عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
رمضان كريم

رمضان كريم

بقلم : د. أحمد الديب

كعادته في كل عام ، يُقبل علينا في ذات الموعد ، لا يُخلف موعده . يُقبل كالبشير ثم يُولي في لمح البصر كالنذير . يزور كل عام فلا يُثقل . يجلب معه بركة في الأرزاق ، ورحابة في الصدور وشدة في الأجساد ، وقبساً يضيء الأرواح .



 أَقبل شهر القرآن من جديد ، لتنضبط النفوس التي ألفت الفوضي طوال عام مضي . ها هو "رمضان"  أطل من جديد ، ليمنح فرصاً أخري للتدقيق والتأمل ، للمراجعة والتفكر ، للتشخيص والتداوي .

"رمضان" ، هو هو في كل عام ، يمثل فرصة متجددة لتسمو النفوس فوق حظوظها ، فيكون نقطة انطلاق زمنية جديدة نحو الحياة المتوازنة ، تلك التي توازن بين الروح والمادة ، وبين الغيب والشهادة ، وبين العاجل والآجل علي النحو الذي يحقق سعادة بني الإنسان ، وهو ذات  المنهج الذي يتماهي مع رسالة الإسلام للبشرية جمعاء. 

في "رمضان" ، فرصة سانحة للتقييم الذاتي العام ، التقييم الذي يمكننا من أن نحدد وبدقة موضع أقدامنا علي الطريق . التقييم الحقيقي للذات و الذي هو نتاج موجات وموجات من  الصدق مع النفس ، هو التقييم الذي يتسم بالموضوعية ، فلا هو مفرطاً قاسياً فيصير جلداً للذات يدمر ولا يبني ، ولا متهاون عاطفي فيصير أقرب ما يكون إلي التدليل ، إنه التقييم الذي يضبط الهدف ، و يصحح المسار ، ويرتب الأولويات ، ويجدد العزائم ، ويبعث من جديد روح الأمل الذي يتواري في دوامات التحبيط والتيئيس .

 يحمل "رمضان"  من بين ما يحمل ، طاقته التحفيزية الاستثنائية ، والتي يمكن لها إذا اقترنت بالتقييم الموضوعي الدوري للذات أن تكون نقطة إنطلاق جديدة وفريدة.

 وعلي ذكر التقييم ، ليسمح لي القاريء الكريم أن أقيم حالنا في "رمضان" ، فمن المفترض أن يكون "رمضان" شهر طاعة ، والطاعة عبادة ، والعبادة عمل ، والعمل عبادة . أما "رمضان" الذي يعيشه المسلمون الآن "إلا من رحم ربي" فلا يتعدي مناسبة إجتماعية دينية سنوية ، ينامون نهاره ويسهرون ليله ، ما بين موائد هنا وهناك ، وخيم رمضانية ساطعة الأضواء ، ومنتج تليفزيوني أقل ما يمكن أن يوصف به أنه هزيل الصنعة إن لم يكن شديد الانحراف ، صار رمضان هو الشهر التي تتعطل فيه مصالح البلاد والعباد . بالقطع هذا ليس "رمضان" الذي أراده الله أن يكون .

 رمضان الذي أراده الله ، ها هو يزورنا من جديد ، يحمل فرصة أخري لنغير من مفهومنا عنه والذي يتنافي مع مقاصد التشريع . هناك فرصة سانحة أن نعيد التفكير في رمضان ، من كونه مناسبة إجتماعية وطقساً دينياً موروثاً ، نهاره كسل ، وليله موائد ، إلي كونه شهر عمل وسعي وصمت وتفكر ، يمتنع فيه الجسد عن بعض الوظائف التي اعتاد عليها لتسمو الروح ، تتدرب النفس علي المنع طوعاً فتصبح قادرة قوية صبورة إن مُنعت كرهاً.

نحن أمة مناسبات بإمتياز رغم أننا من المفترض أننا خير أمة أخرجت للناس ، ,والمؤسف أننا نحيا ظاهر المناسبة دون مقاصدها  ، كأنما أريد لنا أو أردنا لأنفسنا أن نكون أمة التسطيح دون التعمق ، وأمة الظواهر دون البواطن ، وأمة الكم دون الكيف ، وأمة الفهلوة دون الكفاءة ، وأمة الدعة دون العمل ، وأمة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي هو شرط خيريتنا .

ها نحن نستقبل الشهر الفضيل والأمة الإسلامية لا تزن جناح بعوضة في موازين العلم والتقدم والتحضر . ها هي فرصة سانحة أخري في "رمضان" ، أن نقف علي أسباب تأخرنا دون مجاملة أو مواربة ، فالحقائق المرة أجدي وأكثر نفعاً من الأوهام المعسولة كما أن التشخيص الصحيح نصف العلاج.

وإذا كان الإسلام دين الطهارة ، طهارة داخلية من شوائب النفس وعوالق الروح ، وطهارة خارجية كنظافة البدن والثوب وحسن المظهر والترتيب ، فقد زارنا "رمضان" من جديد ، و الفرصة سانحة لأن نشرع في مشروع  النظافة الداخلية ، فلا بغض ولا حسد ولا كراهية ولا حقد . فإن فعلنا ، يستبدلها الله إن شاء  بالحب والإيثار والعطف وحب الخير .

 في "رمضان" ، فرصة سانحة لتؤكد علي أولادك أهمية أن لا يلقوا بالمخلفات من نافذة السيارة إلي الشارع ، أخبرهم بأن الشارع لهم ، كما لهم بيوتهم ومدارسهم وأن نظافة المكان هي من الدلائل القطعية ليس فقط علي التحضر ، بل علي التدين أيضاً. بالطبع لن يستقيم نصحك لأبنائك بعدم القاء المخلفات إلي الشارع بينما أنت تفعل !.

من الذي أراد لهذا الدين أن يتمحور حول العبادات  مهملاً الحث علي أن الدين المعاملة ، وأن الدين النصيحة والتناصح ، وأن الدين التعاون ، وأن الدين حب الخير ، وأن الدين العمل ، وأن الدين أن لا تنسيك آخرتك دنياك ، وألا تشغلك دنياك عن آخرتك . وان الدين الحضارة والتقدم والرقي والنهضة . فرصة سانحة في "رمضان" أن نجدد مفهوم الدين والتدين ونمارسه طبقاً لمفهومنا الجديد  ليس فقط التجديد الذي يستهدف ذواتنا فقط ، إنما هو التجديد الإيجابي الذي يصل إلي من حولك في دوائر تأثيرك. .

ما أحوجنا إلي ذوينا وما أحوج ذوينا إلينا ، ما أحوجنا إلي زوجاتنا وأزواجنا وأحوجهم وأحوجهن إلينا . في كل مرة يخطر ببالك أن أولادك و أسرتك في أمس الحاجة إليك ، يتردد في نفسك أنك ما شغلك عنهم إلا العمل الذي هو مصدر رزقك ورزقهم ، وأن كل زيادة في دخلك هي لهم اولاً وأخيراً ، وهذه ليست كل الحقيقة.

 الفرصة سانحة في "رمضان" أن تعرف الحقيقة أولاً ثم أن تعمل بما عرفت . الحقيقة هي أنك في تقصير دائم حتي وإن شغلك عنهم العمل . فالحياة لا تستقيم إلا بالتوازن . النجاح الحقيقي هو أن تحقق بعض النجاح في كل دوائر تأثيرك ، لا أن تصل  إلي ذروة نجاحك في دائرة بينما تفشل في دائرة أخري الفشل الذريع .

 في "رمضان" وقفة مع النفس وفرصة لإعادة الحسابات في علاقتك بأولادك وأسرتك . لا تدع أطفالك يكبرون وهم بعيدون كل البعد عن عينيك . الطفل كالحاسوب الجديد الذي يحتاج إلي برامج ويندوز حتي يقوم بالعمل ذاتياً . إن لم تقم بنفسك بهذا العمل فمن يقوم به؟.

تتجلي في "رمضان" آيات الزمن. شهر في عام يمثل قاعدة انطلاق جديدة من حال مع الله إلي حال . ومن حال مع الناس إلي حال . ومن تصورات ذهنية سلبية إلي أخري أكثر إيجابية . لوتعلمون ، إننا ضحايا الجهل بالله وسوء الظن به وإنحراف تصوراتنا الذهنية عنه سبحانه . رحم الله رجلاً عرفنا بالله وبارك الله في شهر غير مفاهيمنا عن الله . وعندما نعرف أن الناس يسيئون الظن بخالقهم . في "رمضان " فرصة سانحة لكي نعرف الله حق معرفته وان نتعلم كيف نحسن الظن به . لكن البطولة تقتضي أن نعرف أنفسنا ، فمعرفة النفس هي أقرب الطرق لمعرفة الله.

في "رمضان" ، الفرصة سانحة كي  نتوجه إلي الله ونبتهل إليه أن يصلح الضمائر والعقول والتوجهات والمنظومات وأن يمن علي مصر بأصحاب الرؤي البعيدة والعقول الرشيدة والآراء السديدة وأن لا يحرمنا من نعمة الوطن والتي هي من أعظم النعم.....ورمضان كريم.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز