عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
وصية حمار (8)

وصية حمار (8)

بقلم : د. عصمت نصار

بين العلم الفلسفة



عاد المؤتمرون إلى  قاعة المحاضرات، بعد انصرافهم عنها لبضع ساعات، قضاها معظمهم بين تناول طعام الغداء وأداء السجود والركعات، والتحاور حول ما فات من الكلمات، وتقييم الأبحاث وتبادل الرأي حول جودتها وجدة المداخلات والنقدات.
وعلى الفور جلس جحا على المنصة الرئيسية، واستأذن المؤتمرين وطلب منهم حسن الإصغاء لحديث المفكر راشد ضياء عن مكانة الحمار في الدوائر والمباحث الفلسفية.

وقال جحا: إنه موضوع شائك يحتاج إلى خلفية ثقافية، عن حكمة الحضارات الشرقية والغربية، التي تأثرت بالفكر السائد ففسرت وبررت، وكذلك استوعبت آراء الجانحين والشاطحين والمصلحين فثارت وغيرت، وطورت العقلية الإنسانية.

دكتور راشد ضياء: السيدات والسادة كلنا نعرف أن المصادر الفلسفية، وعلى الأخص في الحضارات الشرقية، تُستخلص من الديانات والموروثات الشعبية، والأساطير والحكم العقلية. فلم ينصف التاريخ المصري القديم حبيبنا الحمار، ولم ترفعه الأساطير إلى درجة المعبودات الأخيار، بل حشرته ضمن حكايات قوى الردع في أساطير "ست" و"بس" والعصاة والأشرار. ولكن الأبحاث الحديثة ذكرت أن صورته عند المصريين كانت تلقى كل تبجيل واحترام، فجهده وعونه للمزارعين والمسافرين لا ينكره إلا اللئام، أما السيرة الرضية والأفعال الغبية، فتنسب للحمار في سيرته الوحشية والبربرية. والخلاصة أن الموروثات المصرية والشرقية، لم تنظر للحمار على أنه شخصية محورية، ولاسيما في القضايا الفلسفية.

وقد عبّرت الشذرات القليلة في الفلسفة اليونانية، عن الحمير بنظرة مادية ونفعية، تلك التي دفعت معظم الفلاسفة إلى احتقارهم واعتبارهم من الحيوانات الأليفة الغبية، التي لا تصلح إلا لأن تكون مطية.

وإذا ما انتقلنا إلى الفلسفة الرواقية، سوف نجد فيلسوفها الأشهر "كليانتس" قد لُقب بالحمار لعظيم أفكاره الأخلاقية، ولما عُرف عنه من الطيبة والتسامح والإخلاص في الدعوى للوحدة الإنسانية، والصبر والجلد وقوة الإرادة والعقلية الموسوعية والذاكرة الحديدية، ومحاربته للشهوات الجسدية، وإيمانه بالعناية الإلهية، وخيرية القدر وعقلانية الإله وحكمته الأزلية، وكان لا يغضب من لقبه مرددا أنا ذلك الحمار الأجدر والأقدر على حمل تعاليم زينون الفلسفية، وقد أثرت كتاباته وقصائده الروحية في الفكر الأخلاقي والترانيم المسيحية.

وإذا ما انتقلنا إلى أشهر الكتب التي تحمل اسم حبيبنا الحمار في ميدان الفلسفة، فإننا سوف نجد كتاب "الحمار الذهبي" الذي ألفه أبوليوس الأمازيغي (125-175م) وهو من أوائل الكتب الأدبية الرمزية المؤلفة. وهو كتاب عجيب، جمع بين العلم والخرافة والترغيب، في عمل الخير والتحذير من الشيطان والشرور والترهيب. وقد صيغ على شكل رواية بطلها حمار كان في الأصل إنسان، أراد ذات يوم أن يصعد إلى عالم الآلهة والسعادة الأبدية ليتخلص من دنيا الهموم والأحزان، ولكنه تحول إلى صورة الحيوان، بعد شربه شرابا مسحورا أو تناوله دهانا محظورا على الإنس والجان، أحضرته له محبوبته "فوتيس" دون دراية منها بحقيقته أو خبرة أو عرفان، وتمضي الأحداث ذاق فيها الحمار المسحور، كل ألوان القسوة والعذاب والإهانة من قبل الإنسان الذي فاق كل المخلوقات في تفننه في الأذى وفعل الشرور. وقد أدرك الحمار خلال معاشرته للبني آدمين، مدى انحطاطهم، وتجبرهم وغرورهم وسفالتهم وحمقهم، وانتهى إلى أن مكانهم في العالم يجب أن يكون في أسفل السافلين، ولم ينقذه مما هو فيه إلا الربة إيزيس، التي أشفقت عليه وعرفت أن روحه الطاهرة قد ضلت سبيلها فوقعت في جسد البهائم بين قساة القلوب ونفوس الأباليس. وقد أراد المؤلف من هذه الرواية، التهكم على أخلاقيات المجتمع الروماني وعوائده التي سوف تقوده إلى أسوأ نهاية.

ورغم ذلك لم تتبدل نظرة الفلاسفة لحبيبنا الحمار واتهامه بعدم الفهم والغباء وقلة الحيلة، حتى جاء الفرنسي جان بوريدان (1300-1358م) ليثبت العكس بتجربة علمية أصيلة، برهن فيها على أن الحمار صاحب رأي وموقف وقدرة على الاختيار بين ما ينفعه وما يضره، ويميز أصدقاءه عن الأغراب ويحنو إلى من يطعمه ويحبه، ومن يقمعه ويسبه، ولا يرحمه إذا كانت صحته عليلة.

وقد أكدت الأديبة "كونتيسة دي سيجور" (1799- 1874م)، في مؤلفها المغمور، (خواطر حمار) الذي عدل التصورات والآراء والأفكار التي كانت بالرأس تدور، حول عقلية حبيبنا الحمار وفلسفته الناقدة، وتصريحاته التي لم يعبر عنها إلا في نظراته الساخرة المتمردة، التي جمعت بين الأسف والحسرة على ثقافة الإنسان التي استملحت السفالة والوضاعة وعن الحق والخير والجمال باتت شاردة، إذ نجحت المؤلفة في ربط الحمار بالعديد من الصفات الإيجابية كالذكاء والعلم والتواضع والطيبة، وذلك عوضا عن البلادة والجهل والعند والحمق وغير ذلك من الصفات المذمومة والطباع الغريبة، ويحتوي الكتاب المذكور، على أربعة عشر فصلا جميعها يحكي ويدور، حول شخصية البطل "كديشون" الحمار العالم المعروف بالتواضع والمنزه عن الغرور. وهي أقرب لمذكرات ناصح صاحب دربة ودراية، قد عاشر المجتمع الإنساني ووضعه في دائرة النقد ثم عكسه على المراية، ليثبت أن اللين والإحسان، هو الطريق الأصوب لتربية الصغار جحش كان أو إنسان، وأن الغباء والذكاء في الحكم على العقول نسبيان، فالخبرات والمعارف بحر بلا شطئان، وأن التعصب لغير الحق اليقين، لا ينجم عنه سوى البور والعنف والتخلف واستبداد مكين، يحجر على العقل ويحرمه الموازنة والمفاضلة والاختيار والفصل بين المؤيدين والمعارضين. والكتاب في مجمله يعبر عن ثورة العقل المستنير، على تلك الحملة النكراء على الأتان والبغال وكل فصيلة الحمير.

ولعل الشاعر والروائي الفرنسي فيكتور هوجو (1802-1885م) هو أكثر الفلاسفة والأدباء دفاعا عن الحمار، إذ أفرد له 65 صفحة في قصيدته الحمار باسيانس التي كانت موضوعا لعشرات  الندوات والأسمار، إذ وصف فيها أبا الصابرين بأنه أبرع من كانط وأنه محاور جيد وفيلسوف عظيم ينطق بالحكمة ويكشف عن الأسرار، وحذر السامعين من تعصب رجال الدين والأحبار، ومراوغة الساسة وتجار الأفكار، وبين أن نجاة العالم في تنقية الأنفس من الأحقاد ومعاقبة الأشرار. وأوضح أن الفضائل ليست حكما محفوظة كتبها أفلاطون عن أستاذه سقراط، بل هي فعل وسلوك يؤمن به الإنسان ويسير عليه من الميلاد إلى الممات، وقد برهن على نبل أفعال الحمار بقصته مع الضفدعة، التي أبى أن يدهسها وعربة كان يجرها بعجلات أربعة، وتوقف عن السير وتحمل الإهانة والضرب من راكبها، حتى لا يصيبها بضرر أو بقدميه يؤلمها، إلى أن بلغت المسكينة مأمنها.

وقد نجح المؤلف في الربط بين صديقنا الحمار، والفصل في الكثير من القضايا التي لا تتحمل التأجيل أو الانتظار، مثل قضية علاقة العلم بالدين، وضرورة الجمع بين السياسة والأخلاق في مشروعات المصلحين.

وفور انتهاء المحاضر من كلمته طلب الدكتور محمود عبدالمنعم التعقيب والمداخلة، فسمح له رئيس الجلسة نظرا لعلو مقامه ويقينه بأن في مداخلته إضافة مؤكدة.

الدكتور محمود عبدالمنعم: كلنا نعرف أن الفلسفة كانت أم العلوم العقلية، وأن أبحاثها الميتافيزيقية هي التي أقعدتها عن مواكبة المعارف العلمية، وذلك في العصر الوسيط في أوروبا المسيحية، أما في عصر النهضة والتنوير، فتبدلت أحكامها على عديد من القضايا ومنها نظرتها إلى البيئة وتقييمها للموجودات المعايشة ومنها الحمير. وسوف أقص عليكم في عجالة الكثير من الأسرار، عن القدرات البدنية والطبيعية والذهنية التي يتميز بها الحمار، وكانت وراء تحول الفلسفات والأفكار، وإقلاعها عن وضع حبيبنا في قوائم الدواب المنكرة والبليدة والمحتقرة من الأغيار، فأصلحت ذلك بانتخابها له ليتصدر صفوف الشطار والأخيار، على مر الدهور وفي كل الأمصار.

فيتميز أبو الصابرين بالقوة والفحولة فيستطيع الإنجاب وهو في الرابعة، أما زوجته الأتان فتستطيع الحمل في الثالثة وبعد إحدى عشر شهرا أو يزيد تصبح مرضعة، أما الجحش فيبلغ وزنه عند الولادة أربعة عشر من الكيلوات، وهو أربع أضعاف الطفل الذي تنجبه الآدميات، وللجحش من العزيمة والهمة القدر الذي يمكنه من الوقوف والسير بعد ساعة واحدة من الميلاد، الأمر الذي لا يقارن بحركة الآدميين من البنات والأولاد، ويستطيع الجحش الاعتماد على نفسه، في سد حوائجه في الشراب والطعام بعد ثلاثة أيام من الولادة وأمه ترضعه، وإذا وطأ الحمار فرسة فينتج بغلا، وإذا وطأ الحصان أتان تنجب نغلا، ويستطيع الحمار البالغ حمل على ظهره نحو ثلث وزنه من الأثقال، وجر ودفع أضعاف ذلك من العربات والبضائع والأحمال، ويصبر على العطش والجوع في الفيافي والصحاري، ويرضى بالقليل، ويقنع بالضئيل، ولا يمل العمل في لهيب الصيف وصقيع البراري، وإذا ما قورن بالإنسان والحصان فصوته هو الأعلى، وبصره هو الأقوى، وسمعه هو الأرهف، وصلابة عظامه هي الأنشف، وذاكرته هي الأحد، ورفسته الأشد، وهو في المواقف الصعبة أحذر، وفي التعرف على الأشخاص والأماكن أشطر، أما عمره فهو أقصر، وهو مكير بلا خباثة، وذكي لا يطمع في الملك أو الرئاسة.

وصفق جميع الباحثين لعمق حديث الفيلسوف وغرابة وطرافة تصريحات العالِم، وردد معظمهم حقا إن معرفتنا بعالم الحمير قبل هذه الندوة كانت مشوشة وحكمنا عليهم كان جائر وظالم. ولم يمضي من الوقت إلا بضع دقائق، حتى أعلن رئيس الجلسة بصوت مرتفع وأسلوب جاد ولائق، بضرورة سرعة الإجراءات، الخاصة بالنقض والتقييم وكتابة التوصيات.

فاقترح أحدهم طبع حصاد جميع الجلسات، وترجمته لعديد من اللغات، ومكاتبة جميع الهيئات، الدولية والمؤسسات، لإصدار قانون لحماية حقوق الحمير وصيانة كرامتهم وتجريم قدحهم ووصفهم بالشتائم والبذاءات، وتغليظ في ذلك الغرامات والعقوبات.

واقترح أخر إنشاء مستشفى خاص للبغال والنغال والحمير، بالمجاني وتعيين الأكفاء فيه من البيطريين وإدارته على أحدث النظم والتدابير، وتشييد متحفا تجمع فيه أثارهم المادية، وأخبارهم الثقافية، وأخر ما كتب عنهم في المباحث الفلسفية والأبحاث العلمية.

أما جحا فقد جلس منفردا في مكان قصي لمراجعة وقائع الجلسة الأخيرة وصياغة ورقة التوصيات ثم راح يحادث نفسه تراني أديت الرسالة ووفيت بالوعد، وهل كل ما قيل في حق صديقي الحمار من خلق وإخلاص في العمل يمكن أن يصعد به إلى سلم المجد، وهل الحضور أدركوا عظمة مكانة أبي الصابرين في حياتنا الهزلية التي سادها العبث والسخف والهذر وفاق كل حد، وهل يمكننا تفعيل اقتراحاتنا وتوصياتنا ونقلها من طور الخطابة واللعب إلى ميدان الحسم والجد؟، وهل في مقدورنا استيعاب أن هذا المؤتمر ثورة من أجل التقويم والتغيير، لتلك النظرة السائدة الغبية التي تنظر إلى الصابرين والطيبين والمسالمين والقانعين على إنهم بغال ودواب تضرب بالعصا شأن الحمير، وسوف يظل هذا السؤال مطروحا أمام العقول فإجابته تحتاج إلى تخطيط وتدبير.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز