عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (15)

تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (15)

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

من خلال استعراضنا لقصة الخلق في القرآن ومتابعاتنا لتاريخ البشرية الفعلي وكذا من خلال الأديان السماوية السابقة أو ما تبقى منها ، أصبح من الثابت المؤكد أن الله سبحانه وتعالى قد خلق آدم وذريته واستخلفهم على الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً.. }البقرة30 ، وكلفهم بالمهمة الوحيدة والفريدة التي خلقهم من أجلها وهي إعمار الأرض وهو الثابت بقوله تعالى في سورة هود {.. هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا .. }هود61 ، ومن المنطقي أن يكون أداء مهمة العبودية هي العبادات الحقيقية والأساسية التي سوف نحاسب عليها مثل من سبقنا من الأمم ، والتي نعني بها سلالات الإنس التي سبقتنا في مهمة الإعمار على الأرض ، وهو ما أوضحه الله في سورة الأنعام بقوله تعالى .. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }الأنعام133 ، وهو وعيد وتهديد شديد اللهجة والوضوح ولا يعني بقوله قوم آخرين أنه سبحانه يخص بها من سبقنا من بني آدم كما يدعي البعض لأن النشأة هنا كما تعلمنا من القرآن هي تغيير جذري في نوعية الخلق بالارتقاء لخلق أكثر دقة وتنوعا ووعيا وتكليفا ، والتهديد جاء باستخلاف الله (ما يشاء) من الخلق المختلف عن بني آدم ، وهو ما تثبته حاليا مراكز الدراسات العالية السرية والتقنية في الدول المتقدمة وتحاول دوما إخفاء نتائجه وحقائقه .



ولا شك أيضا أن بني آدم قد منحهم الله صفة (اشتهاء الجديد)  وهي الرغبة والحرص على الإتيان بالجديد (الابتداع) ، وهي صفة لازمة وضرورية لمن يكلف بالإعمار ، ولكن هذه الصفة لها القدرة على رفع الإنسان لمصاف الأفضلية على كل خلق الله لو أحسن الإنسان استخدامها فيما ينفعه (يرضي الله) ، أو الهبوط بالإنسان لأحط درجات الحقارة في خلق الله لو أساء استخدامها ، وبالقطع لا يعلم دقائق وأسرار خلق الإنسان التي تنفعه وتضره سوى الله خالقه ، والذي فرض للإنسان وعليه حوافظ متعددة تحمييه من السقوط في هاوية التدني ، فمنها ما هو (إرادي) يفعله الإنسان برغبته مكرها نفسه (طاعة لله) ، ومنها ما هو (لا إرادي) سواء ما يفعله جسده رغم أنفه ، أو ما تفعله (نفسه) دون أن يكون له فيها تدخل أو قدرة أو إرادة ، وتلك هي آثار إعجاز الله في خلقه للبشر ، فالنفس البشرية منحها الله القدرة على التغلب على أهوائها وشهواتها وفتن الدنيا ووسوسة الشياطين ، والأهم أنه سبحانه منح النفس القدرة على المحاسبة الذاتية واللوم والمعاقبة بل والتقويم والمراقبة والمتابعة وهي التي نسميها (الضمير) ، ثم وضع سبحانه بعض الحدود النفسية والجسدية التي توقف استمرار الانحراف البشري عند مرحلة معينة ، فعجبا جعل الجسد البشري للأنثى (مثلا) لا يقبل وجود الآثار الهرمونية الناتجة عن التواصل الجنسي لأكثر من رجل واحد في جسدها ، بل يبدأ جسدها في إجراءات الرفض للدخيل بمجرد ظهوره حتى يصل لمرحلة يصبح تدمير الجسد لنفسه ذاتيا هو المسيطر على سلوك الجسد الفيزيائي والكيميائي كعقاب ذاتي داخلي على مخالفة ناموس الخلق ، بل منح النفس القدرة على إصدار أوامر التدمير الذاتي للجسد وهو ما تفعله النفس في حالات خاصة عندما تتأكد من كراهية من حولها لها أو عندما يفقد الإنسان من يعتبره رفيق عمره أو حبيبه ، فيترجم الجسد هذه الأوامر بالتدمير كهربيا وكيميائيا وهو ما نراه في إصابة جسد سليم بمرض مدمر وخطير كالسرطان فجأة ودون سابق إنذار ، ولذلك يحرص الأطباء دوما على ارتفاع الروح المعنوية ورغبة المريض في الشفاء قبل العلاج المادي .

ولذلك قد يمارس الإنسان خداع نفسه سنوات طويلة من عمره في محاولة للهروب من إصدار نفسه لقرار التدمير الذاتي سريعا ، وهو ما يجعل هذا القرار حتميا إذا استمر الخداع وأصبح متأصلا في نفسه ، وهو بلا شك يعلم أنه منحرف عن الفطرة السليمة التي خلقه الله عليها .. { بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }القيامة14 ، 15، ولذلك نجد أن الخالق الكريم قد عاجل الإنسان بتنبيه وتحذير رحيم وعظيم ليطمئن ابن آدم مهما تمادى في انحرافه أنه سبحانه سيقبله ويغفر له لو تاب واستغفر واستقام وهو ما يقوله سبحانه في سورة الزمر  {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الزمر53 ، ثم ينبه سبحانه الإنسان أن يسرع في التوبة حماية لنفسه ويحذره من التمادي في سورة آل عمران بقوله تعالى    {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }آل عمران135 ، لأن التمادي يزيد من سقوط الإنسان أسيرا وضحية لخطأه وهو ما سوف يسلمه أولا لتدمير نفسه نفسيا ثم جسديا في الدنيا ، ثم يسوء مآله فيما بعد موته ، فليس الخوف من الانحراف هو من الحساب والعقاب بعد الموت فقط ، بل إن الخوف الأكبر هو دوما من أخطر حوافظ الله الفطرية في النفس البشرية والتي وضعها الله ليس للحفاظ على الإنسان فقط بل للحفاظ على ناموس الحياة بين خلقه ، ففجور الإنسان يكون دوما على حسابه النفسي والجسدي في المقام الأول ، ولذلك لا عجب أن أعلى نسب الانتحار في العالم هي في الأمم والدول المتقدمة مثل (الدول الاسكندنافية) والتي لا يؤمن أفرادها بوجود الله وقيوميته عليهم ، رغم أنهم يتمتعون بأعلى درجات الرفاهية ومعدلات الدخل في العالم .

فالاستقرار النفسي والجسدي لا علاقة له بالرفاهية وقدور الاستمتاع بمباهج الحياة بل على العكس تماما ، نجد أن أعلى معدلات الصحة الجسدية والنفسية منتشرة ومعروفة في البيئات المحدودة الرفاهية ، بل إن رفاهية النفوس والأجساد هي في الحقيقة من أخطر أعداء النفس والجسد البشري ، فسبحانه خلق الإنسان ليكد ويكدح ويتعب لإعمار الأرض ، ولذلك خلق النفوس البشرية لا يشتد عودها بالتدليل ونعومة ورقة التعامل المستمر ، بل لابد وأن تواجه مصاعب نفسية فتصبر وتتحملها وتتجاوزها متشبسة بالبقاء , وكذلك الجسد البشري والذي خلقه الله للإنسان متوافقا في أنماط أدائه مع النفس ، ولذلك فالجسد البشري لا يشتد عوده ويصبح صلبا إلا بالكد والتعب والتحمل والصبر والمثابرة ، فتجد أطول الناس عمرا وأكثرهم صحة هم من يمارسون أعمالا بدنية شاقة ، ومن يمارسون الرياضة كأسلوب حياة وليس للرفاهية والشهرة ، فتجد أكثر الناس صحة هم المقاتلون المحترفون الذين عانوا معظم حياتهم من خشونة الحياة وأفضلهم جميعا رجال القوات الخاصة في الجيوش النظامية .

ولذلك عندما تفشى بين المصريين في الجيل الماضي دعوات ورغبات الأباء والأمهات بضرورة مراعاة توفير الرفاهية لأبنائهم وبناتهم تحت مسمى (حتى لا يتعرض الأبناء لما عانى منه الوالدين من صعوبات الحياة) ، ولذلك .. لابد وأن يوفروا لهم كل متطلباتهم ، ولا يكلفوهم بأية واجبات خاصة أثناء الدراسة ، خوفا أن يشعرهم ذلك بالضيق أو الضغط العصبي أو المادي ، نتج عن هذه الدعوة والفكرة الخاطئة جيلا معظمه ضعيف النفس والجسد غير قادر على تحمل مشاق الحياة ، فتزايدت بين الشباب نسب الطلاق وفشل الزواج ، فضلا عن فشل الاستمرار في وظيفة أو حتى البحث عن عمل أو تغيير نوعيته ، فقد تربت هذه الأجيال على الأخذ فقط دون عطاء ملموس ، ورفض تحمل المسئولية ، والتمتع بممارسة النرجسية المتأصلة في النفوس منذ الصغر كحق مكتسب ، واحتراف الهدم والتشويه بالانتقاد والاعتراض دون أدنى قدرة على محاولة الفهم أو تقبل واقع الحياة أو وضع حلول أو التعايش معها ، وهو ما تترجمه صفحات التواصل الاجتماعي حاليا من عته وتخلف العقول والنفوس وانعدام الإحساس سوى بالنفس ومشاعرها الشخصية وعواطفها المتأججة في سفاهة وتفاهة صارخة ، حتى تم إسقاط كل القيم الأخلاقية والدينية من عقول ونفوس أجيال متلاحقة تخطت حدود العشق الفاضح للنفس والشهوات والهدم الأخلاقي ، بل وبلغت حدود الإلحاد بمنتهى البرود والوقاحة النفسية وصحبها فقدان القدوة والقدرة على احترام الغير ، حتى أصبح مستساغا رؤية أنثى فقدت الحياء فتكتب حروفا مجرمة أخلاقيا وتسب بالوالدين وبفواحش الكلام ويشجعها الكثير من أشباه الرجال .

وقد لا يدري الكثير من البشر أن النفوس البشرية عندما تأتي للدنيا تكون مكتملة القدرات كنفس ولكنها في حاجة للتدريب على استخدام الجسد والتأقلم بواسطة هذا الجسد مع قوانين الحياة على الأرض ، وبالتالي فالنفوس منذ أيامها الأولى على الدنيا بعد الولادة تكون مدركة تماما للمشاعر والتفاعلات النفسية المجردة ، وهو ما نراه في ردود أفعال الأطفال في أيامهم الأولى عندما تبتسم أو تعبس في وجوههم ، ولذلك تعتبر تربية الأطفال من أخطر وأهم علوم النفس التي اكتشفها الإنسان والتي لابد وأن نوليها الاهتمام الكافي لضمان نجاح عملية التربية للنفوس في إطار واضح ومحدد من الحدود كما وضعها خالق هذه النفوس .. وهو ما سوف نستعرضه لاحقا ..

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز