عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
بقوة الحب نمضي في الطريق

بقوة الحب نمضي في الطريق

بقلم : د. عصمت نصار

4)  الأخلاق  والتفكير الناقض



ينتقل الغلاييني إلى مجتمع المدرسة مبينًا مع (ي دني) أن الأخلاق المهنية هي الدستور المراد تطبيقه على كل المشتغلين بالعملية التعليمية، بداية من المعلم ومرورًا بالطلاب وانتهاءً بالعمال والخدم، فينبغي عليهم جميعًا الالتزام بالأخلاقيات والآداب التي لا يمكن فصلها عن طبيعة عملهم تلك التي تفرض عليهم الانضباط وحسن المعاشرة والرفق في التعامل واللين في المخاطبة والأدب في المحاورة. وكأن الغلاييني استشرف ما تعانيه مدارسنا اليوم من مظاهر الانحطاط (بذاءة المعلمين والمتعلمين، التحرش، العنف، التهرب من التعليم، المتاجرة  بالعلم، الرشوة، فساد البنية التربوية). فها هو يقول من أكثر من مائة عام "المدارس كثيرة، فيجب علينا أن نسعى لإصلاحها، ونبذل الجهد لإيجاد روح الفضيلة والتهذيب العالي في كل حجر من أحجارها، وكل خشبة من أخشابها. وبذلك نضمن مستقبل أبنائنا". كما يؤكد متأثرا ببدرالدين بن جماعة (1241-1331م) على ضرورة تحلي العلماء بفضائل الأخلاق وكيف لا وهم ورثة الأنبياء، ويقول في ذلك "ولست أقصد أن يكون المربي شيخًا أو كاهنًا وإنما أعني ذلك أن يكون متبعًا للحق محبا للخير والسلام، ذا وجدان صحيح وأخلاق فاضلة وعواطف شريفة، يسير بتلاميذه نحو ما يعود عليهم بالسلامة والنجاح".

ويفرق مفكرنا بين ما ينبغي على المدرسة غرسه في نفوس الطلاب من خصال ونظم وما يجب عليها اقتلاعه من عوائدهم ونزعاتهم، وذلك في حديثه عن الفضائل وأضدادها، فها هو يوضح أن العنف والاستبداد في المدرسة لا يولد الشجاعة، بل البلطجة، وأن القمع والظلم والقهر لا يضبط سلوك المتعلمين ويحببهم في النظام، بل ينمي فيهم رذيلة الغش والكذب والتحايل على القانون والجبن والرعونة. كما أن تسيب المدارس والمؤسسات التعليمية بعامة يحرم النشء ثم الشبيبة من عنصر تربوي غاية في الأهمية ألا وهو النموذج والقدوة والموجه الحكيم الذي ينبغي على المعلم أن يمثله في أذهان الطلاب ووجدانهم، أما إذا أدرك الطالب أن المدرسة لم تضف لسلوكه أو لذهنه أو لذوقه ما يعينه على تقويم ذاته ليصبح مواطنا صالحا خادما لمجتمعه ومتفانيا وصادقا في ولائه وانتمائه لأمته، فسوف يعزف عنها ويهرب منها وينظر إليها نظرة ازدراء واحتقار وذلك لأنه لا يرى فيها سوى سجنا يسوسه عصابة من الجلادين والمرتشين الجهلة، وللأسف هذا حال معظم مدارسنا وجل مؤسساتنا التعليمية، فقد وصلت درجة التسيب والفساد في معاهدنا إلى أحط مستوى يمكن تصوره، فعصبة غير قليلة من بين أساتذة الجامعة لا هم لها سوى بيع ما يسمى (الكتاب الجامعي) والقليل منهم هم الذين يعتنون بمحاضراتهم ويسعون إلى تثقيف أذهان طلابهم ورعايتهم في شتى النواحي فينقلون أذهانهم من طور الترقيم إلى طور النقد والإبداع. ولا أكون متجنيا عندما أصرح بأن عملية تقييم الطلاب بداية من اختبارات القبول للأقسام العلمية وانتهاءً بمراجعة إجاباتهم في نهاية العام لا تخلو من الإهمال والعشوائية ناهيك عن الظلم وفساد الذمم في وضع الدرجات وترشيح الأوائل للعمل بالجامعة. ومن المخجل أن نتحدث في هذا السياق عن تلك الجرائم الأخلاقية التي تصدر من القائمين على المدارس والمعاهد العلمية والمترددين عليها من الطلاب (التحرش الجنسي، السب والشتم، تعاطي المخدرات، العنف بشتى صوره، جماعات الإرهاب، التطرف العقدي، الملابس الخليعة، الترويج للنزعات الهدامة، والأفكار الشاذة) وذلك كله أضحى من الظواهر التي أصابت المعلمين والموظفين والمتعلمين على حد سواء. الأمر الذي أصاب الطبقة الوسطى المثقفة في مصر والعالم العربي الإسلامي بداء عضال حال بينها ووظيفتها التي طالما اضطلعت بها لإنهاض الأمة وتوعية الجمهور وتجديد الأفكار وتنوير الأذهان وإصلاح ما فسد في عوائدها ومؤسساتها.

ويحذر مفكرنا من طاعون الغش والخداع والزيف والكذب الذي يمكن للمدرسة أو المؤسسة التعليمية القيام به لخدمة حاكم ظالم أو تجهيل المجتمع وتزييف وعيه أو للترويج لملة أو لمذهب أو أيدلوجية أو إخفاء عيب أو حماية عصبة من الفاسدين أو ستر عجز أو تأهيل الرأي العام لسياسة تقوده للخنوع أو الخضوع لسلطة ما أو تأهيله للصبر على المذلة والرضا بالأمر الواقع وتخويفه من مصير مجهول. فيرى الغلاييني أن كل من يقوم بهذه الأفعال الخسيسة يخالف آداب المهنة وأخلاقيات العلم وينقض الرسالة التي أُنشئت من أجلها دور العلم ألا وهي تأهيل الطلاب للبحث عن الحقيقة ثم فحصها واستيعابها ونقض ما يلحق بها من زوائد وعوارض ثم التفكير في كيفية الاستفادة منها وتفعيلها لإصلاح الواقع المعيش، ويقول في ذلك "حوّل نظرك إلى تاريخ من تقدم من سلف العلماء، فترى أن مجالسهم كانت تغص بالأدباء، وتموج بأمواج العلماء: هذا يفيد وذاك يعترض والآخر ينتقد. ووجهة الكل واحدة، وهي نصرة الحق وإظهار الصحيح من قواعد العلم –اللهم إلا ما شذ عن ذلك وهم قليل-، لا يُعبأ بهم، ولا يلتفت إليهم .. الانتقاد يمحص الحقائق ويثير الأذهان ويوسع نطاق العقول ويبرز الحقيقة من خفايا الوجود بأبهى حللها وأجمل برودها ... وما المنتقدون إلا كأطباء يرون العلل وأسبابها فيعملون على تطهير البدن منها، ويصفون لها من العلاجات والأدوية ما يكون عاملا على إخراجها، وإراحة الجسم من أذاها ... لولا الانتقاد ما بعث الله الأنبياء، وعلم العلماء، وأمر الناس بإتباعهم، والاستماع لنصائحهم، إذ الغاية من إرسال الرسل انتقاد العادات والأخلاق، ليرجع الناس عما ألفوه من الباطل واتبعوه من العقائد الفاسدة ... متى وضح الحق وظهرت آياته، وجب على المنصف أن يتبعه ويقر بخطئه، أيا كان المناظر أو المنتقد، لأن الحق أحق أن يُتبع".

ولا غرو في إن الغلاييني قد طرق باب إصلاح المعاهد التعليمية، أما نحن الآن فأحوج ما نكون لفتحه لتطهير الركام العفن المتزايد خلفه. فهل من سبيل إلى ذلك؟

وينتقل مفكرنا إلى الطور الثالث من أطوار فلسفة الأخلاق التطبيقية، ألا وهو الحياة العملية في المجتمع. ويلقي على الحكومة وأجهزة الإعلام والفنانين والصحفيين وبالجملة كل قادة الرأي والمؤثرين في البنية الاجتماعية والمحافظين على النظام والسلم الاجتماعي، بداية من رجل الشرطة ونهاية بالقاضي والحاكم، فيرى أن أثر هؤلاء في هذه المرحلة هو الأكبر، فإذا وجد الطالب الذي تخرج في بيئة أسرية صحيحة ومدرسية سليمة في سوق العمل ما يتنافى مع ما تربى عليه من فضائل سوف يقوده ذلك إلى الانحراف والجنوح والشطط والجموح وإضعاف ما في سريرته من مبادئ وقيم، الأمر الذي يدفعه إلى إماتة ضميره والكفر بما تعود عليه في طفولته وسنون صباه. كما حذر من رفاق السوء الذين نشئوا في ثقافاتٍ وبيئاتٍ منافية ومغايرة للمشخصات الأخلاقية القويمة، ناصحًا الآباء والأمهات فحص أصدقاء ورفاق أولادهم ولاسيما في سن الشباب حتى لا يُستقطبوا من قبل معاند جائر أو متعصب جاهل أو فاسد فاجر. على أن يُقوّموا الأبناء في هذه السن بالنصح والتوجيه بشيء من الرفق واللين والترغيب الحاسم وفي هذا السياق يقول "يجب على القوة الحاكمة أن تبحث عن الشرور وأصحابها، وتنقب عن مواضع قتل العقل والشرف، وإهلاك الأجسام، وإتلاف الأموال، فتقفلها. وإن لم تفعل ذلك ضاع مستقبل الشبان ورجعوا بخفي حنين بعد عناء التربيتين".

ويحث مفكرنا قادة الرأي على تبصير الشباب بالمعنى الحقيقي للحرية وتفهيمهم أن احترام القوانين من شيم الأمم الناهضة وأن الشطط والمجون لا يقودهم إلا حيث يعيش السفلة والمجرمين والأشقياء.

ويختتم حديثه عن الفلسفة الأخلاقية التطبيقية بقاعدة ذهبية، ألا وهي ضرورة تفعيل العدالة في المجتمع بكل أشكالها وتطبيقاتها، فإن الشعور بالظلم هو الذي يقود الناس إلى الانحراف، ويقول "التربية الصحيحة للأخلاق والشعور، هي أساس الفضائل ونبراس التقدم، وسلم الترقي، وروح النجاح ، وأن ترقي المجتمع والأمم إنما يكون بحسب الهمم ومقدار العزائم ولا تكون العزائم القوية والهمم العالية إلا بتصحيح المبادئ وتقويم الأخلاق وذلك يكون بزرع بذور الملكات الصحيحة في عقول النابتة وتعويدهم الفضائل منذ نشأتهم حتى يكونوا رجال المستقبل، مع ملاحظتهم في دور الجهاد والعمل إلى أن يؤمن جانبهم".

ويمضي مصطفى الغلاييني في حديثه عن أسس النهضة، موضحًا أن غاية أي مجتمع من التمدن والتقدم والرقي هي تحقيق السعادة لكل أفراده، ونقيض ذلك يكمن في الأنانية والإفراط في حب الذات وجحد الأغيار. فالاستئثار بالمنفعة يتولد عنه حب التملك واغتصاب ما في يد الغير وما يتبع ذلك من سلب ونهب وانتهازية وجور واستبداد وقمع. الأمر الذي يقود المجتمع إلى التفكك ويولد الصراع بين أفراده وطبقاته وبالتالي تنعدم روح الانتماء والولاء والتعاون بينهم ويقول "حب الذات يُطلق على معنيين: أحدهما مذموم والأخر ممدوح مقبول معقول. أما الأول فهو أن يميل إلى الاستبداد بالأمر، والامتناع بالمنفعة دون غيره، ويبذل ما في وسعه وطاقته لسد أبواب الخير عن سواه، وتضحية المئات من منافع الخير في سبيل خير جزئي يعود له، أو نفع قليل يرجع إليه. فحب الذات بهذا المعنى رذيلة وحشية لا تصدر إلا عمن فقد الشعور الإنساني والمرحمة القلبية، ولبس من الهمجية ثوبا طويل الأذيال واسع الأردان. ولا أبالغ إذا قلت إن أكثر الناس قد نهج هذا الخلق السيئ، وخاض في تيار ذلك الأمر الذي كاد أن يقضي علينا أو قضى، فنزع ما في قلوبنا من الحب والشعور فاستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير."

وصفوة القول أن الغلاييني يرى أن الدواء الشافي من كل ما نعانيه اليوم هو الحب بأصدق معانيه ودلالاته التطبيقية، حب ينبع من داخل الأنا وقناعاتها الحرة بأن الفضائل والمثل العليا ليست من المظاهر بل من المخابر وأن أصولها في الطبائع ونموها في الالتزام وثمراتها في التفعيل. أجل هو الحب الذي تنكسر أمام قوته كل قوى الشر والأنانية والعنف والتعصب والتطرف والخسة والدنس والخيانة والغدر، حب عادل وحكيم يعيد للمربي حرصه على رعاية النشء وللمعلم كبرياءه ونزاهته ودربته وعفته وإخلاصه ورقته ليصعد من جديد على منبر النبوة الذي ورثه واستخلفه الله عليه، وحب يتغنى به صرير أقلام المصلحين والإعلاميين والنقاد والمبدعين لشحذ همم الشباب وإنهاضهم لتحقيق ما تسعى إليه الأمة من سعادة ورخاء وأمن وسلام.

وحري بنا أن نتساءل: هل في مقدورنا التمييز بين حب القوة، وقوة الحب في تدبير شئوننا وتوجيه سياستنا وتحقيق مقاصدنا؟؟؟

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز