عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الحب ومفعول السحر فى قصص نجيب محفوظ

الحب ومفعول السحر فى قصص نجيب محفوظ

بقلم : د. عزة بدر

قراءة فى قصص نجيب محفوظ المجهولة.. «3»



 للحب مفعول السحر فى أدب نجيب محفوظ، يظل حاضرا بقوة كطاقة إيجابية عند أبطال قصصه.. وتدلنا قصصه المجهولة الأولى فى بداية مشواره الإبداعى على أن كاتبنا قد آمن بالحب كأقوى عاطفة تؤثر فى حياة الإنسان من مطلع شبابه إلى شيخوخته.

• فى أصداء سيرته الذاتية

بل إن كاتبنا ظل طوال حياته عاشقا لمعناه، مصورِّا لأثره فى نفوس شخصياته رجالا ونساء.

وإذا تأملنا رؤيته للحب فى أصداء سيرته الذاتية نستطيع أن نلمس تعلقه وشغفه بالحب حتى لو كان أطياف خيال، فقد كان لهذه العاطفة مفعول السحر فى نفسه، وفى نفوس شخصياته، وقد تعلق قلب نجيب محفوظ بالحب ورآه دوما «فرصة العمر» حتى لو كان محض خيال، وبدا ذلك فى أعماله الأولى، وكتاباته الأحدث، فقد ظل الحب ملازما له كطيفه ملازمة حياة فيقول محفوظ فى كتابه: «أصداء السيرة الذاتية» تحت عنوان «فرصة العمر»: «صادفتها تجلس تحت الشمسية، وتراقب حفيدها، وهو يبنى من الرمال قصورا على شاطئ البحر الأبيض، سلمنا بحرارة، جلست إلى جانبها، عجوزين هادئين تحت مظلة الشيب.

وضحكت فجأة وقالت:

- لا معنى للحياة فى مثل عمرنا، فدعنى أقص عليك قصة قديمة.

وقصت قصتها، وأنا أتابعها بذهول حتى انتهت، وعند ذاك قلت:

- فرصة العمر أفلتت، يا للخسارة!

ص 30

• الشعور والحرية

وكان محفوظ قد اهتم بفلسفة الحب منذ كتاباته المبكرة، وتبنى رأى الفيلسوف الفرنسى برجسون «1859- 1941» عن الشعور، وأهميته فيقول محفوظ فى إحدى مقالاته الفلسفية التى نشرها فى مجلة «المجلة الجديدة» عام 1934:

«يظهر الشعور بظهور الحياة، ويلازمها ملازمة الظل لأنه أساس العمل، وبيده تدبير الأمور والبت فيها، ويقدر على ذلك قدرة تامة لحفظه للماضى، وتقديره للمستقبل، ولذلك فهو يقوى، وينتبه حين يظل الحى على حالة تتطلب التدبير والاختيار بين حلول كثيرة، ويضعف حين يستغنى عن الاختيار، أو يقترب الفرد من العادة والآلية، ولما كان الاختيار مرادفا للحرية فعمل الشعور يقوم على الحرية، وبذلك يحكِّم الشعور الحرية فى المادة، وعليه فصفات وظيفة الشعور هى ذاكرة وتقدير للمستقبل واختيار وحرية».

«عبدالمحسن طه بدر: الرؤية والأداة - نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014، ص 49».

• الحب الكامل

وهو يورد فى كتابه ذاك مقتطفات من مقالتين لنجيب محفوظ عن الحب، إحداهما بعنوان: «الحب والغريزة الجنسية»، والآخر بعنوان: «فلسفة الحب»، ونشرا فى مجلة، «المجلة الجديدة» فى مارس 1934، وأكتوبر 1934.

فيقول: «حاول محفوظ تحديد علاقة الحب وطبيعتها، وهو فى محاولته هذه يكشف عن كون هذه العلاقة بالنسبة إليه غاية كثيفة لا يستطيع التوغل فيها فيلجأ إلى وصفها بألفاظ غامضة شاعرية فيقول محفوظ: «الحب هو تلك النسخة الحية التى تُشيع فى جميع الكائنات الحية تبصرها فى تآلف الخلايا، وتجاذب الأطيار، وتزاوج الإنسان، وقد يكون من الحكمة - إذا رغبنا أن نذكى إحساسنا به أو نسمو بعواطفنا فيه - أن نقصد جماعة الشعراء نصغى لأناشيدهم، وقد وهبهم الله من طاقة الإحساس بهذه العاطفة وغيرها ما يبلغهم مناهم فى تصوير العواطف العميقة، حيث يقف العقل حائرا مترددا».

وفى موضع آخر يقول محفوظ: «وإذا خلصت نفسك من جراثيم الفساد خلصت للحب الكامل، وخلص الحب للكمال والخير».

والحب الذى تختاره الشخصية هو مفتاح فهمنا لهذه الشخصية وسرها، و«لعل نوع الحب الذى منحه قلب الشخص يدل أقوى الدلالة على نفسيته وأسلوبه فى الحياة، ويكشف عن شخصيته، وما فيها من قوة وضعف، وسمو، وانحطاط، فالحب على هذا مفتاح سحرى نستطيع مع التأمل وحسن الفهم أن نلج به مغالق النفوس».

• اكتشاف الآخر والإحساس بقيمة الذات

وفى قصص نجيب محفوظ المجهولة العديد من القصص التى كان الحب محورها الرئيسى، وموضوعها الأثير، فالإيمان العميق بهذه العاطفة النبيلة ملأ جوانح أبطاله وأفعمها بحب الحياة، والتطلع إلى الآخر كشريك إنسانى فى ثروة من المشاعر تتبدى كطاقة إيجابية تتمثل فى اكتشاف الآخر والإحساس بقيمة الذات عندما تتوهج بأنبل المشاعر، ومن هذه القصص المعبرة عن هذا المعنى قصته: «الحب والسحر»، وهى على الرغم من بساطتها، وتقليدية الطرح الفنى فيها، فإن تأمل وهج شعور بطلها الرئيسى يشمل من يقرؤها فيلتذ من بساطة تعبيرها عن مشاعر رجل يتجاوب مع مشاعر فتاة ساذجة لجأت إلى السحر لتحصل على حبه واهتمامه فبادلها حبا بحب!

ولم يستجب لتحذير جارته منها التى أخبرته أن الفتاة وأمها تحتالان عليه مستعينة بالشياطين!

ويصوِّر محفوظ بطله وهو يسعى إلى الحب، ضاربا عرض الحائط بكل حذر أو خوف فيقول: «ولكن شغفه تغلب على خوفه فتقدم بخفة كأنه يسير على حبل فى ملعب، ووضع أذنه على باب الحجرة فلم يسمع حركة ولا نأمة فانحنى حتى استطاع أن ينظر إلى الداخل من خصاص الباب فرأى دخان البخور تتصاعد سحائبه فى هدوء إلى سماء الغرفة، واستطاع أن يرى سريره بوضوح، رباه، لم يكن خاليا!

كانت «فردوس» تتربع عليه فى ثوب أبيض ناصع البياض متلفعة بخمار أبيض كذلك كأنها على وشك صلاة، ورآها تضع على كفها رسالة مطوية تستغرق فى النظر إليها، وتحرك شفتيها حركة منظمة كأنها تتلو آية، ولبث ينظر إليها فى سكون ودهشة، وكان يجد قلقا غريبا، لكنه لم يشعر بغضب أو سخط، بل جعل يراقبها أخيرا فى شغف، ثم رآها تثنى حافة المرتبة، وتضع ما بين يديها تحتها، ثم رآها تتمدد على ظهرها فى هدوء، وهى تظن أنها بمأمن من الرقباء، وتسحب الوسادة وتضعها عليها بالطول، ثم احتضنتها بيديها كأنما راحت فى سبات عميق، وراقبها بعينين دهشتين وراح يتساءل: أكل هذا حقا من أجلى أنا؟!

أكل هذا لكى تتزوج منى أنا؟ واطمأن إلى المنظر الغريب، ووجد فى مراقبته لذة لا تعادلها لذة، وأحس تخديرا ودّ ألا يصحو منه أبدا، ويتدفق الحنان من حناياه فتمنى لو يحتويها فى تلك اللحظة بين يديه».

وينتهى الأمر ببطله إلى مفاجأة الفتاة وهى فى موقفها ذاك، وتنتهى قصتها الساذجة بنهاية سعيدة: «لم تستطع الفتاة البقاء فقامت واقفة، واتجهت نحو الباب لكنه اعترض سبيلها مرة أخرى وقال لها: «هل أنت غاضبة؟ صدقينى يا «فردوس» سأتزوج منك.

ونظر إلى وجهها بعين فاحصة فلم ير غضبا ولكنه أحس ارتباكها، وتعثرها بالخجل فأوسع لها، ولما حاذته هو بفمه فقبل خدها، ولم تقل له شيئا، وسارت حتى غَيَّبها الباب، ودخل الشاب إلى حجرته، وجلس على حافة سريره كعادته ثم دس يده تحت الحشية حتى عثرت بالحجاب فوضعه على كفه، يديم إليه النظر فى سكون وتهيب، ولم يجسر على فك رباطه فأعاده إلى مكانه وتفكر مليا، ثم قال وهو يبتسم: من يستطيع أن يقول بعد اليوم إن السحر خرافة؟! ص 280، ص 281.

وفى رأيى أن السحر هنا هو سحر هذه العاطفة التى أخذت بلب بطلها وخلبت وجدانه، هذا السكون والتهيب الذى تملكه وهو يتأمل هذا الحب اليانع الذى تدفق فى ابتهالات «فردوس» وصلواتها وأمانيها، وأن ذَوْبَ عواطفها ونقاءها وسريرتها الساذجة البريئة هى التى سحرت بطل القصة، وأودعت طاقتها الإيجابية فى نفسه، فبات يردد فى دهشة وبساطة فطرته: «أكل هذا حقا من أجلى أنا»؟ ص 280.

• الحب والخيال

وفى هذه القصص المجهولة قصة تمثل الطاقة السحرية التى يضفيها خيال الفنان على مشاعر الحب، فيخلع على المحبوبة أحلى الصفات، وأجمل الصور وتتبدى هذه الأخيلة الثرية فى قصته «بعد عشرة أعوام»، والتى يقول عنها بعض النقاد أنها تذكر بفترة مراهقة كمال عبدالجواد فى الثلاثية. «عبدالمحسن طه بدر: الرؤية والأداة - نجيب محفوظ» ص 87

وقصة «بعد عشرة أعوام» التى نشرت فى مجلة «الثقافة» بتاريخ 16 ديسمبر 1941، وأوردها محمود على فى كتابه «قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر»، قصة تمثل البنية الأساسية لنظرة نجيب محفوظ للحب كطاقة مجنحة تفيض بالخيال، وتُحَلِّق بالحب غير المتحقق فتستمد منه قدرة على التخييل، وحتى مهما بلغ اليأس من الحب مداه، فإنه لا يفقد إيمانه به، ويسمو به كطاقة إيجابية تحث على حب الحياة، وتقديس العاطفة حتى لو كانت حبا بلا حبيب وفى هذه القصة أيضا تتبدى محنة الخيال نفسه حين يصطدم بالواقع، ويقع المحب على صورة المحبوب الحقيقية فيصدمه ما وجد من صفات، ويتأمل ما خلع عليه من تصاوير فيعود إلى سماء الخيال ومتحف الحب احتفاء بالذكريات وبالمشاعر وبتاريخ وجدانى حافل بالتفاصيل، وهو ما يكشف عن طبيعة الفنان، ورؤية نجيب محفوظ فى تأمل علاقة الحب كطاقة شعورية، وعلاقة اجتماعية أيضا، فيقول من خلال بطله الذى رأى المرأة التى عشقها فى مراهقته بعد عشرة أعوام، وكان قد رآها قبل ذاك ممثلة على المسرح تلعب دور كليوباترا.

متحف الحب

رأى «سوسن جوهر» بعد عشرة أعوام بعيدا عن خشبة المسرح، بعيدا عن إلقائها الفاتن، وقد تأبطت ذراع رجل طويل القامة مفتول الشارب يرتدى معطفا وجلبابا وطربوشا طويلا، رآها وقد تغيرت ملامحها فتبدل هيامه حيرة وانزعاجا وذعرا.. أين كليوباترا؟

أين الملاحة والرشاقة والفتنة؟ ص 273

«وعاد متصدع الرأس محطم القلب وثبت فى نيته أن يحرق متحف الحب على إثر وصوله، لكنه ما كاد يرى الصور التى طالما ألهمت قلبه الحب والعطف والحنين، والكراسة التى اشتملت على ذكريات عشر سنين من الهيام وأثر الدموع بين الأسطر حتى عدل عن عزمه وقال لنفسه متأثرا: «كلا لن يزول هذا الأثر فإحراقه إحراق لأجمل عهد يضوع منه مسلك الشباب.. فليبق متحف الحب وليكن حبا بغير حبيبة، ثم بسط كراسة الذكريات بين يديه، وأضاف إليها بضعة أسطر كانت ختام تاريخ الحب والوهم» ص 274.

• فى موقف العاشق

وتتميز قصص نجيب محفوظ المجهولة بأنها كانت تتحرى دواخل الأبطال، وتسترسل فى الكشف عن أدق مشاعرهم إذ تتدفق فى بساطة، مصورة كيف يداهم الحب الرجال فى شيخوختهم؟ وكيف يكون وقعه على نفوسهم خصوصا إذا عشق الخريفى فتاة ربيعية؟ فهو فى قصة: «عمى حسن»، على سبيل المثال يصوِّر حيرة بطله وأزمته فيقول: «أين منى خطى الشباب وقلوب الفتيان»؟ وهل أنا إلا «عم حسن»، فماذا يقول والداها العزيزان لو علما ما جدّ فى قلبى؟ كيف يريان جارهما الرزين الوقور، وقد انقلب عاشقا ولهانا؟ بل مالى أثقل على قلبى بالتردد، والمخاوف.

فلأقل مع قلبى هذا إن الحب شىء طبيعى لا غرابة فيه، وإنه لن يكون الأول أو الأخير من نوعه، بل سأفرض أن جارى العزيز بارك بعطفه ما يختلج فى صدرى، فكيف لى بعد ذلك أن أحولها من ابنة إلى زوجة؟ وكيف أجعلها تنظر إلى عمها حسن فترى فيه حبيبها حسن؟ وضاق صدرى والتهب جبينى، وذكرت الصلعة اللامعة التى أتوج بها هامتى، والشيب الذى يحرق فؤادى، وثلاث أسنان قد قلعت، وسنة جديدة قد نفضت فأكملت مسيرى ممتلئا شجنا وكآبة ولكن هل ارعويت؟! ص 335

ويرسم محفوظ فى قصصه تلك أدق التفاصيل والمشاعر، ربما كان يرصع أسلوبه أحيانا بعبارات تفعمها الدهشة، عبارات خطابية كالتى صاغها بطله وصار يرددها بينه وبين نفسه:

«رحماك اللهم».. دون أن يصور تلك الدهشة تصويرا فنيا مناسبا، ولكنه بالتأكيد كان يلتقط بمهارة المفارقات التى تعبر عنها المشاهد بين أبطاله، وكان يصورها ببساطة أخاذة، فلم يغب عن رؤيته الثاقبة جوهر القصة القصيرة وكونها تعبر عن لحظة عميقة فى حياة إنسان، أو تصور مشهدا يختصر فى لحظات موقف أبطاله من الحياة والوجود.. حتى وهو يُحِّول أبطال رواياته ويدلف بهم من باب الرواية الواسع العامر بالتفاصيل إلى تلك الطاقة الصغيرة المضيئة التى تطل عليها القصة القصيرة فتكشف أبطالها وتسبر غور نفوسهم على ضوء شمعة! أو من فرجة باب، أو من خلال خصاص نافذة أو بين جنبات حجرة فها هو يصور بطله «حسن» فى مشهد له كثافة الإحساس بالحب الغامر، حيث غابات النفس البشرية المترعة بالنوازع والمشاعر والخلجات، وحيث يدفع الحب نفوس أبطاله لاختراق الحواجز، والاجتراء على الحياة ومداهمتها بقوة الرغبة، وعرامة الشهوة فنطالع عم «حسن» فى موقف العاشق الذى برح به الهوى، وأخرجه تهور المحب عن جمود المسن، كأن غردت فى قلبه طيور لا يعرف كيف تراقصت على الأحبال، وتسورت كيانه نزقا، وكأنه بطل قصيدة شاعر قديم يهمس لنفسه معترفا: «أُقبلِّه على فزع كشرب الطائر الفزع/رأى ماء فواقعه وخاف عواقب الطمع»!

ها هو عم حسن العاشق يصف لحظته الفاصلة للخروج من عباءة الشيخوخة إلى لحظة محتدمة عامرة تفيض بنوازع النفس البشرية.

• وثبة الحياة!

فيصوِّر ما تفيض به نفس بطله لعناق الحب والرغبة فيقول:

«تعمدت ما وسعتنى الحيلة أن أجعل لنظرتى معنى جديدا غير الذى عهدت، وأنا أحمِّل عينى رسالة من أعماق الفؤاد لأجذبها من عالمها البرىء إلى دنيا آمالى وأحلامى، ولكن هل أدركت شيئا؟.. هل بلغت الرسالة؟

أما لو كان ذلك كذلك لتولاها الارتباك، وخضبها الخجل، فهل تعثرت فى الارتباك أو غض من طرفها الحياء؟ اختلط على عينى الاختلاط، والتوهم، واصطرعت فى مجال إحساسى قوى الإدراك ونوازع الأمل، وعطفت رأسها عنى برشاقتها الحلوة فاستقر بصرى على خدها الوردى، وفى نشوتى وهيامى تجمعت وثبة الحياة الجارية فى كيانى، فى رغبة لا تقاوم أن ألثم هذا الخد، وهوى عنقى نحوها فى ذهول الوجد فلثمتها، والتفتت نحوى كالفزعة ثم ضحكت ضحكة عالية ملأ رنينها أذنى ومشاعرى جميعا، ثم طوقتنى بذراعيها وقبلتنى فى خدى! رباه كانت قبلة اقشعر لسريان برودتها جسدى فجمد دمى فى عروقى، وسكت عن الخفقان واحترق وجهى خجلا، كانت الطفلة المرحة البريئة تُقَبِّل عمها حسن..!

وكان من شأن القصة أن تنتهى عند هذا الحد البليغ، وعند هذه الجملة الفاصلة «عمها حسن»، التى بوسعها أن تتردد فى سمع القارئ ووجدانه كصيحة ألم عميقة تتردد فى نفس مولعة بالحب برّح بها الأسى وأشعلها الوجد، لكن كاتبنا على طريقته التى تسهب فى وصف وتعمق التفاصيل التى تبدو كما لو كانت مقطعا من مقاطع رواية تتنفس بين جنبات تلك القصة التى اكتملت مشهدا وحوارا وكثافة ومواقف، فتراه يقول بنفس روائى طويل على لسان بطله عم حسن: «كان مثلى كمثل مجنون عاد إليه رشاده فجأة فوجد نفسه متجردا وسط قوم عقلاء، ألا ما أبعد الشُقة بين الأفعال والنيات، ألم تلتفت إلىَّ فى رشاقة الغزلان؟!

ألم تطوّق عنقى بذراعيها؟ ألم تطبع على خدى قُبلة؟ ولكن أين من هذا كله الحب الولع؟! وشَقَّ عليّ الخجل، وشقت عليّ الخيبة، وبينما راحت هى كأنها نسيت كل شىء تروى ما شاهدت فى السينما أمس، جعلت أحدث نفسى: «رحماك اللهم! ماذا فعلت؟ أين جَلَدى؟ وأين رشادى؟ وتساءلت محزونا: ألا يجمل بى أن أشد الرحال إلى بيت غير هذا البيت؟ وحى غير هذا الحى؟ ص 336

• القلب ومغارس الأزهار!

وتأتى قصة «الكلمة الأخيرة» لتضع لمستها الواقعية على عالم الحب الساحر وفيض المشاعر فى قصص نجيب محفوظ المجهولة فتكون للظروف الاقتصادية الصعبة الكلمة الأخيرة فى قصة حب شاب وفتاة تخشى إن تزوجته أن تفقد جزءا من معاش أبيها الراحل، فتؤثر على دخل أسرتها «أمها وإخوتها» بل تضحى الفتاة بحبها تحت ضغط هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية الصعبة فالفتاة فى هذه القصة تريد أن تعمل لكى تساعد أسرتها.

ومع ذلك الواقع القاسى، والحوار المفعم بالأسى بين الحبيبين، ومس الفراق الذى يوشك أن يباعد بينهما إلا أن القصة تعمق مشاعر الفتاة فتجسد الحب كيقين يؤمن بالحياة، ويجعلها أكثر جمالا واحتمالا، حيث تأتلق لغة السرد بشاعرية ورهافة كأن كاتبنا أرهف السمع لأناشيد القلوب وقد وهبت من طاقة الإحساس ما جعلها تذوب رقة وعذوبة، وإذ بالفتاة التى أوشكت على فراق حبيبها تكشف عن ثروة من المشاعر وهى تلقى فتاها لآخر مرة: «وهكذا عدت مرة أخرى إلى «قصر النيل» كما أراد بعد أن حلفت صادقة ألا أعود إليه أبدا، وملأت عينى من خضرته اليانعة وأشجاره الباسقة، ولكن ألهانى انشغال النفس وكآبة الروح عن الانفعال بأحاسيس جماله الناضرة، ألا سقيا للأيام الماضية حين توثقت بين قلبى وبين الدوح ومغارس الأزهار، ومجارى المياه مودة حارة، وألفة صادقة حين كان يستأسرنى الحسن الساجع على شطآن النيل فلا يلهينى عنه إلا حبه هو، ويستأسرنى حبه فلا يلهينى عنه شىء فى الوجود، وحين تمثل لى لفرط سعادتى ونشوتى أنه نبض قلبى المترع بالحب والسرور الذى ينفخ فى الماء الراكد فيجرى معينا، وفى النبت الذابل فيزكو ناضرا، وفى الطير المنكمش فيسجع مترنما».

أليس هذا هو ترنم الشعراء، الكلمات التى أذكى بها نجيب محفوظ بها سرده بطاقة إحساس وشعور أثرت عالمه القصصى، ومنها هذه القصة التى كان للظروف الاقتصادية فيها «الكلمة الأخيرة»، ومع ذلك أزكت قيمة الحب فى النفوس وأعلت من الشعور فى مواجهة ألم الواقع وقد نشرت هذه القصة فى مجلة «الساعة 12» بتاريخ 24 يونيو 1943 وقد أوردها محمود على فى كتابه " قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر " , وأشار إليها عبد المحسن طه بدر فى كتابه " الرؤية والأداة " .

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز