عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (14)

تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (14)

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

وصل بنا المطاف سابقا عند الحديث الإلهي سبحانه وتعالى عن خلقه للنفوس كوحدة متكاملة وشطره لها لجزأين (ذكر وأنثى) ومنحه سبحانه لكل جزء منهما جسدا يتوافق في طبيعته وقدراته مع خصوصيات كل جزء من النفس التي سوف تستخدمه فترى الرجل تتوافق فيه نوازع الخشونة والإقدام مع بنيان جسده العظمي والعضلي بل والعصبي والدوري والجنسي .. وغيرها من أجهزة جسده وخصوصيات طبيعة عملها وقدراتها ، وهو ما يختلف عن نوازع الرقة والأنوثة النفسية والتي تتوافق معها خصوصيات الجسد الأنثوي من لين ونعومة بل وطبيعة عمل جميع أجهزة جسدها ليكون الجسدين قابلين للتكامل في لقاء جسدي كنتيجة منطقية لتكامل نفسي بسبقه ويمهد له ، ليكون الناتج من هذا التكامل هو استمرار مسيرة الاستخلاف بأجيال جديدة ومتجددة على الأرض .



ولكن عجبا لمن يمتلكون بين أيديهم حديثا متكاملا عن حركة النفوس على الأرض وتتابع إنشائها حتى يوم القيامة ، ثم تراهم هم أول المنكرين لما قد يشير له البعض بإمكانية العودة للدنيا مرة أخرى ، أو وجود حياة أخرى بعد انتهاء حياتهم على الأرض ، حتى أصبح الغالبية العظمى مقتنعين بأنهم سيظلون أسرى القبور بعد موتهم بل وبعضهم يرعب قلبه خوفه فقط من معاناته من الدفن في التراب والظلمة والوحدة في القبر ، وكأن ابن آدم لا يكفيه ما كتبه الله عليه بأن يذوق آلام خروج الروح من الجسد (كل نفس ذائقة الموت) ، ولكن لابد وأن يمارس الإنسان شهوات انحراف خيالاته وأهوال نفسه الموسوسة ، فتنسج خيالات النفوس المريضة عبر التاريخ قصص الرعب القبري التي لم يرد ذكرها في القرآن مطلقا ، ولكن يؤكده معظم علماء ورجال الدين في الأديان السماوية خاصة في المسلمين الذي يجمعون على قولهم .. { أما عذاب القبر فثابت في الكتاب بقوله تعالى: وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ{غافر: 45-466} ، وقوله تعالى:سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ {التوبة:101}. وقوله تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {الطور: 477} ، رغم أن الآيات التي يستشهدون بها لا تقول بأي صورة أو حال أنهم يعذبون في قبورهم ، ولو كانوا يعقلون أو يفقهون أو يتدبرون لفهموا أنهم مدعون بالباطل ، لأن القبور هي مثوى الأجساد التي هي ليست سوى مطية أو وسيلة تعامل مؤقتة نتركها ونغادرها بلا عودة عندما تغادرها الروح (سر الإحياء) فتتحلل وتعود لأصلها ترابا في الأرض ، ولكن الإنسان الذي ذاق الموت هو نفس توفاها ربها ، وينشئها في نشأة أخرى مماثلة للنشأة التي غادرها لفساد جسده وتحلله وكان آخر عهده بها أنه قد ذاق آلام خروج الروح من هذا الجسد ، ولابد وأن ينشئه الله في نشأة أخرى { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } الواقعة{60 :62} وهذه النشأة الجديدة تعتمد في طبيعتها على نتاج عمله في النشأة التي سبقتها ، وفي هذه النشأة الجديدة يمكن أن يذوق فيها عقاب كفره أو شركه سابقا ، فلا بقاء في قبر ولا عذاب في قبر ولكنه عذاب في نشأة جديدة بعد تذوق الموت والتي فيها أيضا يمكن أن يتم القصاص منه على ديون {حقوق لبشر) لم يسددها سابقا قبل موته فيعود للدنيا بنشأة أخرى ليسددها شريطة أن يكون صادقا ومعترفا بها { فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ، تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }، أو أنه يستمتع في نشأته الجديدة بجزاء الله له على صبره وحسن أداءه ، وفي جميع الأحوال يظل الإنسان في نشأته الجديدة والتي قد تتكرر مرة أو مرات حتى موعد الساعة أو القيامة أو ربما تكون مرة واحدة مستمرة حتى يوم القيامة فذلك شأن وقدر الخالق وعدله ورحمته بعبيده وخلقه.

وهو تماما ما يقوله القرآن وأبسطها قول الله تعالى .. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }البقرة28 ، وقوله تعالى .. {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ }الحج66 ، وقوله تعالى   {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }العنكبوت19 ، ولكنهم لا يقرءون وإذا قرءوا لا يفهمون وإذا فهموا تمنعهم شياطينهم أن يعترفون بضلالاتهم التي هم لها خاضعين ، وكيف لا يفعلون ، وهم لإبليس جنود طائعين وباسم الدين ، ونقف طويلا عن قول الله تعالى .. {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }الروم11 ، أي أن الله تعالى قد أصدر قراره الرباني بأن يعيد الخلق مرة كاملة قبل أن يرجع إليه جميع خلقه في يوم جامع للحساب ، فهل نحن اليوم نحيا في مرحلة الخلق الأول أم في مرحلة الإعادة ، وهل نحن اليوم في نشأة أولى أم في نشأة أخرى سبقتها نشأة أو اثنين أو أكثر ؟؟ ، أسئلة كثيرة تتبادر لعقل المحاول فهما وتدبرا ، والتي عندها يحسم الله الشرود والانحراف بالفكر بقوله تعالى (فيما لا تعلمون) ، أي أن الله برحمته وعدله بنا قرر سبحانه ألا نعلم أين ومتى نحن نحيا ، حتى نتساوى جميعا في حيادية وحرية اتخاذ قراراتنا ونوايانا حيال دنيانا دون ضغوط أو رهبة مخضعة ، ويكفينا أن نعلم أننا خلقا في منظومة محكمة خالية من كل أوهام وخيالات البشر التي يدعون زورا وبهتانا أنه مقدسات للدين .

فالله سبحانه يخبرنا في حديثه المتصل في القرآن الكريم من واقع قدرته وعلمه { فهو على كل شيء قدير} ، ولكن البشر بعقولهم القاصرة يقيسون قدرته سبحانه بحدود علمهم وما يرونه ، فيصرون أن الإنسان هو ما يرونه ويلمسونه وبأيديهم قد دفنوه في التراب ، وما قبره هذا إلا مكانا رأوا فيه جثته للمرة الأخيرة ، وهو قد غادرها تماما وانقطعت صلته بها بل انعدمت بمجرد خروجه منها ، وما أصبحت سوى ترابا كما كانت قبل أن يشكلها الله له ليحتلها ويستخدمه خلال رحلته في النشأة التي انتهت ، ولكن أكثر الناس لا يعقلون وهو قوله تعالى .. {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }العنكبوت63 ، ورغم أن الله تعالى أكد علينا استخدام العقل في فهم القرآن كدستور حياة متكامل في (75) موضعا وآية من القرآن الكريم ، منها في اثنتي وعشرين ( 22 ) موضعا وآية بقوله تعالى (يعقلون) ، وفي أربع وعشرين (24) موضعا وآية بخطابه تعالى المباشر (تعقلون) ، وفي أربعة عشرة (14) موضعا وآية بقوله تعالى { تفكرون) ، وفي ثلاثة عشر (13) موضعا وآية بقوله تعالى {يفقهون} ، ثم اختتمها بلوم قاس وشديد بقوله تعالى  {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ... }مرتين متتاليتين في سورة النساء وسورة محمد ، إلا أن المسلمين ما زالوا مصرون على عدم الفهم أو العقل وإغلاق أبواب تفسير القرآن وفهمه على عقول بشر ماتت منذ أكثر من (12) إثنى عشرة قرنا من الزمان ورغم أن ما تركوه لنا قد آل بالمسلمين لأقل مراتب البشر قدورا وقدرا ، وما زالوا من سيء لأسوأ ولكنهم كما يقول فيهم سبحانه متمسكون بما قاله أجدادهم .. {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }يونس78 ، وهو ما يجعل مهمة تصحيح المفاهيم صعبة وطويلة ولكنها أبدا ليست مستحيلة ، فرغم أنف كل المتشبثين بالزور والضلال المقدس ، ستسقط كل الضلالات وسيسقطون معها ولا أسف عليهم كما يقول رب العزة .. {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ }الدخان29 ، فالتطور والتبديل سنة الحياة وناموس الخالق في خلقه .

ولا شك أن النفس البشرية التي خلقها الله تعالى هي أروع ما خلق الله في كونه ، وهي أيضا صاحبة أجل وأعظم مهام العبودية في كل خلق الله في كونه العظيم ، وهي إعمار الأرض كخليفة لله عليها ، وإلا ما أمر سبحانه الملائكة وهم أفضل خلقه أن تسجد لآدم عليه السلام كرمز للبشر ، فقد خلق الله النفس ومنحها من صفاته ما لم يمنحه لخلق قبلها ، وكان أهم وأبدع ما منحها إياه هو الرغبة الفطرية للإتيان بالجديد (الإبتداع) ، وهي رغبة فطرية في نفس كل إنسان على الأرض فتدفعه دوما أن يحاول فعل أو ابتكار شيء لم يفعله أحد من قبله ، وهي الصفة الفطرية التي تميز بها فئة العمار من خلق الله ، ولكن هذه الصفة الممنوحة من الله رغم عظمتها وروعتها وقدرتها على رفع من يحسن استخدامها لدرجات أرفع وأعظم من الملائكة ، إلا أن إساءة استخدامها تهوي بصاحبها لأحط الدرجات وأكثرها تعرضا لعقاب الله وسخطه وغضبه ، وبسبب خطورة هذه الصفة فقد منح الله النفوس مجموعة من الصفات والملكات والقدرات لتكون حماية وعونا له في مسيرة أدائه للمهمة التي خلقه الله من أجلها وهو ما سوف نستكمله لاحقا ...

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز