عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
البحث عن الكمال فى «ثورة البحر على الجمال»!

البحث عن الكمال فى «ثورة البحر على الجمال»!

بقلم : د. عزة بدر

القصة القصيرة.. هذا الفن الجميل الذى أصبح بمثابة ذاكرة للأجيال، وحصيلة للثقافات، هو الفن الذى وصفه نجيب محفوظ على لسان إحدى بطلات «الثلاثية» بأنه «فن ماكر»، فالقصة ذات حيل لا حصر لها، وقد غدت شكلا أدبيا سوف ينتزع الإمامة فى عالم الأدب فى وقت قصير».



• أصالة الاختيار

وقد بحث نجيب محفوظ عن الأصالة، وتمرد على التقليد حتى لو كان ذلك تقليدا لأحدث أساليب الكتابة فى عصره، فقد اختار ما يوافق تجربته الإبداعية، وكان أدباء الغرب حينذاك قد تمردوا على الأسلوب الواقعى فى الكتابة واختاروا الأسلوب النفسى، أما محفوظ فقد اختار الأسلوب الواقعى، ويفسر سبب اختياره بقوله: «عندما بدأت الكتابة كنت أعلم أننى أكتب بأسلوب أقرأ نعيه بقلم فرجينيا وولف، لكن التجربة التى أقدمها كانت فى هذا الأسلوب، وقد تبينت بعد ذلك أنه إذا كانت لى أصالة فى الأسلوب، فهى فى الاختيار فقط، لقد اخترت الأسلوب الواقعى، وكانت هذه جرأة، وربما جاءت نتيجة تفكير منى، ففى هذا الوقت كانت «فرجينيا وولف» تهاجم الأسلوب الواقعى، وتدعو للأسلوب النفسى، والمعروف أن أوروبا كانت مكتظة بالواقعية لحد الاختناق، أما أنا فكنت متلهفا على الأسلوب الواقعى الذى لم نكن نعرفه حينذاك، الأسلوب الكلاسيكى الذى كتبت به كان هو أحدث الأساليب، وأشدها إغراء وتناسبا مع تجربتى وشخصى وزمنى، وأحسست أننى لو كتبت بالأسلوب الحديث سأصبح مجرد مقلد»، ثم يستطرد قائلا: «وأحب أن أشير إلى أن أسلوبى فى رواية «أولاد حارتنا» أسلوب حديث لأن التجربة نفسها كانت حديثة».

«حديث أجراه معه أحمد عباس صالح نشر فى جريدة «الجمهورية».

وأورده يوسف الشارونى فى كتابه: «رحلة عمر مع نجيب محفوظ»، 2010، المجلس الأعلى للثقافة، ص 18.

• تجربة فريدة

وقد ظل محفوظ مجددا، وفى الوقت نفسه محافظا على أصالته فى اختيار الأسلوب المناسب للتجربة الإبداعية، حتى إنه خاض تجربة الكتابة المشتركة أى مع كتاب آخرين، واختار أيضا شكل القصة القصيرة لتصبح هذه التجربة الفريدة بامتياز إرهاصا بكتابات أخرى حداثية تعنى بالإيقاع الخاص للكاتب متفاعلا مع نبض الآخرين، وبمعنى آخر أن يكون فعل الكتابة لنص أو جزء منه، يكتبه صاحبه مع آخرين لهم حق الإضافة، والتأثر والتأثير، وهو أحد أشكال الكتابة الحديثة التى شهدها الأدب العربى المعاصر فى خطوات لافتة بدأت أولا بالكتابة المشتركة، ثم تبدت طرق أكثر حداثة تعرف بالكتابة التفاعلية وهى التى تتم على الإنترنت فيكتب النص كاتب واحد ثم يتفاعل مع النص آخرون بالإضافة، والتعليق، وربما الحذف! وهو اتجاه بدأ فى الغرب منذ عقد كامل على وجه التقريب.

• الكتابة المشتركة

وفى أدبنا العربى المعاصر تجربة فريدة للكتابة المشتركة بدأت عام 1936 فى عمل أدبى مشترك لطه حسين وتوفيق الحكيم، وكان عنوانه: «القصر المسحور».. وكانا قد التقيا فى فرنسا، وكان طه حسين يسكن الحى اللاتينى، والحكيم يسكن فى حى «مونمارتر»، وكان جوهر الفكرة هو نقاشهما حول شخصية «شهر زاد» فى «ألف ليلة وليلة»، ومحاكمة أدبية للحكيم حول تناوله الأدبى لهذه الشخصية فى إحدى مسرحياته، وبدا طه حسين والحكيم مختلفين فى رؤيتهما لشهرزاد التى تبدت فى عملهما المشترك «القصر المسحور» أديبة خالدة تتابع بشغف أعمال الأدب فى كل زمان ومكان، وكان القاضى فيما بينهما هو الزمن!.. فكرة إبداعية ساحرة استهوت الأديبين فتألقا وأبدعا.

• البحث عن معنى الجمال والكمال

أما الفكرة الساحرة التى استهوت نجيب محفوظ لتكون مجالا للكتابة المشتركة، فقد كانت «ثورة البحر على الجمال»! وبطلاتها ثلاث حسناوات كان الاقتراب منهن على الشاطئ أخطر من مصارعة الأمواج العاتية التى رفُعت من أجلها رايات الخطر على الشاطئ!

وقد كتب هذه القصة نجيب محفوظ، وعبدالحميد جودة السحار، والشاعر صالح جودت، ونشرت فى مجلة «القصة» بتاريخ 5 أغسطس 1950، ونشرها محمود على فى كتابه «قصص نجيب محفوظ التى لم تنشر»، الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وكان الشاعر الراحل حسن توفيق قد أوردها فى مقالة له على أحد المواقع الإلكترونية بتاريخ 18/11/2011، لكنه لم ينشر اسم المجلة وإن كان قد ذكر تاريخ نشر القصة:

• على البلاج

وقد بدأ القصة وهى بعنوان: «على البلاج» الشاعر صالح جودت فكتب «كان البحر فى ثورة على الجمال..».

ووصف ثلاث حسناوات بأنهن فتن ثلاث تؤكد أن الخطر الذى رفعت من أجله الراية السوداء ليس كامنا فى الموج، بل على الرمل، حيث يجلسن!

وبطل القصة كاتب يبحث عن قصة يستعجلها رئيس التحرير لتنشر على صفحات مجلة، ويرى بطل القصة أنه فى تلك اللحظة أمام ثلاث قصص لثلاث حسناوات لا قصة واحدة.. وفى غمرة حيرته يفاجئه صديقه وينصحه بأن يتأمل المشهد كاملا ككاتب لا كمفتون بالجمال، وهنا يعطى صالح جودت بعدا جديدا للقصة فتتخلق عقدتها، فالحسناوات الثلاث مشغولات برجل واحد يجلس على الناحية الأخرى من الشاطئ! فيتنامى عنصر التشويق، ويتم سحب الأضواء لاكتشاف شخصية جديدة تملأ «الكادر» كله، وتصبح هى الأهم، ومما يثير الدهشة أن تنتقل الحسناوات الثلاث من المشهد الرئيسى إلى مشهد ثانوى، ويصبح الرجل الذى شغلن به هو البطل الحقيقى للمشهد لا الحسناوات، وقد تحول فى لحظة إلى رمز للبحر الذى أصبح ثائرا على الجمال، وهنا يلتقط نجيب محفوظ فكرة الرجل الثائر - الرمز ليتخلق عالم داخلى لهذا الرجل، الذى لا يقنع بنوع واحد من الجمال، وإنما تدور فى خياله تصاوير، ورؤى، وأفانين تصور له نموذجا ثريا مشتهى مغويا، يجاذب بصره وتضطرب له جوانحه، وفى الوقت نفسه يخاطب مشاعره كما اشتعلت به حواسه، نموذج قادر على مخاطبة عقله وأفكاره بصفات الأنوثة الكاملة التى تشمل أيضا صفات الحنان والفهم، وسمات الجمال المشتهى فيرسم العالم الداخلى للرجل وهو الأمر الذى برع فيه نجيب محفوظ فهو يتفرس فى ملامح هذا النسيج النفسى ويضع أمامنا فلذة حية من كيان إنسانى، ننصت إلى مشاعره ونسمع صوت نفسه، وترتسم تخيلاته فى مخيلتنا، وتصبح صورة الذات واضحة كما لو كنا نحن الذين نحلم، ونأمل، ونبحث عن نموذج كامل للجمال، وبذا يصبح الرجل - البحر رمزا للحلم بالاكتمال، بالوجود المتحقق، بالوصال المنشود مع العالم الداخلى للنفس البشرية، والوصال مع الآخر أيضا «وهو هنا يتمثل فى المرأة»، ويضعنا محفوظ أمام هذا النسيج النفسى الحائر للرجل الباحث عن الكمال فيقول: «تردد بصره بينهن دون أن يستقر على حال، تخلب لبه أحيانا السمراء الرشيقة التى تهوى بكل جوارحها الرياضة والسباحة فيوحى جسدها اللين اللدن المرن بالانطلاق والحرية، والحيوية ثم تجذبه ذات القد الرشيق والعينين الحالمتين التى تقسم وقتها بين السباحة والاستسلام للكرسى المتمدد فتسبح فى تأملاتها أو تقرأ فى كتاب، وبين هذه وتلك تسترعى نظره ذات جسم ناضج لم يرهله القعود ولا جففه الإغراق فى الرياضة. وسط فى كل شىء تذكره جلستها الطويلة على الساحل بين أطفال الأسرة بالبيت والأمومة». ثم يطورِّ حلقة جديدة من حلقات الصراع الذى يأخذ بتلابيب القصة إلى ذرى احتدامها ويطرح على قارئها لغزا جديدا، ومشكلة أخرى ترتبط أكثر بالبحث عن الكمال أو المثال، ويشكل فى خيالنا أسئلة جديدة تتوالد على مهل.. ترى على أى نحو يستقر الرجل على نموذجه المثالى؟ وأى معايير تحكمنا فى البحث عن الجمال؟ وهل حقا بإمكان المرء أن يصل إلى الكمال؟ بل ما هو الجمال المنشود على وجه الدقة؟

يطِوَّر كاتبنا مساحة الخيال والرؤية حتى يجعل بطله نفسه، يدور فى مسالك الحيرة ودروبها بلا إجابة! ويطرح حلا مدهشا وهو أن يكاشفهن الرجل جميعا بحبه، ويترك نفسه لجرأة السؤال، وغموض التجربة، وهذا الطرح هو طرح خيالى بامتياز لأنه لو حدثت القصة فى الواقع ما كان هذا الحل قابلا للتنفيذ! وكأن كاتبنا يخلص بنا إلى نوع من الإشكالية الفلسفية أو المعضلة الذهنية التى تتطلب من القارئ أيضا نوعا من المشاركة أو التفاعلية حين يضعنا وجها لوجه أمام تصورات الرجل - الرجل أو الرمز «لكل باحث عن الكمال».

وقال لنفسه: سأتعرف بهن، وإذا لم يخرجنى التعارف من حيرتى كاشفتهن بنجوى قلبى واعترفت بحبى لهن جميعا، وحيرتى فيهن، وسألتهن أن ينتشلننى من بلواى ولأنظر ماذا يكون بعد ذلك، ومهما يكن من أمرى وأمرهن فهى تجربة بارعة فى لطفها، وفيما يحتمل أن تتكشف عنه من مختلف الحلول»، وهنا تصل القصة إلى شاطئ وعر، مفتوح على احتمالات واسعة، وبدايات ونهايات شتى، بدايات لقصة جديدة توشك أن تبدأ بين الرجل والثلاث حسناوات، ونهايات منذرة إذا غضبت الحسناوات، وانتهت إشكاليات الخيال والتجربة الذهنية إلى واقع مؤلم أو عبثى «غضب الحسناوات أو انصرافهن»، أو غير ذلك من احتمالات.

فارتفع محفوظ بالخيال محلقا وهو يقول إن هذه التجربة بارعة فى لطفها»، وتركنا أمام دهشة أسئلة جديدة «ماذا تتكشف عنه القصة من مختلف الحلول؟ والمفاجآت»؟

وهنا يتدخل عبدالحميد جودة السحار فيأتى تصوره للحل مزيجا من لمسة الواقع، وأفانين الخيال الذى يريد أن يحقق الحلم الذى هو أنشودة الإنسان فى كل زمان ومكان، فيصور فتاة أخرى رابعة يفاجئها البحر بأمواجه العاتية فيحاول الرجل إنقاذها، ويخرج بها إلى الشاطئ فإذا بها النموذج الكامل للجمال، جمعت صفات الثلاث حسناوات وأكثر ويتحقق الحلم بالكمال «كانت سمراء رشيقة يوحى جسدها اللدن المرن بالحرية والحيوية والانطلاق، وكانت عيناها حالمتين، ويستشف من جسمها الرقة والحنان».

وتتحول الحسناوات فى لحظات إلى مجرد ظلال وكأنهن لم يكن فى صدارة المشهد ولغزه فالحدث الجديد «ثورة البحر على جمال آخر»، كاد أن يغرقه يصبح محور الحدث القصصى الجديد فيستلفت الأنظار، وتصبح الفتاة أو الحسناء الرابعة هى بطلة المشهد والذى أوشك بالوصول بالقصة إلى منتهاها».

«نظرت إليها الفتيات فأخذت عقارب الغيرة تنهش صدورهن فغامت الوجوه الحلوة بسحائب من الحزن، وبان فيها الأسى العميق»، وانصرفت الفتيات وتأكدت ثورة البحر - الرجل الذى ثار على الجمال المنقوص، أو المثال الذى لا يكتمل تاركا الحسناوات الثلاث فكل منهن تمثل جانبا من جوانب الحقيقة، من حقيقة المعنى الذى يتراءى فى عالم المثال، لكنه يتناثر فى الواقع كأنه ظلال أو أصداء لحلم بعيد غارق، حتى تفاجئنا الغادة الجديدة من وسط هذا الخضم، أى تجلى لنا المعنى لكن بعد جهد ومكافحة ونضال ومثابرة ومصارعة «ألقى بنفسه يندفع إلى البحر كالسهم، ويلقى نفسه فى الماء وراح يشق عبابه ويصارع أمواجه حتى إذا بلغ الفتاة التى أنهكها الجهد ضمها إليه، وراح يسبح بها عائدا إلى الشاطئ».

وهنا تكتمل الفكرة، فكرة البحر الثائر على الجمال المنقوص، البحر - الرجل الذى يشكل رمزا خالدا للبحث عن معنى الكمال، والذى لن يجده المرء إلا بعد أن يكدح لذلك كدحا، خيالا وعملا، ليحقق المرء فى واقعه ما يصبو إليه من بلوغ عالم المثال.

وربما كانت تلك الكتابة المشتركة والتجربة الفريدة إرهاصا بكتابات أخرى، ومحاولات جديدة أحدثها رواية «عالم بلا خرائط» لجبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف التى صدرت عام 1982.

ومما يثير المزيد من الأسئلة حول إمكانية تكرار مثل تلك التجارب الإبداعية، وإمكانياتها.. وهل يمكنها أن تصل بالأدب يوما إلى روايات وقصص تفاعلية بمعنى أن يشارك القارئ بها «سواء أكان كاتبا أم متلقيا»، بالإضافة والتأثر والتأثير وربما الحذف!

إنها أسئلة للمستقبل فى ظل تطور وسائل الاتصال وتأثيرها على الإبداع الأدبى .

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز