عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
وحوي يا وحوي .. رمضان بالمصري (1)

وحوي يا وحوي .. رمضان بالمصري (1)

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

حقا .. أن شهر رمضان في مصر له عبقه الخاص ورونقه الشديد الخصوصية والروعة ولا مثيل له في أي مكان في العالم أجمع سواء شعبيا أو دينيا ، فللمصريين قدرات أيدولوجية خاصة قادرة على خلط التاريخ الديني بالشعبي عبر تاريخهم الطويل والعريق في جذور الزمن والخروج بمظاهر احتفال وتخليد عبقرية مبهجة تحمل التاريخ لتذكر به الأجيال عبر الزمان ، وهي هبة عبقرية توارثتها الأجيال المتعاقبة منذ هبوط (مصراييم) حفيد نبي الله نوح إلى هذه الأرض ليكون أول من يسكنها بعد الطوفان العظيم ليعمرها هو وذريته من بعده وحتى يوم القيامة ، وبالتالي لم يكن مدهشا لي أن أكتشف أن أغنية (وحوي يا وحوي .. إياحة) كانت أغنية ترحيب شعبية فرعونية رددها المصريون للترحيب بصاحبة الفضل في تحرير مصر من الهكسوس الملكة (إياح حتب) وأم الملك المنتصر قاهر الهكسوس (أحمس) ، تلك الأغنية أصبحت ببساطة وعبقرية تاريخية أشهر وأجمل ترحيب برمضان شهر الصيام ليس في مصر فقط بل وفي العالم العربي والإسلامي ، والتي أصل معناها (مرحبا .. مرحيا .. بمليكتنا .. إياح).



ومنذ دخول الإسلام لمصر على يد عمرو بن العاص ، وللمصريين مع شهر رمضان طقوس خاصة واحتفالات لها قدسيتها ورونقها المبهر والرائع ، رغم أن المصريين قد دخلوا الإسلام عبر أكثر من 500 سنة بعد فتح مصر على عمرو بن العاص ، وهو ما يؤكده المؤرخون وتسطره كتب التاريخ العربية والغربية بأن نسبة المسلمين بعد 100 عام من فتح مصر لم تتجاوز (20%) من الشعب المصري ، ورغم ذلك كان لرمضان بينهم شأن مختلف في كل مظاهره فبالبحث مثلا في تاريخ (الكنافة والقطايف) وجدنا تأكيدا أن المصريين صنعوها تكريما لعمرو بن العاص عندما عاد ليحكم مصر في المرة الثانية في عهد معاوية بن أبي سفيان ويومها كان أكثر من 80% من المصريين على ديانتهم المسيحية ، والتي تنازلوا عنها طواعية عبر أكثر من خمسمائة عام لم يذكر فيها يوما أن المسلمون أجبروا شخصا واحدا على ترك دينه مثلما فعل الرومان أو الأوربيون من قبل أو حتى من بعد مع المسلمين أنفسهم ، ولذلك كان المصريون أكثرا احتراما بل وعشقا وابتداعا لما يثري ويخلد طقوس المسلمين ، وتطورت مظاهر رمضان على مر العصور ، فكان لكل عصر إضافاته من سماته وعاداته ومظاهره الخاصة به ، منها ما استمر وبقي ومنها ما اندثر وأصبح في طي النسيان ، ومن مظاهر استقبال شهر رمضان يقول المؤرخون أن الحكام المسلمين لمصر كانوا يحظرون فتح قاعات الخمور أو بيع المسكرات خلاله ، وقد خرج أول قاضي لرؤية هلال رمضان وهو القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الذي ولي قضاء مصر في عام 155هـ ، وخرج لنظر الهلال ، وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته ، حيث كانت تُعَدُّ لهم دكّة على سفح جبل المقطم عرفت بـ " دكة القضاة " ، يخرجون إليها لنظر الأهلة ، وفي العصر الفاطمي بنى قائدهم بدر الجمالي مسجداً على سفح المقطم واتخذ من مئذنته مرصدًا لرؤية هلال رمضان ، وفي القرن الثالث الهجري اهتم أحمد بن طولون بأمر العمال خاصة في رمضان ، فكان يكرمهم ويجزل لهم العطايا ويصرفهم مع آذان العصر .

 وفي العصر الفاطمي بمصر كان القضاة يطوفون بالمساجد في القاهرة وباقي الأقاليم ، لتفقُّد ما تم إجراؤه فيها من إصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل استعدادا لشهر رمضان ، وقد أهدى الخليفة الحاكم بأمر الله  في القرن الخامس الهجري أروع " ثريا " في عصره إلى مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط والتي كانت تزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة (تساوي طنا واحدا) ، وكان يوقد به في ليالي المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل ، وكان الجامع يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض ، وما إن ينتهي شهر رمضان حتى تُعاد تلك الفرش والثريا والقناديل إلى مكان أعد لحفظها فيه داخل المسجد ، كما أن الدولة في ذلك الوقت كانت تخصص مبلغًا من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر الصوم ، وكعادة المصريين تنشط أسواقهم بالمناسبات الكبرى ، فقد كان سوق الشماعين بالنحاسين من أهم الأسواق خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين ، فكان به في شهر رمضان موسم عظيم لشراء الشموع الموكبية التي تزن الواحدة "عشرة أرطال" فما دونها، وكان الأطفال يلتفون يوميا حول إحدى الشموع وبأيديهم الفوانيس يغنون ويتضاحكون ويمضون بموكبهم المنير في الحواري من بعد الإفطار حتى صلاة التراويح ، أما عن " سوق الحلاويين " الذي كانت تروق رؤيته في شهر رمضان ، فكان من أبهج الأسواق ومن أحسن الأشياء منظرًا ، حيث كان يصنع فيه من السكر أشكال خيول وسباع وغيرها تسمي " العلاليق " ، وكان هناك أيضًا سوق السمكرية داخل باب زويلة " بوابة المتولي بالغورية " ، فيعجُّ بأنواع " الياميش و"قمر الدين " ، وكانت وكالة " قوصون " شارع باب النصر التي ترجع إلى القرن الثامن الهجري مقر تجار الشام ينزلون فيها ببضائع بلاد الشام من الزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخروب ، ولما خربت وكالة قوصون في القرن التاسع انتقلت تجارة المكسرات إلى وكالة مطبخ العمل بالجمالية ، وكانت مخصصة لبيع أصناف النقل كالجوز واللوز ونحوهما ، كما كان يتم عرض أنواع الحلوى مثل "القطايف" و"الكنافة"؛ واللتان كانتا موضع مساجلات بين الشعراء فجلال الدين السيوطي له رسالة عنوانها : " منهل اللطايف في الكنافة والقطايف " .

ولم تكن مظاهر الاحتفال وما يقدم على الموائد فحسب ، بل كان لها تقاليد رسمية ، فقد كان الخليفة يخرج في مهرجان إعلان حلول شهر رمضان من باب الذهب "أحد أبواب القصر الفاطمي"، متحليًا بملابسه الفخمة وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة  ، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المطعمة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملونة ، وأمامهم الجند تتقدمهم الموسيقى ، ويسير في هذا الاحتفال التجار صناع المعادن والصاغة ، وغيرهم الذين كانوا يتبارون في إقامة مختلف أنواع الزينة على حوانيتهم فتبدو الشوارع والطرقات في أبهى زينة ، وكان موكب الخليفة يبدأ من بين القصرين "شارع المعز بالصاغة الآن" ، ويسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح " أحد أبواب سور القاهرة الشمالية " ، ثم يدخل من باب النصر عائدًا إلى باب الذهب بالقصر ، وفي أثناء الطريق توزع الصدقات على الفقراء والمساكين ، وحينما يعود الخليفة إلى القصر يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن الكريم في مدخل القصر ودهاليزه ، حتى يصل إلى خزانة الكسوة الخاصة ، فيغيِّر ملابسه ويرسل إلى كل أمير في دولته بطبق من الفضة مملوء بالحلوى ، تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية وتوزع الكسوة والصدقات والبخور وأعواد المسك على الموظفين والفقراء ، ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عاداته ، فإذا ما انتهى من ذلك أمر بأن يكتب إلى الولاة والنواب بحلول شهر رمضان ، وكان الخليفة الفاطمي يصلي أيام الجمعة الثلاث : الثانية والثالثة والرابعة على الترتيب التالي الجمعة الثانية في جامع الحاكم والثالثة في الجامع الأزهر ، أما الرابعة التي تعرف بالجمعة اليتيمة فكان يؤديها في جامع عمرو بالفسطاط ، وكان يصرف من خزانة التوابل ماء الورد والعود برسم بخور الموكب والمسجد ، وعقب صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان يُذاع بلاغ رسمي عرف بسجل البشارة ، وآخر ليلة من الشهر الكريم كان القراء والمنشدون يحيونها بالقصر الشرقي الكبير والخليفة يستمع من خلف ستار، وفي نهاية السهرة كان الخليفة ينثر على الحاضرين دنانير الذهب .

وببداية العصر المملوكي في مصر كان لاستقبال شهر رمضان نصيبا كبيرا من رونق المراسم ومناسك الاحترام والتقدير وشعائر الاستقبال على أيدي جنود وملوك وولاة المماليك حتى أصبح رمضان للمصريين موسما للتمتع بمشاهد الاستعراض العسكري المملوكي والمصحوب باستعراض للحرف والمهن والصناعات في مختلف المجالات ، يتبعها متعة حقيقية متجددة على مدى شهر كامل من الكرم والجود والتسامح والرحمة والعناية بالفقراء والمساكين ، والتمتع بشتى ألوان المأكولات والحلويات والموائد .. وهو ما سوف نستعرضه لاحقا ...

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز