عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الإرادة الحرة وتربية الرأي العام

الإرادة الحرة وتربية الرأي العام

بقلم : د. عصمت نصار

3) بناء الفرد أولاً



لم يغفل التربويون المحدثون بداية من رفاعة الطهطاوي إلى أحمد أمين وعبدالعزيز جاويش وغيرهم من اللذين اجتهدوا في وضع الأسس التي ينبغي أن تتوفر في المصلحين التربويين من جهة والبرامج التعليمية من جهة أخرى، أساسين هما الحرية والإرادة الفاعلة، وكلاهما يجب أن ينبع من قناعات الأفراد ثم يشاع في الجمهور فتعتاد الأمة على ممارستهما وتألفهما في كل شئون المجتمع والسياسة والعلم. الأمر الذي كان وراء اهتمام مصطفى الغلاييني بترسيخ هذين الأساسين في مشروعه التعليمي والتربوي، إذ كان يعتقد مع "أبويوسف النمري المعروف بـ ابن عبدالبر" (978-1071م) أن النقد والاجتهاد والإبداع يتعذر وجودهم في المجتمعات الاستبدادية أو الرجعية، فجميعهم مخاض العقل الحر الذي لا يعصف به سلطان جائر أو يخرس صرير قلمه عصابة من المأجورين والمتعالمين. كما أن الإصلاح لا يمكنه الاعتماد على خطابات النصح والوعظ لمجابهة الفساد أو شحذ الهمم للعمل والبناء، بل الإرادة الفاعلة التي يجب تربية النشء عليها، فاحترام النظم والقوانين والعزوف عن منطق التحايل عليها والتصميم على فعل ما ينبغي فعله لا سبيل إلى تحقيقه سوى بإرادة واعية قانعة بأن سعيها لبلوغ الحق وتفعيل الأصلح واجب لا فكاك منه وإلزام والتزام لا يمكن الجنوح عنه.

فعن حرية الرأي وأصالة الاجتهاد يرى مفكرنا أن أصوب الآراء هي التي يهتدي إليها المرء بعد تدبر للواقع وانتخاب الأصلح من الحلول المقترحة ثم ترجيح ما يستحدث من رؤى والإصرار على تطبيقه ما دام هو الأجدر بحل المشكلة أو المنقذ من كبوة أو المعالج لنقص، دون أدنى تحيز للرأي الذي ألفناه والحكم الذي اعتدناه ويقول "إن أولى بالاجتهاد الفكري أن يرجع عنه صاحبه حين ظهور غيره أجلى منه"، ويستشهد في هذا السياق بسنة أكابر الفقهاء الذين كانوا ينصحون تلاميذهم بعدم كتابة فتاويهم وحفظها على أنها صكوك مقدسة، وإنما يُكتب الحديث وتدون الواقعة. ويحتج بالنص الواضح قطعي الثبوت والدلالة "فلعل الرأي الذي يفتون به اليوم يرجعون عنه غدا".

وعن كبار العظاميين أصحاب الجاه والنفوذ ونظرتهم الدونية للفقراء والمعدمين في مجتمعاتهم:- يقول "ماذا يفيدك أن لو حييت حياة الملوك، وأنت غير مالك نفسك؟ بل ماذا تنتفع أمتك من وجودك، إذا كنت لا تحسن إليها؟ أتظن أن أموالك تزينك وأن ملبسك يعليك وحسن هيئتك تسميك؟ إنك إذًا لمن المخطئين. أتزعم أن الفقير صاحب الخلق العظيم أقل منك مقامًا وأدنى منزلة؟ إنك إذًا لمن الظالمين ... خُلقت لعمارة الأرض وحسن السيرة في مناكبها خُلقت لتكون خليفة الله فيها. أهكذا تكون عمارتها؟ وهل بهذه الأعمال الشائنة تتولى خلافتها؟ ما بهذا أمرنا ولا لمثل ذلك خُلقنا! ... فهل أنت أيها الإنسان يا من خُلقت لعمارة الأرض يا من وُجدت لتكون خليفة الله فيها، تعمل بمقتضى صحة الله في الأكوان لتصح خلافتك عليها وتكون عامرًا لها؟؟ أهلها جّوع وقاطنوها جهلاء، فهم يأكلون بجهلهم لحوم إخوانهم ويخربون بسوء عملهم ما أمر الله بعمارته، وأنت أنت قادر على تعليمهم وإطعامهم، وتدبير أمورهم والنظر في إصلاح شئونهم".

ويحذر مفكرنا من غضبة المعوذين والجهلاء والمهمشين مبينًا أن رعاية الأغنياء لهم لا تعد من الفضائل التي حس عليها الشرع والمستحقات الواجبة عليهم أداءها فحسب، بل أنه يرى في رعايتهم شكلا من أشكال الأمن الاجتماعي فلا يعقل أن يسيء المحتاج لمن أعانه وعاله. كما أن التكافل الاجتماعي يعد إحدى آليات الحد من الفساد في كل صوره بداية من الانتهازية ونهاية بالرشوة والعنف وجرائم السرقة والحقد والكراهية التي تؤدي إلى الخيانة والغدر. ومن أقواله "فأغنياؤنا عباد أموال، وعلماؤنا خدام أقوال، وحكامنا رواد آمال، وقليل من هؤلاء وأولئك من يجود لمنفعة الأمة ويعمل بما يعلم ويحكم بما يوجبه الحق ويمليه عليه الوجدان".

ثم يعود ويؤكد أن خلاص الأمة في حسن تربية أبناءها وبذل الجهد والمال والطاقة في ترويض الأنفس وترقية الأذواق وتهذيب الأخلاق وتقويم العوائد، ولا ينبغي على الحكام –عنده- الاستخفاف بهذه الحكمة المجربة والانصراف إلى دونها من مسالك لإصلاح المجتمع. فإن كل سبيل غايته العلم والمدنية والقوة والمنعة قوامه التربية الصحيحة، لا للنشء وحدهم بل لجميع أفراد الأمة بمختلف أعمارهم، بداية من البيت حيث الأمة المعدة لذلك ثم المدرسة ومنابر التثقيف وأجهزة الإعلام وسلوك قادة الرأي وانتهاء باحترام القوانين، ويقول "فعلى التربية الحقة سعادة الأمم وفلاحها، وشقاؤها وانخذالها. فمتى كانت التربية صحيحة في أمة من الأمم، رفعتها من وهاد التأخر إلى ذروة الفلاح والعكس بالعكس. وعلى مقدار التربية تكون تجلية الأقوام في مضمار هذه الحياة. فما من أمة وجدت التربية الحقة في قلوب أبنائها متسعًا إلا بلغوا ما يأملون من رفاه العيش وسعادة الحياة. وبقدر التربية يكون في الأمم الرجال المفكرون الذين يبذلون وسعهم، وينفدون مجهودهم لترقية أمتهم وأوطانهم".

ويوضح مفكرنا أن العلة الحقيقية وراء أفول نجم حضارتنا العربية الإسلامية لا يرجع إلى ضعف حكامها وقلة مواردها الاقتصادية أو وهن جيوشها وغيبة علماؤها فحسب، فمثل هذه الآفات –عنده- ليست إلا عوارض وأعراض لداء عضال أو نتائج لانحطاط المجتمعات المتمثل في فساد التربية. والأدلة كثيرة –عنده- على صدق هذه الحقيقة، فالدولة العثمانية لم يسقطها سوى تفشي الظلم والعنصرية والأنانية والاستبداد والعنف فيها، واُنتزع التسامح والإحسان والعفة والحياء وحب العلم وأهله والعدل وقسطاسه من قلوب العامة قبل الخاصة. ولما نخر سوس فساد التربية والأخلاق تمكن منها الاضمحلال فوهنت فتكالب عليها الطامعون سلبًا وإذلالاً بعد عزة، فيؤكد مع الشيخ حسن الطويل (1834-1899م) على أن التربية هي منار التقدم، ورائد الفلاح لكل أمة تريد أن تربأ بنفسها أن تكون خاملة الذكر، أو تكون مع الهالكين.

ويحذر مفكرنا من مواطن الإجبار والعنف والاستبداد في برامجنا التربوية، ولاسيما مع النشء فالترغيب والتحبيب والتحلية والتخلية والتشجيع للاقتداء بأفاضل الرجال والنساء هو الطريق الأمثل للتعلم، ذلك فضلاً عن تعويدهم على التعاون فيما بينهم وغرس فيهم روح الولاء والانتماء لأوطانهم وتحليتهم بروح التسامح في النقاش واللعب والتساجل. وعليه لا ننتظر ممن تربى في بيئة استبدادية إلا الكذب والرياء والنفاق والتجبر والجحود، فهو يتفق مع ابن الجوزي (1116 – 1201 م) على أن (التعليم أمر مهم جليل القدر عظيم الفائدة، ولكن التربية أشرف وأنبل وأعظم وأجل، فإن العاقل الخبير، والناقد البصير، يرى من نفسه ارتياحا لقوم حسنت تربيتهم، ونبلت أخلاقهم، وكرمت نفوسهم ولو كانوا غير متعلمين) -وهو يتفق في ذلك مع أكابر المصلحين بداية من رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وعلي مبارك وبطرس البستاني وحسين الجسر والكواكبي ولطفي السيد وأحمد أمين والمنفلوطي وزكي مبارك -. ولا يعني ذلك أن مفكرنا ومن سار على دربه يهملون من شأن العلم وتحصيل المعارف والفنون والتزود بالخبرات، بل إنه يرى أن كل ذلك من دعائم العمران والتقدم والتمدن لكنه لا يستقيم دون قاعدة راسخة من التربية الخلقية السليمة. ويعني ذلك أن الغلاييني كان تطبيقيًا في نظرته للأخلاق، فها هو يكرر "ليس المراد مما قدمناه إنكار مزية العلم والتعليم، حاشا لله أن أكون من الجاهلين، فالعلم من أقوى دعائم المدنية وأقوى أسباب الرقي في معارج الحضارة والعمران. وإنما القصد أن التربية والأخلاق ومعرفة الواجب خير من العلم المجرد عن التهذيب والآداب والأخلاق الفاضلة، وهذا أمر لا ينكره عاقل، وما أحلاهما إذا اجتمعا في المرء ... فتعويد الأحداث على العمل بالواجب منذ الصغر يربي في نفوسهم تلك العاطفة التي نريدها، وذلك الشعور الذي نتطلبه. فالتربية في الصغر كالنقش في الحجر". ويستشهد في هذا السياق بمقولة أبي حامد الغزالي "إن الولد أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية عن كل نقش وصورة، فإن عُود الخير وعُلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلّم ومؤدّب. وإن عُود الشر وأُهمل شقى وهلك، وكان الوزر في رقبة وليه والقيّم عليه".

كما يحذر مفكرنا من مخاطبة الناس بما لا يطيقون فهمه وينهى المعلم من إلقاء المعارف والحكم في أذهانٍ قاصرة أو شاردة أو نفوس يغلب عليها الشر وكارهة للعلم، ولعله تأثر فيما ذهب إليه بما جاء في الأثر "لا تعلموا أولاد السِّفْلة العلم فإن علمتموهم فلا تولوهم القضاء والولاية" لأنهم إذا تعلموا أي أصبحوا ذوو نفوذ ومناصب نتيجة لهذا التعلم اجتهدوا في إذلال الشرفاء، وما أورده الماوردي "لا تمنعوا العلم أهله فتظلموا، ولا تضعوه في غير أهله فتأثموا". والجدير بالإشارة أن المقصود بالسفلة في هذا السياق لا يعني أبناء الفقراء أو المعدمين بل أولئك الذين  تمكنت الرذائل من أنفسهم والأحقاد من سلوكهم والعناد من أذهانهم إلى حد لا تنفع معه تعلم الحكمة أو الالتزام بالأدب أو الانحياز للجميل من الخصال.

وإذا ما نظرنا اليوم لسلوك شبيبتنا المتطرف وما طرأ عليه من السفالة والابتذال وعدم الإقبال على العلم والتعلق بالشهوات والغلو في التعصب وتفضيل العنف على اللين والهمجية على النظام وغير ذلك من مظاهر الانحطاط، سوف ندرك مدى عمق تحليلات مفكرنا ووقوفه على الدواء الشافي من تلك الشرور التي حاقت بهم فلوثت حياتنا الاجتماعية والسياسية والعلمية والتربوية والأخلاقية. وليس أدل على ذلك من أثر كتاباته في برامج التربويين المعاصرين في العالم الإسلامي.

ويتعرض الغلاييني متأثرًا بأبي بكر الآجري (877- 970م) إلى قضية آداب المهنة مبينا ضرورة تحلي المربيين والمعلمين بمكارم الأخلاق، أي أن السلوك القويم بالنسبة للمربي والمعلم أضحى عنده من مصوغات التعيين ومتطلبات المهنة. فهو يحذر من ترك مسئولية تربية الأبناء حديثي السن إلى من لا تتوفر فيهم دماثة الخلق وفضيلة الشرف والعفة والتسامح والصدق والعدالة، مؤكدًا مع محمد علي الشوكاني على أن السفالة والوضاعة وغلظة الطباع لا ينجم عنها إلا الشر ولا يعيش في كنفها إلا الجبابرة والمجرمين والإرهابيين. كما ناشد الآباء بوصفهما المربيين الأول، الحرص على تعويد أبناءهم السلوك الحسن بمنحى عملي، أي إنهم لا يرتكبون من الأفعال والخصال ما ينهون أبناءهم عنه (فلا يرددون أمامهم ألفاظ الفحش والبذاء وكلمات التخويف والتهويل كالبعبع والجن والعفاريت وغير ذلك مما يحدث في نفوس النبت أثرا سيئا لا يمحوه كرور الأعوام).

وللحديث بقية

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز