عاجل
الإثنين 23 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
مشروع مصطفى الغلاييني والدفتر المفقود

مشروع مصطفى الغلاييني والدفتر المفقود

بقلم : د. عصمت نصار

2)  إنما الأمم الأخلاق



لما كان من العسير بسط كل آراء المصلحين ومشروعاتهم تجاه معوقات الواقع المعيش المتمثلة في:- تشاؤم الجمهور ويأسه وتشويشه وتعجله وارتيابه في السلطة الحاكمة، وافتقاد القدوة بين نخبة المثقفين الذين اعتادوا تضليله تارة ومعاملته معاملة الأوصياء الناصحين تارة ثانية وإهدار طاقاته والعجز عن استثمارها تارة ثالثة، وعدم مصداقية الإعلام وتدني لغته لدرجة الإسفاف. ذلك فضلا عن ذيوع روح التمرد والعصيان بين التجمعات الشبابية –تلك التي خلقتها البطالة وغيبة الرقابة من الأبوين وأصدقاء السوء وانتحال الأفكار الشاذة-، ناهيك عن ارتفاع معدل الفساد والعطب الأخلاقي وانحطاط الأذواق في الرأي العام التابع والقائد على حد سواء.

فأنني أرشح للقراءة والتفعيل مشروع المفكر اللبناني "مصطفى محمد الغلاييني" (1885-1944م)، وهو يمثل التيار الإصلاحي في مدرسة الإمام محمد عبده. كما أن كتابه (أريج الزهر) الذي صدر عام 1911م يجمع نفائث ما كتبه التربويون العرب القدامى من جهة ويلخص معظم آراء معاصريه من المجددين في مصر والشام في ميدان التربية والأخلاق من جهة أخرى. وقد تعمدت تقديم هذه الشخصية الفذة لإلقاء مزيدًا من الضوء على مكانتها ودورها في حركة التنوير والتجديد والإصلاح وإخراجها من دائرة الظل.

والجدير بالذكر أن مصطفى الغلاييني قد حاول الجمع في مشروعه الإصلاحي بين الوازع الديني والنهج العلمي المستمد من الخبرات العملية في التربية وذلك في مخاطبته للجمهور من جهة والرأي العام القائد من جهة أخرى، وذلك للبرهنة على أن الطريق الأوحد لأي نهضة تنويرية وأي مشروع إصلاحي يبدأ بتقويم البرامج التربوية والأخلاقية باعتبارها ممثل للفلسفة التطبيقية لترسيخ مشخصات الهوية وتوجيه الأذهان إلى مقاصد حركة التجديد ومشروع التنوير الذي اضطلع به الشيخ محمد عبده ومدرسته في مصر والشيخ حسين الجسر في بلاد الشام.

وإذا ما حاولنا الوقوف على موقف مصطفى الغلاييني من قضية التفاؤل والتشاؤم، فإننا سوف نجده أميل إلى القول بخيرية العالم وأن الله خلق الإنسان على نحو قابل دومًا للاستقامة والفضيلة وأن الشرور التي تبدو في سلوك الأفراد ليست من طبائعهم التي فُطرت عليها روحهم، بل هي أمور نسبية طارئة شكلتها البيئة المحيطة والعادات والتقاليد الاجتماعية، وعليه فالإنسان الفرد وليد بيئته فإذا ما صلحت استقام سلوكه وتثقف عقله وارتقى ذوقه، وهو في ذلك يقول "وإني مع القوم القائلين بأن المرء مفطور على الفضيلة. وذلك أن النفس التي أودعها الله سبحانه في الإنسان هي من جوهر صاف نقي، لأنها هبطت إلى هذا الهيكل الإنساني من مكان مقدس رفيع، ليس فيه سوء ولا رذيلة وإنما يكتسبها من البيئة التي يوجد فيها، كما أنه يزداد لطافة وطهارة من بيئته، إن كان أهلها من الأصفياء والأطهار. فالنفس كالبلور النقي الشفاف، يبقى محفوظا من الدنس والأوساخ إن مُنع عنه الغبار والطوارئ التي تزيل بهجته وصفاءه، ويزداد صفاء ورونقا إن زيد على ذلك تعهده بالصقل والتنظيف".

وعن أسباب انحطاط الجماعات والمجتمعات والأمم يؤكد الغلاييني أنه من الخطأ رد ما يصيب الأمم من عطب في الأخلاق وفساد في الأذواق والذمم وانحطاط في التربية والتعليم، إلى سياسات القادة والرؤساء فحسب، وذلك لأن الحكومات تخرج من رحم الأمة، فإذا ما كان المجتمع فاسد تولى عليه من هم أقرب إلى جنسه وإلا انقلب الشعب عليهم وتمردوا وثاروا لإصلاح ما أفسدوه وإعادة بناء ما هدموه، ويقول: "فإن كانت الأمة مستقيمة ميالة إلى العدل والحرية والفضائل حكمت بحكومة لا عوج فيها ولا استبداد ولا جور ولا رذيلة، وإن كانت الأمة جهلة فاجرة لا يريد أفرادها العدل ولا يخضعون للحق حكمت بحكومة جاهلة فاجرة ظالمة مستبدة عوجاء لا تميل إلى الحق، ولا تخضع للعدل. والخلاصة أن أخلاق الأمة –إن خيرا وإن شرا- تنطبع في مرآة وجدان الحكومة. فإن أرادت الأمة أن يكون لها حكومة عادلة ودولة قوية، فعليها بإصلاح أخلاق أفرادها وتعويدهم الفضيلة والحرية الصحيحة وحب العلم وغير ذلك من الصفات والملكات العادلة، ومتى تم لها ذلك وصار الشعب عادلاً عالماً متربياً أضحت الحكومة تابعة له رقياً وعدلاً، ومتى أضحت الحكومة كذلك انقطعت أسباب الرشوة والحكم بغير الحق".

ويضيف الغلاييني أن غيبة العلماء المصلحين العارفين بأدران الأمة وأدويتها في المجتمع، ينعكس بطبيعة الحال على نسبة المهذبين فيه، فإذا كان المصلح مخلص النية ولا يهدف من دعوته إلا تقدم الأمة وإسعاد الناس فكان ذلك هو القائد الأمثل، أما تجار الكلمة من الجهلة والانتهازيين الذين يتقدمون الصفوف ويعتلون المنابر دون استحقاق فهم أخطر الناس على المجتمع، وذلك لأنهم يزيفون الوعي ويضللون العقول ويقتلون روح الأمل والطموح في صدور الشباب ويتاجرون بمعارفهم المشوشة وعقائدهم المزيفة. ويحذر الغلاييني من خطورة مسايرة الجمهور للأدعياء أو خضوعه للحكام المستبدين الذين يتعمدون تجهيله وسجنه في قوالب التقليد وتقييده بأراذل العادات.

ويؤكد الغلاييني أن مهمة تثقيف الرأي العام لا يمكن إسنادها إلى رجال الدين فحسب -مع التنبيه على أن بينهم الأتقياء والأشقياء والمصلحين والمفسدين وطلاب الحق والمتاجرين به-، بل نجده يسند رسالة إيقاظ الرأي العام وإنهاض الأمة إلى خمسة صنوف من رجالات الإصلاح والتجديد والتنوير وهم: (المجدد في الدين، والثري المعطاء، والمثقف الذكي، والحاكم العادل، والمشرع الحصيف).

فالفقيه الورع العارف بمقاصد الشرع والعالم بوقائع المجتمع هو المنوط وحده بالوعظ والإرشاد.

ثم رجال الاقتصاد من أصحاب رؤوس الأموال وملاك المصانع والضياع فعليهم عبء المشاركة في فتح المدارس وتشييد المصانع وإصلاح الزراعات ومد الأسواق بكل ما يسد احتياجات أفراد المجتمع دون استغلال أو غش.

ورجال الإعلام من أصحاب الجرائد والأقلام "وهؤلاء عليهم أن يتجردوا عن كل غاية سافلة، ويتنحوا عن ذكر ما يوقع الأمة في الاختلاف والتفريق، أو يجلب عليها هواجس وأفكار سيئة –وهي في حاجة إلى ما يطمئن بالها ويسكّن جأشها- وعليهم أن لا يذكروا إلا ما كان خبرا يغلب عليه الصدق، أو مقالا يفيد الأمة، ويبعث فيها روح الجد والسعي وإلى ما ينهض بها من كبوتها، ويقيلها من عثرتها. فرجال الأقلام هم قادة الشعب، فإن أحسنوا القيادة أوصلوه إلى الغاية الحسنة والعاقبة الحميدة، وإن أساءوها كانت عاقبته الاضمحلال والدمار وغايته السوء وخراب الديار"، ويحذر الغلاييني العوام من خبث المأجورين ومروجي الإشاعات وملفقي الواقعات، ويعدهم أخطر على الأمة من الجهل والمرض، ويقول فيهم "اتقوا الله يا أرباب الأقلام! وتفكروا يا أصحاب الجرائد! ولا تدعوا الأصفر الرنان يسيطر عليكم فتنشروا الأكاذيب والمطاعن الشخصية. اتقوا الله في هذه الأمة، وخذوا بأيديها إلى ما يفيدها وانشروا لها ما ينهض بها، فإنكم رعاة لها (وكل راع مسئول عن رعيته)".

أما رجال الحكم والقضاء والنظام والأمن والسياسة، فعليهم المهمة الأكبر في الحفاظ على كيان المجتمع وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وإحقاق العدل وتطبيق القانون على سائر أفراده دون تمييز بينهم، وتطهير الدواوين من الفساد، والضرب على يد المرتشين والانتهازيين، والتخطيط لكل ما فيه خير المجتمع وإسعاده والحفاظ على ثرواته ورعاية أفراده غنيه وفقيره، طفل وهرم، رجل وأنثى، مسلم أو على ملة أخرى. "يا رجال الحكومة أصلحوا أنفسكم وعوّدوها العمل بالقانون قبل أن يأتيكم يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون،... ولا تظنوا أن هذه الفوضى تدوم، فما هي إلا سحابة صيف عن قليل تقشع".()

وآخر الفئات المحمودة التي يعول عليها مصطفى الغلاييني لحمل راية الاستنارة والإصلاح، هم نواب الشعب الذين اصطفتهم الجماهير وفوضتهم للحديث باسمها والدفاع عن صوالحها ومراقبة الحكومة لضبط أداء وظيفتها وسن القوانين التي تحقق غاياتها ومقاصدها "إن مجلسنا النيابي هو أشد احتياجا إلى الاتحاد والوئام من كل المجالس النيابية في العالم، لأنه يضم في ردهته أعضاء مختلفي الأديان والمذاهب والأجناس، فإن كان أهل كل جنس أو دين ينظرون إلى غيرهم نظر الاحتقار، ويناوئونهم في كل ما يطلبون (ولو كان وراءه نفع عظيم) فهناك ضياع الأمال".

ويوضح الغلاييني أن السلام الاجتماعي والتسامح الملي والارتقاء العلمي والوعي الثقافي وغير ذلك من رعاية صحية ونهضة صناعية وكفاية في الإنتاج وعدالة في التوزيع، كل ذلك من مقومات الفلاح والنجاح لأي أمة مرهون بتعاون هذه الفئات الخمسة وتحاورها من أجل انتخاب الأفضل من التصورات والآراء وتفعيله في خطة الأمة الإصلاحية. "فعلى كل رجل من رجال الإصلاح أن يتجرد عن كل غاية، ويسعى السعي الحثيث لمصلحة الوطن، ويعمل كل وسيلة لبتر كل عضو فاسد في المجتمع. والله لا يضيع أجر المحسنين". .. "ولكن أن لنا برجال ذوي إرادة تدفعهم إلى القيام بما ينجح الوطن، وينهض به من هذه الكبوة، وينقذهم من تلك الهوة. وأكثر رجالنا قد شغلتهم أنفسهم وأغراضهم الذاتية عن النظر فيما ينفع الأمة ويقيلها عثرتها. فلو تجرد رجالنا الذين أودع الله فيهم الاستعداد لعظائم الأمور عن الأنانية، وتفرغوا لما يفيد، ووجهوا إرادتهم إلى نفع بلادهم، وصرفوها عن الشر، لبلغنا ما بلغه سلفنا من التقدم وإخضاع أمم الأرض".

وعليه فنجده يرى أن القوانين والدساتير واللوائح لا تستطيع تهذيب الأمة ولا إيقاظ الرأي العام ولا تقويم الحاكم الفاسد. بل إن ذلك الرقي الأخلاقي والارتقاء الحضاري الذي نأمله لأمتنا لن يتحقق إلا بإدراك جل أفراد الأمة وتربية جميعهم على أن الفضائل الأخلاقية والروحية والاجتهاد والسلوك المستقيم في العلم والعمل وغير ذلك من عوائد التمدن أضحى الآليات التي لا غنى عنها إذا ما أردنا حياة حرة كريمة ومجتمع ينشد السعادة لأفرادها ويغلب المنفعة العامة على دونها من مطامع وأغراض خاصة، ويقول "القوانين لا تجعل الناس أحرارا، مهما كانت فاضلة، غير أن الناس قد اعتادوا أن يعتقدوا أن خيرهم ونجاحهم مسببان عن الأنظمة التي تُحكم بها بلادهم، وهم مخطئون في هذا الاعتقاد خطأ بينا لا يغتفر، إذ أية فائدة من القوانين إن لم تكن نفوس الشعب مستعدة لما تحويه من الأصول والمواد؟ بل أي نفع من النظامات إذا لم يوجد لها حاكم أمين ينفذها بكل صدق واستقامة ... وما للقوانين من فائدة عملية سوى أنها تكون بمثابة المرشد للشعب والدليل للحاكم، يستعين به على إجراء العدل والحكم بالحق حتى لا يميل ولا يجنف".

ولا ريب في أن كلمات الغلاييني التي تعبر عن مشروعها الإصلاحي المستمد من استقراء دقيق للمجتمع وأزماته واحتياجاته، أبلغ من أي تعليق. الأمر الذي يقطع بأننا لسنا في حاجة لتجديد الخطاب الإصلاحي، بل نحن أحوج ما نكون إلى إرادة فاعلة لتطبيق مثل هذه الخطابات التي طالما أهملناها على الرغم من حملها على أرفف مكتباتنا.

وللحديث بقية

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز