عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
قراءة فى قصص نجيب محفوظ المجهولة ( 7 )

قراءة فى قصص نجيب محفوظ المجهولة ( 7 )

بقلم : د. عزة بدر

 الحياة فى مقام الحيرة وحقيقة الإيمان



فى قصصه ثورة على الجمود، والركون إلى اليأس، فى بواكيرها دعوة للتأمل، وخيوط شفافة محكمة تتبدى كأسس راسخة لعالمه الأدبى الثرى.

 أبطال قصصه الأولى يتساءلون عن نصيبهم من الدنيا.. يحدقون فى أنصبتهم التى فى أيديهم، وأنصبة غيرهم منها ! فيشقون بأسئلتهم، وبما حصلوا عليه، وبما حُرموا منه فإذا بهم يهتفون من قلوب حائرة، وأنفس ملتاعة : ما الحياة ؟ ما معناها ؟.. وإلى أين  المصير ؟! وقد تكون هذه الأسئلة نفسها هى بحق أسئلة الأدب، بل ورسالة الفن كما آمن بها  نجيب محفوظ.

 

• الأدب والحياة

 وقد أجاب كاتبنا عن سؤال مهم حول رسالة الأديب فأجاب (إنه يحاول أن يُقدم من خلال إبداعاته جوابا على الأسئلة التالية : ما هى حياتنا ؟، وماذا ينبغى أن تكون ؟، وماذا ينبغى أن نفعل بها ؟!.

( محمد جبريل : 1993«نجيب محفوظ : صداقة جيلين»، سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، صـ160)

ولقد شغلت هذه الأسئلة المهمة أدب كاتبنا وظلت محورا لافتا من محاور إبداعه، تجرى على ألسنة أبطاله  مفعمة بثورة داخلية لعلها كانت تكتمل فى نفس محفوظ أيضا، وليس أدل على ذلك من شخصية عبدربه التائه الشيخ الذى ظهر فى (أصداء السيرة الذاتية) لكاتبنا فهذا الشيخ المفعم بالحنكة، والحكمة، والتجربة، والذى تمرست خبرته الحياتية والذاتية على الإجابة عن الأسئلة الشائكة حول معنى الدنيا  ومعنى الموجودات، ومصير الإنسان، وحقيقة الإيمان، هذا الشيخ ظل حاضرا بقوة كصوت داخلى مؤرق فى الكثير من كتابات نجيب محفوظ وكأنه الشاهد على الأحداث والمصائر فتراه مثلا يسوق على لسانه كنوز الحكمة فى (أصداء السيرة الذاتية)، ويصوغ الكثير من معتقداته فى الحياة فيقول محفوظ تحت عنوان :

• عندما التقت العينان

 مضى زمن قبل أن يلتفت إليَّ وتلتقى عينانا ولما شاعت ابتسامة فى ملامحه، وثبت إلى جانبه، وقلت:

- أقبلنى فى طريقتك..

- فسألنى :

• ماذا يدفعك إلينا ؟

 فقلت بعد تردد :

- أكاد  أضيق بالدنيا، وأروم الهروب منها فقال بوضوح:

- حُب الدنيا محور طريقتنا وعدونا الهروب وشعرت بأننى أنطلق من مقام الحيرة) صـ 108.

ومن مقام الحيرة توالت إبداعات نجيب محفوظ، وظل هذا الشيخ صاحب الطريقة فى حب الحياة تتردد كلماته ورؤاه فى عالم  كاتبنا منذ قصصه الباكرة المجهولة فنراه فى شخصية الشيخ إبراهيم فى قصة (الأراجوز المُحزن) التى نشرها محفوظ فى مجلة (الرواية) بتاريخ أول فبراير 1939( صـ 72).

وكأنه الشيخ عبدربه التائه الذى ترددت حكمته فى (أصداء السيرة الذاتية) لكاتبنا، والتى نشرت عام 2004.

مما يؤكد أن أفكارا رئيسية كانت تشغل كاتبنا واستطاعت هذه الشخصية التعبير عنها حتى لو اختلفت الأسماء والصور، فالشيخ إبراهيم فى قصة (الأراجوز المحزن) يعبر عن فكرة الثبات، اليقين، والاستقرار أمام شخصية عبدالرحيم جاد الذى تنتابه عواصف الشك والخوف والحيرة وفى أصداء السيرة الذاتية يتساءل الواقف فى مقام الحيرة عن يقين يريحه من عذاباته، فيظهر الشيخ عبدربه التائه وقد أكسبته حكمة السنين رؤى أكثر تحررا من فكرة الثبات والاستقرار ولكنها أيضا تتمسك بضرورة وجود يقين إيمانى من نوع ما، وكأن الشيخ عبدربه التائه هو التطور الطبيعى، والنمو البديهى لشخصية الشيخ إبراهيم. بينما تبقى الشخصيات الأخرى فى مقام الحيرة تحاول أن تسلك طريق الحياة من خلال معارف من خبروها وعركوها وبحوار دال بين الشيخ إبراهيم وعبدالرحيم جاد فى قصة (الأراجوز المحزن) نستطيع أن نضع أيدينا على أفكار رئيسية اهتم بمعالجتها وإبرازها كاتبنا وكلها تتعلق بأسئلة الوجود.. ما الدنيا.. وما حكمتها؟ وكيف نتعامل معها فيقول عبدالرحيم جاد مقارنا بين شقائين.. شقاؤه وشقاء غريمه محمد المنياوى :

- (لست أقل منه شكوى أو شقاء، بل إن شقاءه يهونه المال أما شقائى فلا يهونه شيء، أتقول (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع).. كيف أختار الواقع إذا كان يبسط أمامى مستقبلا مظلما تافها وفقرا مدقعا ويضع على عاتقى أبا شيخا، وعشر أخوات وعمتين ؟

- فقال الشيخ :

- إن الله لا ينسى مخلوقاته: ألا ترى أنه يرزق الطير على غصون الشجر، ويطعم النمل فى سراديب الأرض.

- أرى حقا أن النمل يجد رزقه سائغا أما عبدالرحيم جاد الكاتب بنيابة المنيا الأهلية فلا يذوق اللحم إلا يوما واحدا فى الأسبوع، وأصبحت الطعمية تأكل معدتى وليس معدتى التى تأكلها.

 ويتابع عبدالرحيم جاد شكواه فيذم الدنيا فيساءله الشيخ :

 (وما ذنب الدنيا ؟ هل الدنيا هى التى جعلت المنياوى بك يفرط فى الأكل والشرب والاستهتار حتى وقع فريسة للأمراض ؟ أم هى نفسه الأمارة بالسوء ؟!، الإنسان هو السبب الجوهرى فى إسعاد نفسه وشقائها).

 ثم يوصيه بالقناعة فتحتدم الثورة الداخلية فى نفس بطل القصة الذى يرى أن هذه القناعة هى الموت بعينه ويجادل الشيخ ثائرا على حكمته المستقرة وثباته المستكين فيقول له: (أنا لا أدرى ماذا يكون حال الدنيا لو آمنت بحكمتك هذه.. هل كانت تُكتشف أمريكا ؟ هل كانت تُستغل المناجم، وتُستثمر الأراضى ؟ هل كانت تقوم الثورات وتُخلق المبادئ والأنظمة ؟

 هل  أستطيع بالقناعة أن آكل ما تشتهيه نفسى، وأن أسعد أخواتى وأبى، وأن أشتى فى أسوان واصطاف فى الإسكندرية)؟

 ويمضى الشيخ فى حكمته الواعية محفزا على الانطلاق - والاستمرار فى الكفاح - وإن كان ظاهر الكلام عن القناعة لكن باطنه يستحث على الحركة ومحاولة التغلب على النظرة اليائسة فيقول لمريده :

 (المسألة قناعة أو  لا قناعة، والذى  لا يقنع لا يقنع ولو ملك الدنيا).. (إذا استطعت أن تحوِّل التراب إلى ذهب كأبناء أمريكا فافعل وإلا فاقنع.. هل تجد سبيلا غير هذين ؟!)

لكن عبدالرحيم جاد يبقى كأبطال محفوظ فى مقام الحيرة، ويفصح كاتبنا عن المونولوج الداخلى لبطله فيقول كاشفا عن معاناته : (ولكنه لا يستطيع أن يحوِّل التراب إلى ذهب ولا يستطيع أن يقنع ويرضى، وهل كان محمد بك المنياوى يحوِّل التراب إلى ذهب ؟ وهل فى مصر كلها من حوَّل ترابا إلى ذهب ؟ ومع هذا فيها من يتقلب على الذهب، وأغلبها يمرغ فى التراب.. ما ذنبه أن يكون هذا نصيبه من الدنيا ؟).

.. إنها الثورة الداخلية التى كانت تحتدم فى نفس كاتبنا نفسه وهو يسوقها على لسان بطله - فى فترة كانت فيها البلاد تعانى تحت الاحتلال الإنجليزى - إن الشيخ إبراهيم وعبدالرحيم جاد ثائران،  كل على طريقته، فإذا تتبعنا هذه الثورة  التى لم تخمد أبدا فى أدب كاتبنا نرى ظلال الحيرة والحائر فى (أصداء السيرة الذاتية).

فيقول كاتبنا تحت عنوان:

• عندما

«سألت الشيخ عبدربه التائه:

- متى ينصلح حال البلد؟

فأجاب:

- عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة»  وتتجلى صورة الشيخ عبدربه التائه الثائرة فيما كتبه محفوظ تحت عنوان:

• عزرائيل

«قال الشيخ عبدربه التائه:

استدعانى المأمور يوما وقال لى:

- كلماتك تدفع الناس إلى التمرد فحذار!

فقلت له:

- أسفى على من يطالبه واجبه بالدفاع عن اللصوص ومطاردة الشرفاء!»

وفى قصة «الأراجوز المحزن» يندفع عبدالرحيم جاد ليحلل موقفه، وموقف الشيخ وكلاهما ثائر على طريقته، الشيخ إبراهيم يختار القناعة ملاذا، حيث لم يستطع أحد أن يحوِّل التراب إلى ذهب وإن كان ذلك يحدث فى مناطق أخرى من العالم!، واختار جاد أن يفلسف كل ما يحدث ويظل على اتهامه للدنيا التى لا ذنب لها فيقول: «آه لو يتكاشف الناس!.. آه لو تعلن سرائرهم للأعين كوجوههم وثيابهم، ألا يبدون حينذاك كألعوبة بائسة؟ ولكن ما عسى أن تكون اليد التى تلعب بهم على هذا الوجه المزري؟ من الذى يتحمل تبعة هذا السخف المحزن؟ الدنيا كما يظن هو، أما الإنسان نفسه فهو كما يظن الشيخ إبراهيم!

• فى البحث عن معني

وفى قصة: «حكمة الموت» يثور بطله على نفسه موقنا بفراغ حياته، وخلوها من المعنى فقد ذكر حياته الحكومية فإذ به «يذكر أنه كان ولاشك موظفا مجتهدا لكنه كان دائما أضعف من أن يقاوم الوسط الذى وجد فيه، فكان يجارى التيار، ويتفادى التصادم، ويخنع إشفاقا من النقل والاضطهاد فأدى به خوفه من الاضطهاد إلى أحط أنواع الاضطهاد والذل، ووجد نفسه يخوض فى الأعراض، ويجامل فى الحق، ويتغاضى عن الذل، ويسكت على «الإهانة» فإذ به يستفيق لحاله، ويسأل أسئلة وجوده، ومصيره فيقول:

«ماذا صنعت بحياتي؟.. قد يطرح هذا السؤال قوم يأتيهم الجواب السعيد فى آيات الفكر التى أورثوها الإنسانية كافة أو الأعمال المجيدة التى بذلوها لأوطانهم أو الكفاح النبيل الذى أدوه للأسرة والأبناء، أما هو فلم يك واحدا من هؤلاء لم يضطلع بتبعة من تبعاتهم، ولم يبذل تضيحة من تضحياتهم، ولم تكلل هامته بوسام من أوسمة مجدهم وجهادهم فلم يختلج فى صدره قط معنى من معانى الإنسانية ولم يعرف الوطنية إلا شقشقة لسان وجدل فراغ، ولم يقدم على الزواج ولاقدَّر ما فيه من مغزى طبيعى أو واجب اجتماعى نبيل، وبالجملة عاش لنفسه يرسف فى أصفاد الأنانية، وينزلق يوما بعد يوم فى مهاوى الحيوانية والجمود».

لكن بطل قصته يستفيق على حادثة موت يسمع بها فيعذبه أن يذهب من على وجه الدنيا ولم يترك أثرا طيبا فقد ذكر ليالى الحانات وموائد القمار، والمستهترات اللواتى اتخذهن خليلات فينتفض لنفسه، وصار يطلب كرائم الأعمال، وبحث عن الحب وتزوج، وراح يحكى لصديقه الطبيب ماذا فعلت فكرة الموت بحياته! من تغيرات وتطورات.

لكن الطبيب قال له ساخرا: «ويحك.. أتتوب عن نعيم الدنيا لدنو الموت منك؟.. انظر إليّ.. ألست ترانى أواصل الليل بالنهار عملا واجتهادا وراء المجد والشهرة والنجاح؟

أفتعلم لو اطلعت على الغيب، وعلمت أن الموت منى قريب؟

.. لاشيء.. الخلد إلى الراحة والدعة، وأقضى ما بقى من حياتى بين الكأس والخدود!

وضحك ضحكا عاليا متواصلا ثم قال بنفس اللهجة الساخرة:

«ولكن أتعلم متى أتوب حقا عن المهالك؟

وأهب نفسى للعلم والفضيلة؟

إذا وجدت الخلود ممكنا فى هذه الدنيا».

وأصغى إليه محمد فى صمت وجمود، وازداد عجبا وتأملا.. وفى هذه القصة تتبدى ملامح فن نجيب محفوظ القصصى من عمق المفارقة، والإعراب عن الاختلاف، وترك الحرية للشخصيات لتتحدث عن مواجدها ودواخلها كما تتأكد رؤية كاتبنا للإنسان ودوافعه للفعل، وتتمثل فى أن الإنسان بطبيعته مؤمن، والإيمان أشبه بحاجة غريزية بالنسبة إليه، وهو ما طرحه كاتبنا فى إحدى مقالاته الفلسفية التى نشرها فى «المجلة الجديدة» وكانت بعنوان «احتضار معتقدات وتولد معتقدات» مما يدل على أنها من الأفكار الرئيسية لدى نجيب محفوظ وقد نشرت بتاريخ أكتوبر 1930، أما قصة «حكمة الموت» فقد نشرت فى مجلة «الرواية» بتاريخ 15 أغسطس 1938، ص761، وفى هذه المقالة أعرب كاتبنا عن رؤيته للإنسان الذى لابد له من إيمان، فإذا لم يتوافر الإيمان الدينى فلابد له من إيمان بديل يسلم إليه نفسه وفكره كما يقول عبدالمحسن طه بدر فى كتابه «نجيب محفوظ - الرؤية والأداة» ص40.

فإذا عدنا من هذا المنطلق لتحليل قصة «حكمة الموت» سنكتشف أن هذه القصة كسابقتها قصة «الأراجوز المحزن»، تكشف عن إيمانين لا يتعارضان، الإيمان الدينى عند بطل القصة «محمد عبدالقوي»، ولا تخفى دلالة الاسم فى الإشارة إلى المغزى، والإيمان الدنيوى بالحياة التى لابد أن تعاش كما ينبغي والتى  عبر عنها صديقه الطبيب عاشق الحياة التى يتمناها خلودا لا فناء، وهى الفكرة الأكثر تجذرا وثباتا فى إبداع كاتبنا، فكرة الإيمان بالحياة التى هى جوهر الدين، والتى عبر عنها محفوظ بوضوح فى «أصداء سيرته الذاتية» فيقول تحت عنوان:

• هدية

«فى عز الشيخوخة وعجزها ينتشر التأمل مثل عبير البخور.

وقال لصاحبه العاكف على العبادة وكأنه يعتذر.

- فى زحمة هموم أسرتى، ومطالب الشئون العامة ضاع عمرى، فلم أجد وقتا للعبادة.

فى تلك الليلة زاره فى المنام من أهدى إليه وردة بيضاء وهمس فى أذنه «هدية لا يستحقها إلا العابدون الصادقون»ص44،ص45».

بل ويختزل كاتبنا حكمته - فكرة الإيمان بالحياة وجوهر العبادة - فيقطرها فى عدة كلمات فى «أصداء سيرته الذاتية» فيقول تحت عنوان:

• المهزلة والمأساة

قال الشيخ عبد ربه التائه:

من خسر إيمانه خسر الحياة والموت.

• كيف نواجه وحش الفناء؟

تظل أعمال نجيب محفوظ معاصرة بل وذات نظرة مستقبلية لأنها ارتبطت بمناقشة قضايا وجودية، وتأمل مصير الإنسان فأبطاله لا يبحثون فقط عن طريق لتحقيق أحلامهم بل يقفون دائما فى مقام الحيرة، وإذا كان بطله عبدالرحيم جاد فى قصة «الأراجوز المحزن» يبحث عن طريق لتحقيق حلمه بسعة العيش، وكفالة أخواته، وحلمه كمواطن بتحقيق قيم العدالة الاجتماعية، والقضاء على الفقر، فإن من أبطال قصصه أيضا من يبحثون عن المعنى العميق للحياة كما فى قصة «حكمة الموت» وقصة أحزان الطفولة، التى فقد فيها بطله الأمان والطمأنينة بعد وفاة والده، خائفا من وحش الفناء القريب الذى يبتلع الجميع، وهم يتخبطون على غير هدى، يأملون ويشقون فى غير جدوى، ويأملون بالأوهام فيهتف بسؤاله الوجودي: «أى حياة هذه؟ وما الفائدة منها؟ وما الحكمة من وجودها؟ وكيف يستطيع أن يطمئن على حياته فى هذه المعركة الخاسرة»؟ لكنه استطاع أن ينهض بنفسه ويستمسك بمحبته للحياة، دنيا الجمال والمتع التى يشرق حسنها فى السموات والأرض، والإنسان والحيوان والجماد لا دنيا الزلازل والحرائق والأمراض والفناء.

أما بطلة قصته «ثمن الأمومة» والتى نشرت فى «مجلتي» فى 8 نوفمبر 1938، فهى الأخرى تبحث عن معنى لحياتها بعد أن فقدت زوجها، فصار طفلها هو المعنى الحقيقى لحياتها فتفرغت لتربيته ورعايته رافضة كل عروض الزواج، وعندما ذبلت زهرة شبابها وذوى جمالها كان طفلها قد شب عن الطوق، وتخرج فى مدرسة المعلمين وأصبح حلمه أن يتزوج فشعرت الأم بانهيار أحلامها فى بقائه إلى جانبها، لكنها بحثت عن معنى جديد لحياتها ونبذت أنانية كادت أن تسيطر عليها، أنانية تود أن تمنعه من الزواج، وأن تستأثر باهتمامه ورعايته، فالبطلة هنا حققت حلم أمومتها فلما اكتمل صارت تبحث عن معنى آخر للحياة، ومثل هذه الشخصيات التى تتوهج بأسئلة الوجود تتألق فى أدب نجيب محفوظ ويكمن توهجها فى كونها حققت أحلامها لكنها ما زالت تبحث معنى لحياتها.

فنراها تنصت لنصيحة أمها فتعيد النظر فى موقفها المتشدد من ابنها تقول الجدة: «لقد حنوت عليك وعلى إخوتك ولكنى لم أطالب أحدا منكم على حنانى ثمنا فالمن يفسد الإحسان والمباهاة تشوه الإخلاص، وإن بين النصيحة والأنانية لخيط رفيع فحاذرى أن تقطعيه، فوقر الكلام فى نفسها وقدَّرته تقديرا، وبحثت عن معنى جديد لتضحيتها فرفضت أن تكون تضحيتها أنانية مستترة، أو أن يكون عنادها عثرة فى سبيل سعادة ابنها، ووجدت أن أسوأ ما ينتظرها من المصير لا يساوى فى قساوته، وشديد وقعه عليها ما تهيئه لابنها من الشقاء بتجهمها فى وجهه، وحيلولتها بينه وبين ما يرغب من الحب والسعادة فقست على نفسها قسوة الزاهدات، واكتشفت معنى جديدا للحياة فى العطاء والإيثار.

إن أبطال محفوظ وقد وقفوا يتساءلون عن المصير، ويهتدون دائما إلى طريق يحققون به أحلامهم، وآمالهم قد يزدادون حيرة بعد تحقيق الأحلام.

فيبحثون عن معنى جديد للحياة فيكون لذلك شأن آخر بالمعنى الفلسفى كما يقول يوسف الشارونى فى تحليله لشخصية عمر بطل رواية «الشحاذ» لنجيب محفوظ.

(يوسف الشارونى 2010، رحلة عمر مع نجيب محفوظ المجلس الأعلى للثقافة، ص64).

..............

الحياة وكيف نعيشها؟ التدين ومعناه، وحقيقة الإيمان وكيف نصل إليها، كلها أسئلة الوجود الإنسانى التى ظهرت فى قصص نجيب محفوظ الأولى المجهولة والتى لازمت رحلته الإبداعية، ومن هنا كانت أهمية هذه القصص التى جمعها محمود على فى كتابه «قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر» .

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز