها في إيجاد عالم ممتاز لبني الإنسان ، وكنا أشد منكم حماسة لدعاة الإنسان الأعلى الذي ذكر أحدكم أنه متأثر بصاحب فكرته وأكبر دعاته خصوصا وأنا كنا نتلقى مؤلفاته أولا فأول فنلتهمها التهاما وبلغ من حماستنا لنيتشة أننا كنا نتسقط أنباء تنقلاته في سويسرا وإيطاليا ..... وكنا من ناحية أخرى من أشد الناس إيمانا بمذهب التطور وكان في ذلك الحين في أوج مجده ونفوذه وتأسرنا عباراته الخلابة مثل بقاء الأصلح .... كما كنا متأثرين كذلك بالنزعة التنويرية في الدين التي حمل لوائها أشتروس ورينان ونؤمن بالتقدم المستمر للإنسانية بفضل التقدم في العلم والصناعة الفنية ... أما اليوم فماذا تبين لي ولمن ينتسب إلى جيلي من وراء هذه الأحلام العريضة ؟ لم يتبين غير أننا كنا واهمين مساكين ، فالإنسان الأعلى قد استحال إلى قزم وضيع يسمى صاحب المليارات ، وبقاء الأصلح قد صار نجاح الأخس في مرتبة الإنسانية ، والانتخاب الطبيعي هو اختيار الطفيليات الزائف والقضاء على العناصر الممتازة الصالحة والتطور المستمر هو التداعي السريع لكل حضارة وقيمة روحية نبيلة وتقدم الإنسان بفضل الصناعة الفنية قد صار استعباد الحي العاقل للتنين الجماد الذي يسمونه الآلة ، وبعد أن كنا نؤمن بقيام طائفة من الممتازين الذين سيوجهون العالم نحو تلك الأهداف العالية لم نجد إلا نفرا من كبار الدجالين الشعبيين والمنافقين المتزمتين ، فإذا بالعالم يصبح أكثر بربرية وانحلالا مما عرفناه في شبابنا".

ويرفض عبدالرحمن بدوي نقض التراث وطرح القديم بمنأى عن عملية دقيقة للفحص والانتقاء فليس كل قديم ضار ولا كل جديد نافع ، فها هو يقرر على لسان أحد الشباب الذين حاوروا المتمسكين بالقديم: "إن حديث الرجل كان مع هذا مليئا بالأفكار العميقة وبالآراء المبتكرة التي لا يخلق بنا أن نرفضها جملة كأنها متاع قديم نلقى به من النافذة دفعة واحدة بلا تمييز ... إننا لا نستطيع أن نميز بطلانه من صوابه إلا إذا تدبرنا آراءه -وكل آراء تلقى علينا– واستطعنا بعقولنا أن نهتدي إلى الوجه الأوفق. حقا إن للسن المتقدمة أحكامها وطرائق تفكيرها".

ويختتم بدوي روايته ختامًا مأساويًا، متأثرًا بهايدجر، فجميع بطلات روايته من بنات الهوى قد أصابهن المرض الذي لا شفاء منه أو متن انتحارًا، وكذا رفاق البطل من الشباب فمنهم من لقى مصرعه في حادث والأخر مات منتحرا في السجن ، وشهيد روايته مات بعد صراعه مع مرض السل.

وأعتقد أن عبدالرحمن بدوي في هذه الرواية كان متردداً بين الانتصار إلى الوجودية الغربية أو السير على نهج أستاذه في تثقيف الرأي العام والجهاد الفلسفي من أجل الإصلاح.

غير أن نص الرواية ومضمونها لا يعبر إلا عن هموم الشباب في عيون وجوديٌ يعظ.

وقد آثرت أن أعرضه لا بوصفه كتاب نادر لعبدالرحمن بدوي بل لأنه جدير بالقراءة في ظل ما ندعو إليه في ميدان الفلسفة التطبيقية.

وللحديث بقية

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز