عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
أزمة الجنس فى القصة العربية بين " احتجاج" يحى حقى و" فتاة العصر" لنجيب محفوظ

أزمة الجنس فى القصة العربية بين " احتجاج" يحى حقى و" فتاة العصر" لنجيب محفوظ

بقلم : د. عزة بدر

تكشف القصص الأولى المجهولة لنجيب محفوظ عن رؤية مهمة حول أزمة الجنس والتى بدت جزءا من أزمة مجتمع.



فقد عبرَّت معاناة شخصياته عن صراع دارت رحاه بين الأفراد وذواتهم، وطرائق تفكيرهم، ومناحى سلوكهم وبين مفاهيم جديدة شقت طريقها حاملة أسئلة شائكة ومحيرة، ومتغيرات فرضت نفسها على علاقة الرجل والمرأة فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى ولازالت تلك الأسئلة المشًّوكة مطروحة حتى الآن.

وكان أدب نجيب محفوظ منذ كتاباته القصصية الأولى ساحة لهذا الحراك الاجتماعى والثقافى.
 
• الحياة العريضة اهتمامه الأول
اختلف النقاد كثيرا فى النظر إلى قصص نجيب محفوظ، وأزمة الجنس فى أعماله، فيقول عبدالمحسن طه بدر: «الغالبية العظمى من البشر الذين يعيشون أسرى لغرائزهم، وحاجاتهم المادية يعيشون فى الجحيم، لايحمل لهم نجيب محفوظ تعاطفا ولا يرى لهم أملا ولا طريقا لهم عنده سوى طريق الهاوية الذى يتردون فيها حتى النهاية، وكلما زاد عنف هذه الحاجات المادية، وعنف المطالبة بها إلحاحا على الفرد واشتدت أنانيته كلما ازدادت خيوط الشبكة إحكاما حوله، وازداد إيغالا فى قلب الظلام، وترديا فى طريق الندامة واللاعودة، وحكمت عليه نزعة نجيب الأخلاقية بالدمار الذى لا دمار بعده، أما إذا حاول الإنسان السيطرة على غرائزه وضبطها والسمو عليها فإنه يعد مرشحا لجنة نجيب محفوظ، ومهيأ للدخول من الباب الضيق الذى لا تدخل منه إلا القلة الناجية.

(عبدالمحسن طه بدر: 2014، «الرؤية والأداة نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ص60، ص61).

بينما يرى غالى شكرى: «أن الجنس فى أعمال محفوظ يمضى فى موازاة العلاقات الأخرى بحركة تلقائية عفوية، وأن محفوظ أحد هؤلاء الذين لم يتخصصوا فى موضوع بعينه، وإنما أولوا الحياة العريضة اهتمامهم الأول، ومن ثم تجئ جميع العلاقات التى يعرض لها ضمن هذا الإطار الشامل لقطاعات مختلفة فى وقت واحد».
غالى شكرى: 1991 «أزمة الجنس فى القصة العربية، دار الشروق، ط1، القاهرة، ص76، ص97.

وأرى أن كلا من الناقدين قد ظلما نجيب محفوظ، فمن خلال قراءتى القصص الأولى المجهولة له أرى أن كاتبنا قد أطلق العنان لشخصياته، لم يدفع بهم إلى نار، ولم يرسم لهم طريقا إلى الجنة!، وأن الرؤية الفنية لكاتبنا غلبت نزعته المثالية فلم يقسم الكيان البشرى إلى طبيعتين متناقضتين إحداهما جسدية هابطة ومدانة وأخرى روحية سامية كما يقول عبدالمحسن طه بدر، فها هى قصة «راقصة من برديس» لنجيب محفوظ - والتى نشرت فى المجلة الجديدة الأسبوعية بتاريخ 29 أبريل 1936.

• راقصة من برديس
وهى من بواكير أعماله الأولى تطرح أمامنا نماذج فنية لشخصياته التى تحررت من قيود المؤلف وتصوراته المثالية، والأخلاقية لتصف لنا حركة الشخصيات وطرائق تفكيرها ومسالكها على نحو تلقائى، ينبض بالحياة دون أن يحد حركتها بقيود بل أطلقها لتسلك بحرية وتعبر عن ذواتها على نحو فنى جرئ، فها هى الراقصة التى تتحرك مع عصابة من السارقين تتصرف حسب مقتضيات حالها الذى جعل لها من التوثب والقدرة على المغامرة بل والقدرة على التخفى والمناورة أن تراود شابا عن نفسه وهى ترتدى لباس الرجال وتخفى طبيعتها الأنثوية، ويصف كاتبنا الموقف الذى وضع فيه أبطاله، وتركهم يتصرفون وفق هواهم، وحسب ما يشتهون مثيرا فى أنفسنا قدرا ماتعا من التساؤل والدهشة، فيفاجئنا السرد بصورة بصرية متلاحقة:

فيقول: «استولت الدهشة على الشاب لأنه لقى من الزعيم رقة لم يكن يتوقع وجودها فيمن كان مثله قطَّاعا للطرق، مدربا على النهب وربما القتل، وزاد فى رعبه أنه أخذ يقترب منه حتى التصق به أو كاد، فجن جنونه وهم بالابتعاد عنه، ولكن الآخر أمسك بيده، وهمس بحرارة ولهجة مرتعشة، وبصوت غريب، ما الذى يرعبك منى؟ ثم أخذ بيده، وضغط بها على صدره خلال الجلباب الفضفاض فلم يلبث أن فرت من فم الشاب صيحة اندهاش خافتة، ونظر إلى محدثه بذهول كأنما لا يصدق حسه وهمس:
«أحق أنك امرأة؟!، فوضع الآخر إصبعه على فمه حتى لا ينشر صوته فى الفضاء وتأملها الشاب بعين أخرى انقشع عنها ماغشاها أول مرة من الرعب فدهش لما طالعه خلف ذلك الشارب الكثيف المستعار وتطلع إليها تطلع المتساءل المستطلع، لكنها أغضت عن سؤاله الشامت وبادلته نظرة مشوقة كأنها تريد أن تقول له إنه أعجبها وأنها عازمة على أن تناله كما تنال كل من يعرفها وإن اختلفت الوسائل!

ونسى الشاب مخاوفه وطغت على قلبه مسرة لاذعة، وجرت فى أعصابه نيران موقدة بدت طلائعها فى التماع عينيه، وهو يرمقها بشراهة ثم دار برأسه كأنه يفتش فيما حوله عن مكان صالح»!

فالشخصيات عند محفوظ تنطق عن هواها، وعن رغابها، وتكشف عن طبيعتها، تصنع الطريق إلى جنتها أو تلتمس تأجج نيران أعصابها فى لحظات عَّبر فيها عن عرامة الشهوة وقوة الرغبة بين الشاب والمرأة فى قصته «راقصة من برديس»، بل وطرح أفكار الراقصة غير المبالية والجريئة فى آن وهى تقيد بيديها هذا الشاب بالحبال عندما حاول أن يستعيد فتنة اللقاء الأول وجمرة المتعة، فيطلق محفوظ شخصياته لنجتلى مواقفها، حركاتها، وسكناتها حرة ومقيدة فى مشاهد فنية مؤثرة، وهو يمزج الواقع بالخيال والفكرة بالأفعال فيقول: «ضحكت ضحكة عذبة أرجفت قلبه، وفتحت له ذراعيها بشوق وحنان فأسرع إليها ولف ذراعيه حول خصرها الدقيق، وهو ينتفض شوقا وهياما فلم يدر إلا وهى تصكه بلطمة على جبينه ترنح على أثرها كالجمل الذبيح ثم طرحته على أرض الغرفة وهو فى شبه غيبوبة ثم أحضرت حبلا دقيقا وقيدته به بخفة لا مثيل لها وهو لا يبدى مقاومة كأنه مخمور فى آخر الليل، وبالغت فى الحذر فكممت فمه ثم نظرت إليه وعلى فمها ابتسامة سخر وقالت: «إنى أبقى على حياتك رغم أن ظهورك هذه الساعة كاد يقضى على أحد مشروعاتنا الكبرى فلتشكرنى ماحييت على ذلك.. هكذا أنتم أيها الرجال لا تصدقون أن امرأة تسلم لكم نفسها لعاطفة طارئة سريعة الزوال كعواطفكم بل تعرضون فى غرور أنها كى تفعل ذلك ينبغى أن تكون مشغوفة حبا فتجدون فى طلبها، وفرض سيطرتكم عليها، وكان يجب أن تفهم أنى لست كغيرى من النساء، والآن فلتبق كما أنت حتى الصباح فإن حاولت فرارا قبل ذلك فلربما قضى عليك، ثم تفلتت هاربة، وأغلقت خلفها الباب.

(نص القصة فى كتاب «قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر لمحمود على 2016، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص101، ص102. وقد نشرت فى مجلة «المجلة الأسبوعية بتاريخ 29 إبريل 1936، ص23.

• خوف ولذة!
أما الشاب بطل القصة فقد عالج قيده، وفر هاربا، ويصور كاتبنا دواخل بطله الهارب بنزعة فنية صادقة، خالصة التصوير لوجه الفن بعيدا عن أى محاكمات أخلاقية لأبطاله فيقول: «وكان كلما ذكر أنها باتت ليلة بين يديه، وأنه وقع فى مرة أسيرا  تحت رحمتها مكتوف اليدين سرت بدنه قشعريرة، وخالطته عواطف شتى من الخوف واللذة».
• بين يحيى حقى ونجيب محفوظ
 وقد أدت رؤية غالى شكرى أو بالأحرى قوله: (عندما نتقصى بالدراسة أعمال هذا الفنان - نجيب محفوظ - ينبغى ألا نعير زمن صدور تلك الأعمال أى التفات إلا فى حدود تتبعنا لتطوره الفنى والفلسفى).

(غالى شكرى: أزمة الجنس فى القصة المصرية، ص 76)

وهذه الرؤية قد ظلمت البواكير الأولى لقصص نجيب محفوظ لأنها لم تضعها فى سياقها التاريخى المهم والمؤثر، وهو ما جعل شكرى يضع فن الريادة فى الكتابة عن أزمة الجنس فى القصة المصرية فى بستان كتابات يحيى حقى وحده ويؤرخ لظهور هذه الريادة بقصة يحيى حقى (احتجاج) والتى ظهرت فى مجموعته القصصية (أم العواجز) والتى نشرت فى مجلة عام 1934.

والتى استطاع فيها أن يعبّر عن أزمة فتاة عانس (بمبة) التى علا صوتها محتجا على وضعها الاجتماعى والعاطفى والنفسى عندما رشح أصحاب البيت الذى تعمل فيه عروسا للأسطى حسن الذى عشقته فهتفت بجملة واحدة : (أتأخذون هذا الرجل منى ؟!) فى صرخة مدوية مطالبة بحقها فى الحياة والحب والجنس ومن خلال وصف حر لعلاقتها بالأسطى حسن وكيف التمعت عيناها بسحر هذه الرغبة الخافية المستورة  وسرت نارها فى الجسد الخامد الذى أفناه الشقاء وخدمة البيوت. وهو ما دفع غالى شكرى إلى عدم الإشارة إلى قصص نجيب محفوظ الأولى وأهميتها التاريخية، ولم توضع فى سياقها المؤثر رغم ريادتها وفرادتها أيضا. فقصة (فتاة العصر) لنجيب محفوظ والتى نشرها فى مجلة (الرواية) بتاريخ أول نوفمبر 1938  (العدد 43) تعد من القصص الرائدة  فى التعبير عن أزمة الجنس فى القصة العربية، وقد آن الأوان لوضعها فى سياقها.
من تاريخ الأدب العربى المعاصر فالقصة تعالج المتغيرات الجديدة التى طرأت على علاقة الرجل  والمرأة فى أواخر ثلاثينيات القرن الماضى.
فبعد خروجها للتعليم والعمل تغيرت تجربتها الحياتية والاجتماعية بل والعاطفية فأصبحت لها رؤية ووجهة نظر فى الحب والزواج وشريك الحياة).

• فتاة العصر

وقد عبّرت شخصيات محفوظ فى هذه القصة عن التوترات، والمجازفات، والمغامرات التى كابدتها فى مجتمع تحكمه التقاليد، فبطلها  ينظر بعين الريبة والشك إلى فتاة صارحته بأنها تبحث عن الحب وعن شريك حياة يفهمها ويبادلها حبا بحب، وإخلاصا بإخلاص.

ويضعنا كاتبنا أمام الأبعاد النفسية التى تضطرم فى نفوس أبطاله فى صراعهم مع القديم، والجديد، وما يطرحه الماضى والعصر على علاقة الرجل والمرأة مثيرا عددا كبيرا من الأسئلة الشائكة حول طبيعة هذه العلاقة، وتطورها، محيطا بالتفاصيل الدقيقة للخلجات التعبير عن ما يصدر عن بطلين من كلمات دالة، وتصرفات، مؤججا هذا الصراع الداخلى بين الرغبة والرهبة، اليقين والشك، الإقدام والنكوص دون أن يُملى على أبطاله شيئا سوى الحرية ليختاروا ما شاءوا من مسالكهم ودروبهم، بل ويختاروا مصائرهم أيضا لتنكسر التجربة العاطفية للفتاة والشاب فى هذه القصة تحت وطأة صراعات فكرية، وعاطفية، وعوامل اجتماعية مؤثرة رسمها محفوظ فى غاية الدقة ليضعنا أمام صورة كاملة لأزمة مجتمع.

فبطل القصة الذى يحاسب نفسه على الخطرة الحبيسة حسابه على العمل المحسوس يقع فى حب جارته الطالبة، وتتحول شخصيته بعد أن كانت لا حياة لها بتدفق عبير الحب إليها من خلال إطلالة على نافذة الجارة فهالته جرأتها فى التعرف عليه بل مقابلته لها فى حديقة عامة، ويصف كاتبنا هذا اللقاء بين شاب من أعماق الصعيد وفتاة قاهرية متحررة من خلال حوار دال أتاح فيه الفرصة لظهور الصوت الداخلى ليطفو على سطح الحوار والأحداث ليكشف عن جذور أزمة اجتماعية حقيقية فتقول الفتاة بطلة القصة:
(لا تظن أن إصرارى الذى لا شك أدهشك كان محض عناد أو رغبة فى الفوز.. فالحق أن  وجهك الجميل أًثَّر فى نفسى تأثيرا عميقا من أول نظرة).
 فغلبه الحياء، وخَضَّب الاحمرار وجهه، وتصبب العرق من جبينه، وقال لنفسه : ويلاه !، من منا الشاب ؟!، ومن منا الفتاة؟!
أما هى فسألته :

 لماذا جفوتنى طويلا، ففتح قلبه وحضره جواب ظن أنه غاية فى جرأة الغزل فتردد عن قوله هنيهة، ولكنه ذكر قلبه الجسور فجمع أطراف شجاعته وقال : كان قلبى خاليا.

• والآن ؟

 أف لها ألا تكفيها الإشارة ؟ وماذا يستطيع أن يقول زيادة على ما قال ؟، لكنها خففت من حيرته.

• وقبل ذلك ألم تحب أبدا؟

- أنا... ؟.... أبداً.

• أشباب وجمال وجفاف ؟!

ويمضى الحوار متدفقا على سجيته فتفصح الفتاة عن مكنون أفكارها ومشبوب عواطفها فتقول : (إنى أحب الحب، ولئن ضللته فى الواقع فما أضله فى الخيال، فإنى أخلق حبيبى خلقا وأناجيه بالشعر ثم تفاجئه بقولها: (إن قلبى يحدثنى بأنى بت على خفقة قلب من أمنيتى).

وتتبدى ملامح الصراع فى نفس الشاب الذى يدفعه قلبه للتجاوز مع الفتاة ويأبى عقله أن يستمع لصوت عواطفه بل ينصت ماليا لصوت التقاليد، وتثير أفكار الفتاة فى نفسه المخاوف والشكوك ويصِّورها كاتبنا فيقول على لسان بطليه:

• حدثنى قلبى وأرجو ألا يكذبنى ولذلك جَددت فى طلابك لتطمئن نفسى
فابتسم وقال :

• إذا فأنا تحت التجربة ؟

• هو ما تقول.. ألا تقرنى على ما فعلت ؟ أما أنا فمقتنعة بأنى ما تنكبت جادة الصواب فهذا هو السبيل إلى الحياة الزوجية السعيدة ويطل الصوت الداخلى للشاب فى رد فعل سريع وفى مفارقة ملحوظة لصوته الظاهر  الذى يتحدث به مع الفتاة  (حَيَّرته تلك الجسارة التى لم يسمع بمثلها من قبل، وعجب كيف أنها تَخلص إلى غرضها غير مكترثة للحياء أو التردد كالسهم الذى ينفذ إلى القلب من خلال الدرع المتين).

• القُبلة البريئة !
 وكانت الفتاة قد بدأت مغازلتها للشاب بطريقة الإيحاء فيأتى التصدير شاعريا موحيا فيقول كاتبنا: (أتت بطفل صغير وحملته بين يديها ومضت تلاعبه وتداعبه وتقبَلّه قبلات حارة يرن صداها فى حجرته وتقول له بصوت مسموع : (يا حبيبى.. قبلِّنى.. أعطنى شفتيك العذبتين.. مالك لا تنظر إلى.. أنظر إلى حبيبتك.. ألا تحبنى؟، ألا يروقك وجهى؟ أنظر إلى يا حبيبى.. وهذه الصياغة الشعرية التى تذكرنا بأغنيات الغزل الفرعونية، بل وبنشيد الإنشاد فى أسفار العهد القديم توحى لنا بقداسة عواطف الفتاة رغم حسية مشاعرها، وتعطف إليها نفوسنا لنتأمل رغبتها العارمة فى التحقق كأنثى ثم يتتبع كاتبنا الخط الدرامى لمسار هذه الرغبة من خلال حوار كاشف يتطور مع تطور علاقة الفتى بالفتاة، فالصياغة الشعرية الأولى كانت محكومة بمشهد الإطلال من النافذة على الحبيب لكن الصياغة الأكثر جرأة ارتبطت بلحظة المواجهة بينهما فيسير الحوار سريعا جريئا موحيا بمغامرة الفتاة ومجازفتها التى سارت بالعلاقة عكس الاتجاه، وكأن موقفها الجرىء يعجل بنهاية العلاقة بعد أن ابتذل المعنى الحميم بالحديث فيه بالكلمات الموغلة فى التصريح بالرغبة فأفقدتها سحر طبيعتها الغريزية الكامنة المستترة فيقول كاتبنا:

«ضحكت وهى تشير بيدها» أنظر فنظر إلى ما تشير إليه فرأى الزوجين الجالسين تجاههما فبدا على وجهه الغضب وقال:

هذا شاب عابث ممن تعنين.

ما الذى جعلك تسارع إلى هذا الحكم؟

ألا ترينه يقبلِّ فتاته؟

ولم لا يقبلِّها إذا كان يحبها؟

فقال بشىء من الحدة:

الحب الطاهر يترفع عن هذا العبث، فقالت بدلال ولا تزال يدها على يده هنالك قبلات طاهرة بريئة.

وما الفرق بين القبلة البريئة وغير البريئة؟

فأدنت وجهها من وجهه وهمست قائلة:

القبلة البريئة تنال بغير فضول، أعنى بلا ضم ولا عناق.. ثم يقطع المشهد بدخول النادل فى الكادر فيبدو المشهد سينمائيا بحق.

ثم يتدفق السرد من جديد لتفصح الفتاة عن رؤيتها للحب وللزواج كفتاة عصرية فتقول: إذا أحببت فإنى أهب قلبى عن حب صادق، لا عن اضطراب أو تسليم أو يأس، كم من فتيات يجدن أنفسهن فى بيوت رجال لا يدرين كيف ذهبن إليها فيروضن أنفسهن على الرضا ترويض الأسير نفسه على الذل ويعشن حياة بهيمية تتحكم فيها ضرورات الحياة، وحاجات الجسد كلا.. ليس هذا الزواج الذى أريد، أنا أريد زواجا تلتحم فيه الروحان التحام الجسمين، فيكون اتحادهما خير عتاد لدوام العشرة الشريفة السامية.

ثم يختتم هذا الحوار الجرىء بردود فعل بطل القصة الذى ساورته الشكوك وخاض صراعا نفسيا مُرا بينه وبين معتقداته ولغة فتاة من ذات العصر، فرأى نفسه وهو يضعها وأفكارها فى ميزان حساب عسير، يرصد نأماتها، وحركاتها، وسكناتها، وتعبيراتها، وتجربتها النفسية والحياتية ليضع كاتبنا أمامنا لوحة كاملة الرتوش لأزمة الحب والجنس فى المجتمع، لقد بدأته بالمغازلة ودعته صراحة إلى تقبيل فمها، وذكرت الحب والزواج وصارحته بماضيها الحافل، وعادت وهى تعد نفسها مرتبطة معه بميثاق أبدى!، انتهى الأمر فأحب وخطب وعاهد بالرغم من أنه لم ينطق بجملة واحدة مفيدة فأى فتاة هى؟ هذه واحدة.

أما الأخرى فهى ابنة عمه الحاج إسماعيل حافظ تاجر القمح بجرجا التى يعد زواجه منها لدى والديه على الأقل أمرا مفروغا منه على الطريقة الصعيدية، الحق أن «ليلى» وهذا هو اسمها محت من قلبه كل أثر لابنة عمه وأمثالها، لكن نفسه لم تطمئن إليها، ولم يكن قدرى «وهذا هو اسمه» مغلق القلب ولا متعصبا بل كان ذكيا حاد الذكاء لا تحجب التقاليد نور الحق عن عينيه فقدر ما للفتاة من الذكاء واللباقة والرشاقة وأعجب بروحها الحساسة التى تلبى نداء الشعر والموسيقى والغناء، ولكن لم يشرب قلبه الاطمئنان فكان كمن يعجب بدين غير دينه دون أن تواتيه الشجاعة على الدخول فى الدين الجديد.

• صوت التقاليد
فبعد أن انطلق الحب من إطلالة الشرفة وتقبيل الطفل، انتقل من كثافة رمزية وشعرية خلت إلى فضاء صريح تبينه الشاب على لفحة ضوء غامر كاشف، فأفاق من ضجة وعنف الرغبة على صوت وساوسه وهواجسه أو بالأحرى على صوت المجتمع من حوله فجعل يقول لنفسه: ماذا يكون حالى لو تزوجتها ورآنا واحد من أصدقائها القدماء، فمال على صاحبه وقال ساخرا أترى هذه المرأة التى تسير إلى جانب زوجها كانت.. وكانت، وكنت.. وكنت.

ثم يتدخل كاتبنا فى حركة السرد ونموه، بلغة السارد العليم المحيط بظروف المجتمع وأحواله فيقول: ولكنه على تردده وخوفه لم يكابر فى الحق فاعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه يحبها حبا لم يحبه أحد وأنه يهيم بها هيمانا، إن فى قلبه حبا قويا يروضه على النزول على حكم زمانه، وإن فى نفسه تراثا من التقاليد الغاشمة يصده عن فلسفة العصر الحديث، وهو بينهما موزع لا يدرى أين المستقر، وعبثا حاول أن يخلص من شكوكه وهواجسه، ومازال يقدر ويقدر دون أن يهتدى إلى رأى أو يقر على عزم.

ألا تستحق هذه القصة «فتاة العصر» فرادة الريادة، وجرأتها؟

ألا يضعها تاريخ الأدب فى مصاف هذه القصص الرائدة التى عالجت أزمة الجنس فى القصة العربية جنبا إلى جنب مع قصة احتجاج ليحيى حقى؟

إن قراءة جديدة لقصص نجيب محفوظ الأولى المجهولة لتكشف أيضا عن فتيات ونساء مختلفات من بيئات متباينة لكن لهن سعة حيلة، وذكاء وقدرة على التصرف، وحذق التعامل مع عالم الرجال رغم ما يبدو من خجلهن، وتحوطهن، ومظاهر التصون التى قد تخفى وراءها عالما مضطرما من المشاعر الدافئة، والجريئة التى تنبض بالحياة، والرغبة فى الحب والجنس، وهو ما يضع أبطال وبطلات تلك القصص فى مواجهة الضوء بعد طول كمون، وخفاء ومن هنا تتأكد القيمة الفنية والجمالية لقصص نجيب محفوظ المجهولة  .
 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز